إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 13 فبراير 2017

المريض الإنجليزي The English Patient: الحب و الذات

لا بأس من بعض الذاتية: تظهر على جانبي من النافذة شجرة كبيرة جدا، و الصباح المعطر بالرطوبة هنا في الضاحية الصغيرة البعيدة يكاد ينطق فرحا. ما هو مصير هذه الأبيات في "غناء العزلة ضد العزلة"؟

والعصافير اكتمال للندى

في شرفة الحلم

تسد الأفق

تبحث عن طفولتها بذاكرة الفضاء الرحب

والفجر المُعلب في رفوف الصمت

واللغة الخفية للغناء على مسام العشب

والشجر المخبأ في تماثيل الشجر

الحزن لايتخير الدمع ثياباً..

ربما يمكن للمرأ أن يجزم أن هذه الأبيات ليست أقل من حادثة ظهور "الذات" في أكثر تبدياتها حزنا. و ألقا، و قوة!. في داخل مثل هذا الفراغ بين التعبير و الفهم.. بين الشجر و الشجر المخبأ في تماثيل الشجر! يغيب الإنسان ليظهر الحب. و فيها أيضا تظهر "الجمهورية".

ليس مفهوماً بالنسبة لي لماذا أحاط النسيان بهذا الفلم: The English Patient أو “المريض الإنجليزي”. كان الفلم قد حصد أكبر عدد من جوائز الأوسكار في تاريخ السينما الأمريكية. هذا بخلاف أن الفلم يمثل رائعة من الروائع الفنية النادرة التي أهدانا إياها القرن الماضي؛ شخصياً شَكَّل الفلم إحدى اللحظات الفارقة في حياتي.. رأيتُ يومها الجمال بذاته.
 
يتعرض الكونت دي ألماسي لحادث تحطم طائرة كان يقودها فوق صحراء ما في الشرق الأوسط، في خضم الحرب العالمية الأولى. وتدور أحداث الفيلم في داخل سلسلة ذكريات الكونت، الذي أُصيب بحروق شديدة في جسده بأكمَله، بينما يتم ترحيله رفقة قافلة مساعدات طبية. ترافق الكونت الممرضة "هانا" التي تطوَّعت متخلفة عن بقية الفريق لتعتني بالمريض الذي كان من الواضح أنه ينتظر الموت. كل ما تعرفه هانا عن الكونت هو أنه "إنجليزي" وأنه قد فقد الذاكرة والكثير من قدرته على الكلام. ولكنها مع مرور الوقت تكتشف قصة الرجل المُوغلة في الألم عبر مذكرات وُجدت معه. وفي النهاية تقوم هانا بمساعدة الكونت على إنهاء حياته، وتذهب، رفقة رجل هندي "ينتمي لطائفة السيخ"، أحبَّته في هذه الفترة.
 
كان الكونت ألماسي قد أحب سيدة متزوجة. السيدة كليفتون، زوجة أحد الضباط. والكونت كان قبل تلك "الحادثة" رجلاً عادياً وربما أقل. ربما لذلك اشتهى امرأة رجلٍ متزوج. ويمكن قول نفس الشيء عن السيدة كليفتون. في فلم آخر The Painted Veil "الغطاء المزيّن" ستتعرض صورتنا النمطية للحب "البريء" لصدمةٍ أَشَد: تقبل الفتاة الزواج من الطبيب الذي سيصطحبها إلى الصين فقط لتُرضي عائلتها، وهناك تقع في حب أحد أفراد البعثة البريطانية، الأمر الذي يكتشفه الطبيب فيأخذها في رحلة بلا عودة إلى منطقة موبوءة بالكوليرا عقَاباً لها.. هناك، بين القذارة والموت، تقع الفتاة أخيراً في حب الطبيب، يحبها هو كذلك، ثم يموت بعدها بعدة أيام. سيموت الطبيب، الذي أصبح في طريقه ليكون أباً، ببطء، متعذباً بالجفاف الناتج عن الإصابة بالكوليرا! هنا كذلك فإن "المريض الإنجليزي" هو قصة حب حقيقية بكل بشريتها. يحب ألماسي كليفتون وتحبه كما لم يسبق لأحدهما أن فعل من قبل.
 
"الوقوع" في الحب هو أن نرغب فيما لا يفيدنا أن نرغب فيه، "أن نمنح ما لا نملكه لمن لا يريده". تتعثر كل محاولات ألماسي وكليفتون لإنجاح المغامرة التي ظهرت في الوقت غير المناسب والمكان غير المناسب. في النهاية يجد ألماسي نفسه مع حبيبته في كهفٍ به نقوش قديمة، ولأن كليفتون كانت قد آذت ساقها كان لابد له أن يتركها في هذا الكهف وحيدة ويذهب طلباً لطائرة تنقلهم. كليفتون ستُترَك وحيدة، عاجزة عن الحركة، لتراقب النقوش على الجدار ولتكتب آخر كلماتها، قبل أن تموت عطشاً، بينما تتعثر كل محاولات الكونت للحاق بالقدر. عندما تحب لا تستطيع أن تترك المساحة بينك وبين "الآخر" كما كانت. هنالك مساحة من اللامبالاة ستختفي، وسيحل محلها شعور بالأبدية.. أبدية "الآخر" المتوحشة (كما يحب سلافوي جيجاك أن يقول عادة).
 
ولأنه كان لابد للـ"المريض الإنجليزي" أن يظهر نفسه كعملٍ فنيٍّ خالص، فإن تلك الأبدية المتوحشة تجسدت في آخر كلماتٍ كتبتها كاثرين قبل أن تموت:
"عزيزي .. إنني أنتظرك. كم يكون الوقت اليوم في الظلام؟ الأسبوع؟ لقد انطفأت النار الآن، إنني أشعر بالبرد. عليَّ أن أزحف إلى الخارج. لكن هنالك ستوجد الشمس!. أخشى أنني قد أضعتُ ضوء الشموع وأنا أراقب النقوش وأكتب هذه الكلمات.
نحن نموت… إننا نرحل أغنياءً بالأحباء وبالجذور. تلك المذاقات التي ابتلعناها، الأجساد التي دخلناها وطَفَونا عليها كالأنهار، المخاوف التي اختبأنا في جوفها تماماً مثل هذا الكهف المعذب. إنني أريد أن يُطبع كل هذا على جسدي. إننا، نحن، نمثل البلدان الحقيقية، وليست تلك الحدود السخيفة التي تُطبع على الخرائط بأسماء الرجال ذوي القوة. إنني أعلم أنك سوف تأتي، لتحملني خارجاً لأحلق فوق قصر الريح، الذي هو صوت عبور الماء. لقد أردت ذلك دائماً – أن أمشي في مكان كهذا معك، مع الأصدقاء – على أرضٍ بلا خرائط. لقد انطفأت الشمعة الأخيرة وأنا أكتب في الظلام".
 
تقرأ الممرضة هانا هذه الكلمات بعد أن تعطي مريضها الإنجليزي جرعته الأخيرة الزائدة من المنوم.. وبالفعل ينام هو مع انطفاء الشمعة في الكهف. ما حدث بعدها هو أن ألماسي أخذ كاثرين على متن الطائرة فوق قصر الريح بالفعل، قبل أن يتعرض للحادث الذي أحرق جسده كلَّهُ وتركه بلا ذاكرة ولا صوت. اللهم إلا أبدية كاثرين لتلاحقه. لكن، أليس هذا "المريض الإنجليزي"، هذا الإنسان، شبه الإنسان، المحترق، "اللوحة"، هو "الذات" بكاملها؟
بالنسبة لألينكا زوبانتشيتش فإن الذات (الذات الحرة التي تتخذ القرار الأخلاقي) تظهر نتيجةً لنقصٍ جذري في الفرد، هي عبارة عن شيء سالب، عن "إنقطاع" في منظومة الفرد. لم يكن ألماسي ليعلم أنه سيفقد نفسه بالكامل في دوامة "الآخر"، هذا الحب لم يكن جزءاً من ألماسي. الحب هو نقطة عدم الاكتمال التي وُجدت من العدم. "ليتجاوز الإنسان الخير العادي (الناتج عن الالتزام بالقانون) ليدخل حيِّز الخير الأخلاقي؛ عليه أن يمر بحالة من حالات الولادة من جديد. عليه أن يُخلق من العدم"*. هذا "العدم" داخل الإنسان هو ما يجعل وقوعه في الحب ضدّ كل مصلحة "كيانه" أمراً ممكناً. ولكن، كما تنبهنا ألينكا، فإنه لا يُفهم من ذلك أن "التضحية" هي سر تكوّن الذات. إن هذا الفعل لا يمكن أن يتم عن عمد، لذلك لا يوجد مجال لأن يقع الإنسان في الحب، لا تُوجد تلك اللحظة التي يقرِّر فيها الإنسان أنه سيقع في الحب، يجد الإنسان نفسه قد تورَّط في الحب سلفاً، أي أن النقص موجود سلفاً. هذا الاختفاء للفرد المكتمل وظهور الذات التي يُخلَق في داخلها الحب من العدم هو المشهد الأساسي في الفلم. وحتى لا ينخدع أحد، فإن جمالية الذات هنا، هي كجمالية الأخلاق، تظهر في شكل متوحِّش: رجل مُحتَرق لا يستطيع حتى أن يخاف من الرحيل وقلبه يهيمن عليه حزنٌ أكثر برودةً من الموت.
 
خُذ مثلا قراءة سلافوي جيجاك للوحة "موت مارات".. بالنسبة لجيجاك فإن سؤال الفنان في اللوحة كان: (كيف يمكن أن ترسم الذات؟. ذات مارات الشهيد. والجماهير الثورية. الجماهير التي تمثل الذات الأخلاقية في أكبر تجلياتها؟) إجابة جيجاك هي أن اللوحة قد أَنجزت ذلك بطريقين: أولاً تم رسم مارات الإنسان، الفرد المكتمل، وهو في لحظة اختفائه. الذات هي الفراغ بين مارات الإنسان الحي ومارات الجثة. أما الناس فقد تجسدوا في الفراغ الأسود الذي تركه الفنان فوق مارات.. وهو فراغ يعبِّر عن أن "الناس" في الثورة الحقَّة هم تلك السلبية الجذرية.. الحرية التي لم تُملأ بأيِّ مكونٍ بعد.. ذلك الظلام المخيف، الذي ترغب في وجوده ولكنك تخشاه، تخشى عدم قدرتك على التنبؤ بما سيفعله، مثلما تشعر وأنت تحدق في السواد داخل عين السيدة الجميلة التي تحبها!
وفي فلسفة سلافوي جيجاك فإن إحدى تعريفات الذات هو أنها تلك السلبية الجذرية التي لم تكتمل بعد. في إحدى مشاهد الفلم "غثيان" للمخرج ألفريد هيتشكوك يظهر وجه بطلة الفيلم مادلين وهو نصف مضيء ونصف مغطى بالسواد. ويظهر الجزء المغطى بالسواد مشوشاً كأنه جزء قد تمَّ حذفه. أو لم يُوجد بعد. جيجاك ينظر لهذا المشهد باعتباره إحدى لحظات ظهور "الذات"؛ حيث يظهر الفرد ناقصاً لم يكتمل بعد. فراغ ما داخل الفرد يجعله مشوشاً وضعيفاً. ولكن ذلك الفراغ هو مساحة الحرية. لذلك فإنك عندما تتعامل مع الذات الحرة فإنك لا يمكن أن تتنبأ بتصرفاتها. هي نفسها ستتفاجأ بأفعالها. ما هو على المحك في هذه النظرية في الذات Theory of the Subject هو أن الذات هي ذلك الشيء غير المكتمل أنطولوجياً. هي شيء "لم يوجد بعد". ولذلك فهو شخص مخيف حتى بالنسبة للفرد نفسه. الكونت ألماسي "الآخر" الذي ظهر بعد "حدث" لقائه المؤسف بكاثرين هو شيء "جديد" لم يُوجد من قبل. لذلك فهو حدث جلل حتى بالنسبة للكونت نفسه. إن هذا النقص الجذري في الإنسان هو مصدر شعور الإنسان بأن في داخله شيء أكبر من نفسه يمكن أن يظهر في أي وقت. ولذلك تحديداً فإنه لا يمكن البحث عن سر التحول الأخلاقي في ماضي الإنسان. ذلك الإنسان المكتمل الذي يجب علينا أن "نفهمه" هو مجرد وهم.
 
أما بالنسبة لنهاية الفلم فهي تشير إلى إبداعه الأخير: سوف نسمع صوت أبدية كاثرين من فم هانا.. يتقطع المشهد بين هانا وكاثرين حتى تصل هانا للنهاية وكأنها ترفع روح ألماسي إلى السماء مع دموعها. إن التوحش الأخير لكاثرين وألماسي هو أنهما كالأرواح يسكنان الآخرين. ستتحرر هانا عبر تحمل الـ"لا-عادية" غير المحتملة لقصة المريض الإنجليزي، عبر تحمل رؤية "العدم" في داخلها عبر مرآة كاثرين وألماسي. ومن ثم ستبدأ في السير على نفس الطريق: الحب والحياة وكأنها قد تلبستها روح لا نهائية لا تموت.
 
سوف ترحل هانا على ظهر عربة خشبية رفقة الهندي الذي أحبته عبر مروج الريف الإيطالي. تاركةً خلفها جثة المريض الإنجليزي. كل شيء بعده أصبح مختلفاً. لكنها تستطيع أن تشعر بالسعادة. نحن سنرى السعادة عبر الجمال الطبيعي الذي يحيط بهانا الآن، يمكننا أن نرى السعادة وأن نسمعها وأن نتذوق لذّتها. ولكننا كذلك سنرى، مثل هانا، تفاهة السعادة. يا لها من تفاهة مبهجة!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق