إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 23 فبراير 2017

السينما كلغة .. لا لا لاند نموذجا

ما هو الجديد في السينما؟ الإجابة بالتأكيد ليست الصور، فالصور هي جزء من المخيلة الإنسانية التي حركت الآداب الأقدم كالرواية، والشعر. تحوُّل خيال الفنان إلى صور حية هو مكون أساسي في السينما ولكنه ليس جزءاً جديداً، وفي هذا المجال يمكن للسينما أن تهزم بسهولة أمام أعمال روائية عديدة.

على سبيل المثال، من المستحيل للسينما أن تنتج الصور الموجودة في رواية كـ «مئة عام من العزلة». الجديد في السينما هو العكس: قدرتها على تحويل الصورة إلى لغة، تحويل الصورة إلى معانٍ تستحيل كتابتها.

الخميس، 16 فبراير 2017

إمتياز الوجود في الهامش: التقدميون و المجتمع

ماذا إن كانت الفكرة التي يمثلها "داعش" ــ وكل الأصولية الدينية ــ هي تنويعة جديدة على خط عبارة روزا لوكسمبورغ المعروفة: «يقف المجتمع البرجوازي على مفترق طرق: إما أن يتحول إلى الاشتراكية (تقرأ في عالم اليوم المؤدلج «العدالة الاجتماعية») أو أن ينحسر نحو الفوضى»؟
تعرّض مجتمع الطبقة الميسورة في الخرطوم لهزة عنيفة، في العام الماضي، عندما قرّر عدد غير صغير من طلاب أفضل جامعة خاصة التخلي عن مستقبلهم الباهر، والرحيل إلى العراق وسوريا للانضمام إلى "داعش".

كيف تُهْزَم الأيديولوجيا؟

نحن ــ كشعوب أو كطبقة من الكادحين المظلومين إن شئت ــ نمثّل التبدي الاجتماعي للّاشيء. ليس لنا أحزاب تمثّلنا، ولا مؤسسات اجتماعية تنظّمنا، ولا خطاب مستنير يحركنا، وبطبيعة الحال ليس لنا «مشروع» يمنحنا اسماً ومستقبلاً. نحن لا شيء. ولذلك فإننا نتحول لمواضيع للقمع والتهجير والمذابح وغيرها بسهولة.
حالة الضعف هذه تجعلنا، كمثقفين شباب، أمام خيارين: إما أن نسعى لإعادة إنشاء كل شيء من البداية، أو أن ننخرط في «اللعبة» كما هي. الخيار هنا ليس بين «البراغماتية»، الواقعية والذكاء السياسي، والثورية. لأن خسارة المعارك قبل أن تبدأ ليس ذكاءً ولا واقعية. الخيار هو بين البقاء في القاع والتقدّم.
 
وما أن نختار طريق بناء مستقبلنا من البداية، حتى نجد أن أمامنا أيديولوجيا صلبة تنتمي إلى الواقع الراهن وتحافظ عليه. هذه الأيديولوجيا يجب تفكيكها تماماً، وعلى أنقاضها فقط يمكن بناء خطاب تقدمي يجعل الحراك السياسي الجذري ممكناً. وهذه العملية التي يمككنا أن نسميها «نقد الأيديولوجيا» ليست من ترف الفكر والتنظير، هي خطوة أساسية يجب أن تتم بكامل الجذرية والحسم. وسأحاول في هذا المقال أن أستعمل كلمة «العَلمانية» كمثال للأثر الذي يمكن أن تلعبه الأيديولوجيا في المجتمع، بحيث تقوّض الخطاب التقدمي قبل أن يبدأ. وسأحاول أن أشرح عبر هذا المثال الضرر الجسيم الذي يحدث حال محاولتنا تفادي المواجهة مع لا عقلانية الأيديولوجيا الحالية. لكن علينا أيضاً أن نتذكّر دائماً أن خوض المعارك الأيديولوجية ليس فعلاً بطولياً أحمق، ولا معركة جانبية لا قيمة لها وستنتهي في الغالب بالخسارة، بالعكس، الخسارة هي النتيجة الحتميّة لكل محاولات الهروب من التأسيس الذي يبدأ بعقول الناس ووجدانهم. أنت لن تستطيع أن تغيّر ما بقوم حتى تغيّر ما بأنفسهم.

الاثنين، 13 فبراير 2017

ما هي الحداثة؟

ينشط في منطقتنا تياران معاديان للحداثة. تيار الأصولية الدينية الذي لا يرى في الحداثة إلا تهديداً لكل أسباب وجوده، وهو محق في ذلك، وتيار الحداثة البديلة الذي يرى أنه لا توجد، بالفعل، حداثة واحدة، بل حداثات، وإن ما يطلق عليه الحداثة، تعريفاً بالألف واللام، ليس سوى تجسداً للمركزية الأوروبية، وهي ليست إلا حداثة غربية، يدفعها الغرور كي ترى نفسها على أنها الحداثة الوحيدة. وقد استهلك هذا التيار القوة التحررية في داخل مدرسة (ما بعد الاستعمار) وجعلها كالأصولية الدينية، تتحول إلى رد فعل دفاعي، يهدف للبحث عن "الأصول" والفرادة الحضارية، ويرفض الكوني، العالمي، والمطلق Universal. 

لا نحتاج أن نطرح مشروع الحداثةعلى الساحة بصفته الضد لهذه التوجهات فقط، بل علينا، كذلك، أن نعرِّفه، وأن نخلق في داخله مستقبلاً خاصاً، لا يهتم لهذه الحلقات، لأنه يتحرك في مجال أعلى منها. أن نقحمه بصفته الجذرية الكونية في معادلة القوة العالمية، وأن نستعيد قوة التحرر في داخله، قوة التحرر التي تحركها الرغبة في الحياة، ولكنها تحمل في داخلها، بالضرورة، استعداداً للموت. 

هل رأى غوستاف مالر الله من جديد؟

في نهاية الحركة الرابعة من سيمفونيته الخامسة، المقطع الأشهر و الأكثر رواجا لمالر، يظهر الدافع الموسيقي في هيئة رجل يقف على أرض منبسطة بيضاء، و بينما كان هو قد فقد كل إتصال مع "الآخر"، تخرج الشمس، لطيفة في البداية، نورها بارد ينزل على الجلد، مثل عودة شيء كان قد ضاع، ثم بعد ذلك كشيء صارخ، طاغ، و لكنه محبب. مالر، الذي كان في سيمفونيات سابقة يركز على الموت الجنائزي و يتذمر منه، عاد هذه المرة و معه الشمس.

في رسالة تركتها، ألما زوجته، توجد قصيدة مقتضبة كتبها مالر لها:

كم أحبك، أيتها الشمس، التي لي

لا يمكنني أن أخبرك ذلك عبر الكلمات.

أستطيع فقط 

أن أبعث لك كرثاء توقي و إشتياقي لك 

و حبي، و كل النعم.

الرسالة التي تبدو و كأنها إجابة على جزع شوبان من أن يدفن. إن كان مالر يستطيع أن يخاطب زوجته، برسالة حب يقدمها كمرثية لنفسه التي ماتت، فإن بإمكانه ألا يقلق مثل شوبان من أنه سيكون حيا بعد أن يدفن. هو يعرف أنه سيكون حي مثلما هو حي الآن. أما الحب، الذي هو الشمس، فهو ذلك الإطمئنان، الثقيل، الذي سوف يظهر بعد الموت، مثلما هو موجود قبل الموت، و هو الأبدية. شوبان لم يفهم أن الحياة التي سوف تأتي بعد الموت هي حياة يمكننا أن نشعر بها من الآن، أن نرى أنها نتاج دخولنا في فضاء المعنى، تحولنا إلى جزء من معنى، لا يموت، و أن نطمئن إلى أنها مثل شمس الحب، هي إكتشاف لأبدية نتجت من وجودنا الحالي.

كل ذلك سيجعل مقدمة "غناء العزلة ضد العزلة"، التي نعبر خلالها عادة كأنها مجرد تشوش جميل، سيجعلها واضحة جدا:

الإبداع كسلاح ثوري... أو لماذا يجب علينا أن نتخلى عن شعار إسقاط النظام؟

سيكون علينا أن نعيد إكتشاف التعقيد. كلما هجم علينا الواقع، و ممثلوا الواقع، بدغمائيتهم البسيطة: "يجب أن ندافع (فورا) عن المظلومين"، "يجب أن نتبرع أو نتصدق للفقراء (فورا)"، "أنت لا يمكنك أن تقف أمام كل هذا بلا حراك!" إلخ. علينا حينها، و تحديدا لكي نحافظ على درجة من الدفء الثوري في قلوبنا، علينا أن نظهر أقسى درجات البرود: "عفوا، و لكنني سأفضل أن لا أفعل أي شيء، دعوني، لو سمحتم، أفكر قليلا...". في هذا المستوى فإن المعركة هي على الأسس، سيكون من السهل بالنسبة لهؤلاء أن يتهموك بقلة الثورية، أما نحن فنسمارس كل العنف و في صمت: سنقوم بتدمير الأسس التي تجعل من أمثال هؤلاء... ثوريين. 

المريض الإنجليزي The English Patient: الحب و الذات

لا بأس من بعض الذاتية: تظهر على جانبي من النافذة شجرة كبيرة جدا، و الصباح المعطر بالرطوبة هنا في الضاحية الصغيرة البعيدة يكاد ينطق فرحا. ما هو مصير هذه الأبيات في "غناء العزلة ضد العزلة"؟

والعصافير اكتمال للندى

في شرفة الحلم

تسد الأفق

تبحث عن طفولتها بذاكرة الفضاء الرحب

والفجر المُعلب في رفوف الصمت

واللغة الخفية للغناء على مسام العشب

والشجر المخبأ في تماثيل الشجر

الحزن لايتخير الدمع ثياباً..

ربما يمكن للمرأ أن يجزم أن هذه الأبيات ليست أقل من حادثة ظهور "الذات" في أكثر تبدياتها حزنا. و ألقا، و قوة!. في داخل مثل هذا الفراغ بين التعبير و الفهم.. بين الشجر و الشجر المخبأ في تماثيل الشجر! يغيب الإنسان ليظهر الحب. و فيها أيضا تظهر "الجمهورية".

إضراب الأطباء 2010م: فنُّ استعادة الفَشَل

الخلفية

لطالما لَعِبَ المتعلُّمون السودانيون، والطبقة الوسطى عموماً، دوراً رجعيَّاً في السياسة السودانية. فتحْتَ سَمَعِهم وبصرهم تمّ تمرير استراتيجية "تثقيف" الصراع السياسي. التثقيف الذي أخرج الاقتصاد والواقع المادي بالمُجمل من معادلة الفعل السياسي في البلاد. وبينما تحوَّلت السياسة السودانية إلى حالة دائمة من الصراع الثقافي بين العرب والأفارقة وبين الإسلاميين والعلمانيين، تم، وبصورة منهجية، سحقُ طبقات اجتماعية فقيرة وتجريدها من أية حياة ذات معنى. يشتغل العامل السوداني المتوسط لساعات طويلة جداً، إن كان في قطاع المواصلات أو في قطاع البيع بالتجزئة وغيرها، وفي أغلب الأحيان فإن هذا العامل يتحصل على فُرَص عمل بشكلٍ متقطِّع وباليومية. وليس له أن يحلم حتى بوظيفة دائمة أو بضمان اجتماعي في أوقات المرض أو عند التقدم في السن. ولأنه في الغالب شخص "جاهل" بلا أيِّ منفذٍ للمعرفة ومجال الاحتجاج الإلكتروني، فإن ضعفه سوف يُضَاعف نفسه مع الوقت، وستعمل نخبٌ دينيةٌ مقيتةٌ على نشر "وعيها الزائف" و"أفيونها" بين هذه الفئات لتُحوِّلْهَا لفئات فقيرة أصولية تعمل على منع نفسها ذاتياً من الحرية. على هذه الأنقاض البشرية عاشت الطبقة الوسطى السودانية امتيازها النسبي في التعليم الجيّد، واحتكار فُرص السفر للعمل وإكمال الدراسة في الخارج. ومؤخراً، قامت الحكومة بتمرير استراتيجية خصخصت بموجبها التعليم الأساسي والثانوي الذي كان المنفذ الوحيد الذي يصل الفقراء في السودان من خلاله إلى حياة أفضل. وبالتأكيد فإن الطبقة الوسطى السودانية، وهي القادرة على تعليم أبنائها بالمال، لم تُبدِ كثير تذمرٍ ولا قلقٍ من هذا الواقع التعليمي الجديد. 

من أين أتى هؤلاء؟

لا يمكن لعبارة الطيب صالح الشهيرة، التي هي في الواقع "من أين جاء هؤلاء الناس"، إلا أن تبدوا خرقاء إذا ما أخذناها بالمعنى الإحتفالي الذي روجت النخبة المعارضة له. شعور التفاجؤ الذي توحي به هو شعور مغفل على أفضل الفروض: الكل في السودان كان يعلم أن إحتمالية وصول الحركة الإسلامية للسلطة هي إحتمالية شبه مؤكدة، الحركة كانت قد أكملت عملية تدمير اليسار تحت وطأت إنتصارها الأيديولوجي الذي ترافق مع إنتصار آخر أوسع لليبرالية الديمقراطية في كل مكان، و كان زعيمها السياسي هو الوجه الأبرز في الساحة الساسية، و كوادرها و قواعدها هم القوة الأكثر حركية و تأثيرا. حتى الكراهية الشديدة التي حظي بها حسن الترابي كانت تشير لذلك، لا وعي المعارضين كان يخبرهم بأن الرجل قد إنتصر عليهم، و ذلك حرك فيهم أسوأ مشاعر اللا وعي العلمانية: كيف يمكن لهذا "الشيخ"، سليل مدارس التفكير الإخوانية الأصولية السطحية، و الرجل غير العابيء بالقيم السامية "للإعلان العالمي لحقوق الإنسان" و غيرها من الوثائق التي تقدسها النخبة، كيف يمكن له أن يتحول للرمز الذي لا يحرك القواعد غير المتعلمة فقط، بل و كذلك الطلاب و كثير من المثقفين؟