إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 12 يناير 2023

مشروع الشيوعية الافريقية

مشروع الشيوعية الافريقية

محمود المعتصم



١. مقدمة: عن الشكل والمضمون


عملية الدعوة لفكرة هي عملية مُعقَّدة. فالفكرة لا تشمل فقط محتواها كموضوع، بل كذلك تتضمن الإطار الذي يتم تقديمها فيه. وبالنسبة لأيةِ فكرةٍ عامّة، بمعنى أن لكلّ عقلٍ مَدخَلٌ لها، فإن الإطار يحتلُّ موقعاً متقدّماً على المضمون. إذ لا يَشرح الإطار الفكرة بصورة أوضح فقط، بل وكذلك يُحافظ على عموميتها بجعلِ القارئ نَفسه مالكاً لها وليس مُتلقّياً فقط.
لا أضع هذه الفكرة في إطار كتابة الرأي فقط، كرأي يمكن لأي شخص قبوله أو رفضه، وبالتالي فعملية القبول هنا تتحول تلقائيَّاً لالتزام آيديولوجيٍّ صارم. بل كذلك في إطار كتابة رأي يستطيع القارئ أن يُلاحظ أنه قَبِلَ به سلفاً. أي حتى قبل قراءة هذا المقال. وبالتالي، فإنني أرى أن "الشيوعية الإفريقية" هي ليست فكرة حان أوانها فقط، بل إنها عمليَّاً الفكرة الوحيدة المتاحة للإنسان الإفريقي حال صِدقه في طلب الحقيقة. وهنا أودّ أن أقول بأن هذا الإطار يضع هذا المقال في شكل الرسالة بين رفاق لم يلتقوا بعد. لا أكثر ولا أقل.

٢. عن عملية التصنيع التجاري للبشر:


يُخيّم على المجتمع الحديث اليوم عددٌ من الأشباح. يُمكن تلخيصها في ثلاثة ظواهر: الجريمة، والمخدرات، والانتحار. هذا إذا تجاهلنا مسألة الحرب مؤقتاً. وبينما يمكن النظر لهذه الظواهر كاستثناءات، حسب السردية الرائجة، فإن أيّ نظرٍ أدَقّ سيجعلنا نرى أنها ظواهر عامّة اعتيادية. من ناحية الجريمة، فإنه يمكن ملاحظة أن واحدة من أعمدة المجتمع الحديث هو جهاز الشرطة والأمن. كذلك يمكن ملاحظة ان ما يسمى بحكم الكارتيلات في مناطق الجريمة المنظمة هو ليس استثناءا باي حال من الاحوال اليوم، ان كان فيما يخص ظاهرة المافيا وامتدادها في شكل الشركات القائمة على الفساد المنظم او في شكل العصابات ذات التراتبية والهيكل الصارم او فيما يخص لوردات الحرب في افريقيا و بالتالي فإنه لا يمكن الادعاء بأن الجريمة هي ظاهرة ثانوية. بالنسبة للمخدرات فيجب ملاحظة أن الطلب على هذه السلعة هو من العلو بحيث أنه قد فشلت كل محاولات الدولة الحديثة في كبته. ويشير تاريخ منع الكحول في الولايات المتحدة ثم جعلها متاحة إلى حقيقة بسيطة: تحوَّلت الكحول إلى واحدة من أكثر المنتجات استهلاكاً في المجتمع الأمريكي، أي أنه لا يمكن القول بأن الطلب عليها كان من نوعية الطلب على الممنوع. كان الطلب حقيقيَّاً. والطلب على أشكال المخدرات والمسكنات الحالية هو حقيقيٌّ كذلك، إذ أن الأفيون السابق (دين الدولة الرسمي طبعاً) قد انتهى مفعوله. أما بالنسبة للانتحار فهو يمثل في الحقيقة الشكل الكامل لكلّ ما سبق: فَشَل الحياة أمام الموت. وهو ليس ظاهرة ثانوية بأي مقياس، خاصةً إذا أخذنا في الاعتبار ما يسميه علماء الاجتماع بالموت باليأس، وهو مجموع أولئك الذين يقودهم اليأس للإدمان وأذية النفس بأشكالٍ عدة تنتهي بالموت المبكر.

ما أودّ قوله هو أن هذه الظواهر هي ظواهر صحية إذا ما قارناها بما يُسمَّى بالإنسان العادي.

تقوم الرأسمالية الحديثة بعقد مقايضة دقيقة وجذرية مع الفرد الحديث في بداية حياته. فلنقل في عمر الـ٢٠: أنت تعطي المجتمع الصناعي طاقة عملك يوميا لمدة ٤٠ عاماً على الأقل، ويمنحك المجتمع في المقابل فترة استراحة في نهاية عمرك، في شكل ما يُسمَّى بالمعاش، مع تغطية احتياجاتك الأساسية خلال هذه الفترة. ولا تشمل هذه المقايضة القُدرة على اختيار المجال الذي ستُفنِي فيه الـ٤٠ عاماً، الأكثر إنتاجاً في المسيرة التي نسميها قصة حياة. قد ينتهي بك الأمر طبيباً أو بوَّاباً. حسب اجتهادك في عملية المنافسة الاجتماعية، وعدد غير قليل من الصدف في الطريق. لكن حتى الأطباء لا يتم إعفائهم من شروط المقايضة الأساسية: الزمن.
الوحيدون الناجون هم رجال الأعمال. يحصلون على ما يُسمَّى بالحرية النقدية، الحرية من ضرورة الوجود داخل الوظيفة وإمكانية فعل ما يريدون بوقتهم. لكن فئة رجال الأعمال الناجحين تمثل أقل من ١٪؜ من كل المجتمع، وذلك هيكلياً غير قابل للتغيير، لأنه لو أصبح الكلّ حرَّاً نقديّاً، فمن أين سيأتي رجال الأعمال بالمُعيَّنين؟. غير هذه الاستحالة الهيكلية، فلرجال الأعمال نوع معيَّن من الصفات النفسية والفردية لا تتوفر للكل. هذا إذا تجاهلنا الظروف الهيكلية التي ستقف ضدّ شخص من إفريقيا جنوب الصحراء في مقابل آخر في فلوريدا. حتى إذا تساوى الشخصان في بقية الصفات.
للزمن وضع جدليّ مُعقَّد يجعله السلعة ذات القيمة الأكبر لدى الإنسان. يمكن فهم ذلك عبر تسمية الزمن باسمه الحقيقيّ، وليس التجاري: الحياة. لكلّ إنسان قَدْرٌ محدود من الزمن، ويعتمد كل شيء بالتالي على توفّر هذه المادة العصيَّة على الاستبدال. أية مقايضة لأية لحظة من الوقت يجب أن تتضمن عملية تقييم دقيقة لقيمة الوقت، باعتباره سلعةً غير قابلة للاستبدال.
ما يُسمَّى بـ"الإنسان العادي"، يقبل المقايضة. بل وينهمك فيها بحماس باعتبارها شيئاً قام هو باختياره بحرية. بينما يشير كل شيء للعكس: لم يوجد على الأرض مخدّم واحد جعل الذهاب للعمل شيئاً اختيارياً. حتى أشد المتحمسين لـ"الكارير" سيحتاجون للعصى أو الجزرة، أو كلاهما. ويدرك الجميع فطريّاً الفرق بين "العمل" والأشياء الأخرى التي يقوم بها الشخص مختاراً في ما يُسمَّى بوقت الفراغ. ويُدرك الجميع فطريَّاً أن هيكل العمل الحالي يقضي على أغلب الرغبات الحرّة الأخرى بإزاحتها لمنزلة العمل غير المفيد، والضار بالتالي من الناحية النقدية، أو بعرقلة قدرة الفرد على تنفيذها. أو المخاطرة بالالتزام فيها.
العصاب النفسي هو إذن في صف الإنسان العادي بصورة أشد من الظواهر الثلاث في الأعلى. بل إن مرتكبي الظواهر الثلاث في الأعلى هم التمثّل الأكثر معقولية للعادية في الإنسان. لتوق الإنسان لشيء آخر. إذ يظلّ السؤال التالي مهماً: ما هي قيمة الحياة إذا كان الواحد منا سيقضي أغلبها (وخاصة فترة الشباب والصحة) بين مكان العمل والبيت في دائرة أبدية مملة وقاتلة لكل ذرة إبداع أو شغف لدى الإنسان؟ وعلى هذا السؤال تجاوب البروليتاريا (المجرمون، والمدمنون، وضحايا الموت باليأس) وعلى الإنسان العادي أن يسمعهم.

بالطبع فإن المقايضة الأساسية لم تتم طوعاً. رغم أنها مغطَّاة بشبكة سميكة من الهياكل والآيديولوجيا. تمت هذه المقايضة على خلفية من العنف التاريخي الصارم، أجهزة الدولة وقوانين السوق. إلا أن الدقة في السيطرة والتحكم تكون أكبر فعلاً عندما لا تكون قاسية بصورة واضحة. لتلاحظ فعاليَّة آلية التحكم الحالية، خاصة في الدول المتقدمة اقتصادياً، يمكنك أن تراجع إحصائيات الانتحار: واحدة من أهم المهددات بالانتحار بالنسبة للذكر في المجتمع الأمريكي هي فصله من وظيفته. هنا يمكنك تحسّس العنف الضمني السابق للمقايضة: ترتبط حياة الفرد من حيث احتياجاته المادية، دفع الإيجار وتوفير الطعام لأسرته، ومن حيث استقراره النفسي وشعوره بالقيمة في المجتمع، بصورة صارمة باستمراره في الوظيفة، بحيث يفقد الشخص حرفياً "كل شيء" حال إقالته. لا عجب إذن أن المقايضة تتضمن كذلك عملية تحكم شمولي في كل التفاصيل الأخرى في حياة الفرد: أفكاره، توجهه السياسي، حياته الخاصة.. إلخ. وأصبح من المعتاد في عملية التوظيف الأمريكية تنبيه الموظف لأن لا يكتب أشياء لا تليق في وسائل التواصل الاجتماعي.

هذا إن تجاهلنا عمليات العنف الأخرى؛ مثل منع التنظيم وتصعيبه، عملية الشراء المالي للسياسة، الحروب والانقلابات وعمليات الاغتيال إلخ.
وفي مقابل المرتب، أصبح الإنسان الحديث ليس فقط معزولاً عن نفسه، بل عبداً حديثاً للوردات الجدد. في ما سماه البعض بـ"الإقطاعية الجديدة". حيث، بامتلاك لوردات الإقطاع الجدد لحصصٍ واسعة من وسائل الإنتاج، ووجود جيوش من العمال تُطلب وظائفهم، لم يعد التعيين والمرتب المقدم معتمداً على قيمة العمل، أي إعطاء العامل حصةً من قيمة عمله وأخذ الباقي كفائض قيمة، بل بات مُعتمداً على ما يراه لوردات السوق مناسباً من ناحية تكاليف الحياة. ما هو القدر الكافي لهذا العامل ليعيش حياة جيدة؟. وذلك طبعاً كان معيار التقييم في زمن الإقطاعية، قبل دخول الناس في السوق.

يدرك الناس بصورة تلقائية أن الوضع الحالي هو وضع مفروض عليهم. ويكرهونه. يظهر ذلك في أغلب الاستفتاءات وإحصاءات الرأي عن السياسيين وعن فساد الأنظمة السياسية حتى في الدول الديمقراطية. لكنهم مع ذلك يقبلونه عمليَّاً كضرورة. يجب رؤية هذا الهيكل بوضوح:
يقف هذا النظام على أساس آيديولوجي. يجب على الفرد للاستمرار في تأدية دوره بصورة اعتيادية، يجب عليه أن لا يرى ما حوله، مثلما تقبل البقرة في مزارع التصنيع الصناعي للحوم بعملية تربيتها وتغذيتها بسعادة، غير قادرة على رؤية هيكل أسنة التقطيع حولها. علينا كأفراد أن نستمر في العمل وكأننا لا نرى أن النظام يقوم على استهلاكنا كمواد خام، وأنه يقوم، بصورة منهجية، بتدمير كل أساسيات الحياة كهبة خاصة يجب عيشها فعلاً. ابتداءاً من الأساس الفردي النفسي للحياة، مروراً بالحياة كعمل اجتماعي، نهاية بالحياة كجزء من الطبيعة التي يتم تدميرها منهجيّاً.

لا تقلق: لا يَطلُب منك هذا المقال أن تتحول إلى رحَّالة تهيم خارج النظام. ولا أن تترك وظيفتك. جدليَّاً فإن عملية الاقتناع العقلي والروحي أهم من الأداء العملي اليومي. بل إن مجرد التحرر ذهنياً من الغشاء الآيديولوجي هو بداية للعيش عملياً في إطار روحي مختلف. والحرية هي في الحقيقة عملية السعي لتحققها صدقاً للواحد منّا وللجميع. وليس عيش نسخة مبسترة فردية عاجزة منها. وإذا وَثَقنا في الحقيقة فإنه يمكن القول بثقة بأن الكادر الشيوعي يستطيع في نفس الوقت العيش كإنسان عادي (بالمعنى السلبي للكلمة)، والعمل بفعالية ضد النظام ككل، بل ومن داخله. وهذا "العمل" هو في الحقيقة الوسيلة الوحيدة لمواجهة الموت الذي هو الخضوع لنظام التوظيف التقني الحالي. هو "عمل" بالمعنى الحقيقي للكلمة، عمل بمعنى أنه شيء يقوم به الواحد منا راغباً بحرية، ويكون مستعداً لأن يفني حياته داخله كشغف لشيء سام وجميل. الرغبة والمسؤولية، كلاهما، شيء واحد في هذا الإطار.

٣. الفرد: جدل الحياة والموت، أو الوجود والعدم

سيلاحظ القاريء أن مدخلي لنقد الوضع الحالي، الذي يمكن أن نسميه رأسمالية أو عولمة، في إطار مقال الدعوة هذا، كان فردانيَّاً. أنا لم أتطرق لأشياء ربما هي أكثر خطورة مادياً، مثل تهديد الحرب أو التدمير البيئي أو النووي. أو حتى للتحليل الاجتماعي لآثار الفقر على المجتمعات، ابتداءاً من الأسرة ونهاية بتهديد الحرب الأهلية، وكل هذه مداخل لها وزنها في إطار نقد النظام الحالي. لكنني اخترت المدخل الفردي. خاصة للقطاع الحديث (البشر الذين هم مدخلات ومخرجات عملية التدريب التقني والتوظيف)، ذلك أن هذا القطاع بات يتوسَّع بصورة مضطردة بحيث أنه سيشمل كل الفئة العمرية التي تُسمَّى الشباب.
أنا أعتقد أن أفضل طريق لتجنيد الكادر الشيوعي ابتداءاً هو التعامل مع هذه الظاهرة (النظام الحالي) في مستواها الفلسفي. ذلك أن نقول في مستوى معناها بالنسبة للفرد الواحد. نوع الوجود الروحي الذي تخلقه. وهذا الفردي (ما هو معنى الحياة في ظل النظام الحالي؟)، هو في نفس الوقت العام جذريّ. هنالك شيء روحي أو فلنقل ديني في الفرد، يستطيع الواحد منا أن يراه يتردد عبر الوجود في جوف الجميع. الحياة أو الموت، هما حقائق "فردية" يتم اختبارها بالتعريف كتجربة وجودية خاصة، لكنها مع ذلك "حقائق" عامة.
المدخل هنا هو في الحقيقة تأسيسي: في مستوى التساؤل عن الحياة والموت. ولذلك فقط فهو مدخل يمكن للكل فهمه، بل الارتباط معه بصورة حاسمة. كل قارئ لهذا المقال، قبل أن يرغب في الدفاع عن البيئة أو منع الحرب الأهلية، فهو يرغب في الحياة نفسها. أن يوجد مكتملاً كإنسان له معنى. ثم بعد تحقق هذا الشرط لا يرفض أيٌّ منّا أن يموت. لكن ما يخشاه كل فرد بصورة عميقة هو حرمانه من "الحياة الحقيقية" التي تعني بصورة أخرى "الموت في داخل الحياة نفسها". في فترة مراهقته، ذكر لي شاب قريب لي مرة، بأنه يخشى من الحياة كالنمل، سألته: ماذا يعني هذا؟ أجاب، تعيش النملة كل حياتها متنقلة من مكان الغذاء إلى المأوى. وبالتالي فـ"العالم" بالنسبة لها هو ذلك الفضاء الضيق. ما تريد الأنظمة الحالية للتحكم والسيطرة فعلاً هو إنزالنا كبشر لمستوى الحياة كالنمل. وأنا أستثمر في هذا التناقض: لمقاومة هذا النوع من الموت، ابتدع البشر الشعر والفن والمحبة والشغف بالعلم والعمل الاجتماعي الرفاقي، والنضال من أجل الشيوعية.
هذه دعوة من نوع خاص إذن. أنا لا أَدعُ أيَّ شخصٍ للعمل من أجل الآخرين. أو للتضحية. هذه المعايير تنتمي لأخلاق المسؤولية. التي هي أخلاق اجتماعية مفروضة من خارج الفرد وبالمحصلة (وإن كانت تؤدي لبعض الخير) فهي أخلاق محدودة بحدود أخلاق الطبقة الحاكمة. ما أدعو له هو استعادة الذات (والحياة بالتالي) داخل الحقيقة. ذلك أن نقول بأن ما أدعو له هو نوع من التحرُّر. ما تَبني الشيوعية الإفريقية نفسها عليه، وتكون ممكنة فقط في إطاره، هو نوع آخر من البشر (لطيف مثل غاندي أحياناً، ومتوحش مثل جون براون إذا دعت الضرورة)، يرى في عملية النضال من أجل المجتمع العادل، رغبته الخاصة ومعنى حياته. وبالتالي فهو يخوض العملية برمتها ليس كشيء ثقيل يحمله كمسؤولية، بل كشغف يجعله يرتقي للحرية خفيفاً. هذه الأخلاق هي جَذر لم يتم استعماله سياسيّاً للحد الأقصى بعد، وليكون من الممكن التفكير في الشيوعية الإفريقية، وتحقيقها، فلابد من البداية بالأيمان بإمكانية وجود ذلك الفرد. وبالتالي إمكانية وجود مجموع الكادر. علينا أن نتذكر دائماً بأن الشيوعية هي مجرد تجذير للديمقراطية، والديمقراطية تعتمد أساساً على مبدأ الإيمان والثقة في "الناس".

٤. التحليل المادي الصارم، للوضع المادي الصلب:


قد ينتظر القارئ المعتاد على ما يمكن تسميته بالشيوعية الماركسية، نوعاً آخر من الكتابة. نوع الكتابة الذي يمكن تسميته بالمادية الفجة. حيث يوجد كل شيء خارج الفرد أو البشر. في أسعار المحاصيل وتعداد العمال وعدد الدبابات إلخ. ومن ذلك التحليل الصارم الأكاديمي يتم جرّ التليولوجيا خلف عربة قطار التاريخ لتصل للمجتمع الشيوعي. الذي هو، وللمفارقة، يتم تخيله كمجتمع "صناعي" دائماً. ويتوقع الماركسي الكلاسيكي أن ذلك التحليل سيخلق الكادر والحزب. والمشروع. وما زلنا في انتظار الجنة المفقودة منذ فترة طويلة. ومن يود انتظار سراب حراك المادة من تلقاء نفسها فهو سينتظر للأبد. ما هو موجود خارج العقل هو مجرد عدم، عدم لأنه شيء، مجرَّد شيء، خارج عملية الخَلق، التي هي عملية إنسانية (أو روحية) إبداعية بالتعريف.
في إطار العالم المُستَعمر تحديداً (إفريقيا) تمت هذه العملية بصورة أكثر سذاجة. حيث سادت قناعة طفولية معتادة بأن تاريخ الغرب سيكرّر نفسه حال دراسته. الليبراليون لهم نسختهم من هذه السخافة تسمى "التنمية".
في الحقيقة هذا النوع من التفكير هو تفكير غير تاريخي. بمعنى أنه اجتزائي واختزالي لا ينظر للكلية الجدلية للعملية التاريخية. مثلاً: سيكون القارئ الجاد للتاريخ مُدركاً لإشكالية تراتبية النظرية والممارسة في فترات الانتصارات التاريخية، التي تَبنِي المادية الفجَّة نَفسَها عليها (الثورة الفرنسية، ثورة أكتوبر البلشفية، الثورة الشيوعية في الصين، كوبا إلخ). هل نتَجَت أكتوبر الروسية مثلاً عن التحليل المادي الصارم اللينيني و(ما العمل)، أم نَتج (ما العمل) من العملية الثورية الأكتوبرية؟ ذلك أن نسأل: هل اقتنع الكادر الشيوعي الروسي بفكرة لينين (كمحلل واستراتيجي ماركسي كلاسيكي) أولاً، أم رغب في الاشتراكية أولاً؟ هل يصبح الشخص اشتراكياً لأنه قرأ لينين، أم أنه يقرأ لينين لأنه أصبح اشتراكياً؟.
ما يجب فهمه بصورة واضحة هو الحقيقة البسيطة التالية: لا يمكن الاقتناع بالتحليل المادي الجدلي ورؤيته (أن يفهم الروسي الأكتوبري لينين) إلا عبر عقل طلب الاشتراكية (أو الحرية عموماً) وتاقَ لها مسبقاً. مثلما لم يكن من الممكن للعقل الفرنسي فهم جان جاك روسو وتطبيقه إلا بعد توقه للديمقراطية مسبقاً.
لذلك لا يمكن إقناع أي شخص بظروف الوضع التاريخي الإفريقي الحالي، وجعله يراها، إلا بعد تجنيده كشيوعي. ولذلك فيجب دائماً التركيز على العموميات. الأمر العام الروحي الواضح: المشروع هو ليس نتيجة لشروط المادة الحتمية في الخارج، بل هو نتاج لمساهمات أفراد وإبداعهم، كذوات حرة تَخلِق التاريخ. ما يُسمَّى بالواقع المادي وشروطه هو نتاج العقل الذي تحرَّر سلفاً. يمكنه أن يراه وأن يتعامل معه. وذلك يجعل المشروع صلباً وهشَّاً في نفس الوقت: صلباً لأن العقل الحر بقدرته على فهم واقعه ورؤيته على حقيقته هو أحد أقوى المؤثرات في الوجود، وهشَّاً لأن ذلك العقل يمكن أن لا يأتي، وبالتالي مهما كان الظرف موضوعياً في مصلحة التقدم فإنه لن يكون موجوداً.
ولذلك فإن لكلٍّ منَّا قيمة. لكلٍّ منَّا كأفراد شيوعيين قيمة مطلقة. ليس بمقياس القيمة النرجسية للفرد الحديث، حيث القيمة مربوطة بتقدير المجتمع. بل بمقياس القيمة الذاتية للروح الحرة. تعيش حياتها كمالكة لقرارها الحر. حكى أستاذنا عبد الله علي إبراهيم مرة عن يافع في عطبرة، نَكِرَة بلا اسم لنتذكره، خرج بعد أن تجند شيوعياً يوزع منشورات الحزب على دراجته، وأتخيله مبتهجاً بحريته عكس الكادر الكئيب الممتعض من (الظروف الموضوعية) ينتظرها تهبّ في اتجاهه كجسدٍ حزينٍ خامل، حكى عبد اللهي إبراهيم عن ذلك اليافع لسبب: لذلك الشخص قيمة مطلقة، بدونه وبدون جهده الصغير كان للتاريخ أن يتحرك بشكل مختلف، على سبيل المثال ما كان بإمكاني أن أكتب هذه الجمل. هذا التركيز على الذات، على أنها هي، وليس المادة، لها أسبقية في رؤيتنا للمشروع هو انتقالٌ جذريٌّ أراه ضرورياً. وهو الانتقال الذي يمكن أن نسميه (بتعبير آلان باديو): الانتقال من المادية الجدلية، إلى جدل المادة. حيث التركيز هو على العابر، العملية التي تعتمد على المصادفة، غير المُتَأَكَّد منه، الحرية. وليس المادة. ما هو حي، وليس ما هو ميت.
قبل الدعوة للشيوعية عبر المادة وتحليلها، لابد من ترتيب المسرح لهذه العملية. والمسرح هو الشكل العام للشيوعية كفكرة روحية (بمعنى عقلية، نفسية، وجودية.. منهج حياة، تصوّر معين للكون)، وليس كآليات ميكانيكية أو كقوانين فيزيائية جوفاء.
دعنا مثلاً نختبر التعريف التالي للشيوعية الإفريقية: الشيوعية هي نوع من الوجود الاجتماعي والقانوني يكون فيه لكلّ فرد نفس مقدار القوة السياسية لكلّ فردٍ آخر. بمعنى آخر هي الديمقراطية الجذرية. التي تتطلب لتحققها واقعياً توفر الشروط المادية والقانونية التي تمنع الفوارق الطبقية التي تتحول حتمياً لفوارق سياسية. والشيوعية، في إطار إفريقيا، هي السبيل لتكوين مجتمع ما بعد الدولة القومية، يتّحد فيه الأفارقة بصورة كونفيدرالية وديمقراطية تمكّنهم من تحقيق مصالحم الكلية، والدفاع عن أنفسهم كأمم وشعوب القارة.
يمكن للواحد أن يسرد كل التفاصيل المادية للاستغلال المعولم للقارة السوداء. ١٠٪ من البشر يمتلكون ما يساوي ما يمتلكه ٩٠٪، نسبة الأموال الخارجة من القارة السوداء نهباً هي كذا، وضع العمال الزراعيين في بوركينا فاسو هو كذا. لكن ما لا يمكن تحقيقه عبر المادية الفجة هو الخيال الجماعي العام الذي يجعل كل هذه التفاصيل تعمل معاً. وبالتالي، فكل ما انتهى له الماركسيون الكلاسيكيون هو التحول لأنصار لدولة الرعاية الاجتماعية. بل وفي أحيانٍ كثيرة تحولوا لأنصار للشمولية، وناقدين طفوليين للديموقراطية. لأنصار لنوع من التنمية الموجهة أشد قسوةً حتى من تنمية السوق، مثل النظام الصيني الفاشي. لقد تم فقد الغابة عبر التركيز على الأشجار.
أقترح في المقابل نوعاً آخر من العمل الشيوعي: نبدأ بوضع الهدف الجذري، المبدأ الصادق، الحقيقي، كما عرَّفته في الأعلى. ونؤمن بإمكانية العمل الدؤوب على تحقيقه. ونبشّر به ونورّط بعضناً الآخر فيه، بحيث يتحرَّر عدد كبير من العقول لتقوم بدراسة الوضع المادي والعمل فيه بإبداع وتفرد يجعل الواقع الشيوعي ليس كتالوجاً أو كتاباً مقدّساً يجب تطابقه بين كل المجموعات، بل أنواعاً شتَّى من الوجود العادل الذي يتحقق فيه المبدأ وتختلف فيه التفاصيل حسب اختلاف الوضع المادي والثقافي والاجتماعي.

٥. الشيوعية والماركسية:


أعتقد أنه قد أضرَّ الوضعُ الاستعماريُّ للمعرفةِ في إفريقيا فكرةَ الشيوعية بصورة خاصة. ذلك أنه تم ربطها بنوع من القراءة الأكاديمية جعلتها فكرة محميَّة بهياكل النقل المحدودة وضد التاريخية. أو بالكتب والأكاديميين، مما جعلها فكرة غير شعبية بصورة عميقة. خُذ، على سبيل المثال، الخيال الرائج عن الشيوعية عندنا، وأنها بدأت مع كارل ماركس. ليس هنالك أي شيء دقيق تاريخياً في هذا التخيل. اللهم إلا إذا اعتبرنا أن الفكرة هي مجموع الكتب التي كُتِبَت عنها. وبالتالي أخرجناها من التاريخ وأدخلناها للمكتبة.
في الحقيقة وبصورة جذرية فلسفياً لا يمكن ربط أي فكرة بفرد. ذلك أن الفكرة هي عملية الظهور الروحي (بالمعنى الهيغلي كما فصلته في الأعلى) لعصر تاريخي. من هو صاحب فكرة الرأسمالية مثلاً؟ لنَكون دقيقين فعلينا أن نُجيب: المجتمع التاريخي الصناعي. أي مجموع البشر وظروفهم الاجتماعية في حقب تاريخية معينة، التي أنتجت فكرة الربح، الملكية الفردية.. إلخ. الكتب عن الرأسمالية هي جزء من القصة. وجزء محدود جداً منها. وتلك صفة الفكرة "العامة": تظهر في كل التفاصيل التاريخية لكل فرد خاص.
بالنسبة للشيوعية فهي نتاج كذلك لتطور المجتمع التاريخي الصناعي وما بعد الصناعي إن جاز التعبير. ظهرت أول مرة كدعوة عامة بعد الثورة الفرنسية. مارسها كل فقير غير متعلم فرنسي تلقائيّاً، وفَهِمَها وضحَّى بحياته من أجل تجربتها. ثم كتب كارل ماركس عنها بضعة كتب. فأصبح جزءاً منها، وأصبح كل الماركسيون الروسيون والأوروبيون جزءاً منها بنضالهم ومساهماتهم التي يشكرون عليها. لكنهم لم يبتلعوها. وفي كل مكان يوجد فيه مجتمع حديث صناعي أو شبه صناعي فإن الفكرة العامة يمكن أن تظهر. ليس كحتمية مادية، بل كقرار إنساني حُر. وستظهر في هذا المكان بصورة أصيلة (يمكن ملاحظة أن توفر شروط الديمقراطية مادياً لم يجعلها تظهر تلقائيّاً في كل مكان، لذلك لا يمكننا أن نفهم أن ديمقراطية اليعاقبة السود في هاييتي كانت مجرد تحصيل حاصل. ويمكننا أن نرفعهم لمرتبة الرمز التاريخي بالتالي) كشيوعية تطلب نوعاً أو آخر من الواقع الاجتماعي الذي يحلّ المشكلة الوجودية التي أنتجها المجتمع الصناعي. لذلك يستطيع أي شخص، إن كان قد قرأ ماركس أو لم يقرأه أو يسمع به، في كمبوديا أو الصين أو السودان؛ أن يفهم الجملة التالية: للشخص صاحب المصنع قوة سياسية فوق العامل، تحدّ من حرية العامل جذرياً. لماذا يفهم هذه الجملة؟ الإجابة: لأنه يعيشها. الفكرة العامة لا تُقرأ في صفحات الكتب فقط، هي تُعاش كذلك. وتُعاش بأصالة كاملة.

الفضاء الاستعماري، في المقابل يرفض هذه الفرضية بصورة جذرية: الفرد داخل المستعمرة لا يعيش تاريخه، بل هو ليس له تاريخ، هو مخلوق غير تاريخي، المستعمرون الأوائل مثل بطل قصة (قلب الظلام) كانوا أكثر صراحة: الإنسان الإفريقي هو وجود متوحش أجوف لا تاريخ له. إذا قَبِلنا بهذه الفرضية فيمكن القول فعلاً بأن الشيوعية لا يمكن أن تُوجد بيننا غير منقولة مثل الأسلحة وسفن الشحن و"التقدم" عبر البحر. لكنني في الحقيقة أرى، كما يمكن أن يتوقع القارئ، بأن هذه الفرضية تنتمي لإطار ذهني لطيف في قدرته على الإضحاك. لذلك فلا يوجد لديَّ أي ربط عضوي بين الماركسية والشيوعية. إذا عمَّت الدعوة للشيوعية الإفريقية القارة، فذلك سيكون نتيجة لأن الكادر قد قَبِلَ حُراً بفكرة عامة له مدخل أصيل لها، بل لأنه قام بإعادة خلقها كشيء جديد، وليس لأنه تم شرح (رأس المال أو البيان الشيوعي) في كل قرية إفريقية. ومن يَدخُل للفكرة أصيلاً عن نفسه سيكتشف بسرعة أنه ليس هنالك طرق مختصرة، عليك أن تخلق الشيوعية الإفريقية من الصفر. ربما توجد حقيقة عميقة في كلام الشيوعيين السودانيين عن اكتفائهم بـ"عموميات الماركسية"، لكن ليتهم تخلصوا حتى من تلك العموميات.
لقد تحوّلت الماركسية، عكس ما أراد ماركس ربما، ليس فقط لآلة نظرية جامدة تُنَاسب الأحزاب الإستالينية المتسلطة سابقاً، والشبحية حالياً، بل أيضاً إلى بوابة يُفترض أنها المدخل الوحيد للشيوعية. ما أُجادل به في المقابل، هو أن الشيوعية كأي فكرة قد جاء أوانها، هي أبسط وأكثر عمومية وكونيَّة مما يتصوّره حراس البوابة من الأكاديميين، وهي في متناول خيال وعقل الأطفال أكثر من غيرهم؛ فكلَّما نَقت النفس من شوائب الركون للواقع الراهن والنظرة الضيقة للوجود، كلما وجد الواحد منّا أن المجتمع العادل هو الأصل. وسياسيّاً وبالنسبة للاقتصاد الاجتماعي، فمن الواضح أنه بغير نوع أو آخر من المشايعة لن يكون ذلك ممكناً. وفي حال أراد الكادر أن يتسلَّح بعلم اقتصاد سياسي رصين واختار ماركس، فليست لديَّ رغبة في منعه، اللهم عليه أن يكون من الذكاء بحيث أن لا يرغب بحجب ضوء الشمس ببضع صفحات من كُتب قديمة.

٦. الركائز العملية لمشروع الشيوعية الإفريقية:


أ. مقدمة:

سيكون من الواضح أن الروح التي كُتِبَ بها هذا المقال هي أبعد ما تكون عن الرغبة في وضع خطة أو استراتيجية سياسية. ذلك أنني إنما أسعى لتحرير عدد كاف من العقول، عقول أراها مهمة جذرياً، فهي "المقدمات المُفترضة لعملية الافتراض نفسها" Positing the Pre-Suppositions في التعبير الهيغلي: ليكون الافتراض الشيوعيّ معقولاً، فلابد من وجود عدد كافٍ من العقول تفكّر فيه. والعقل الذي ينتظر الخطة جاهزة هو غير مؤهل هيكلياً لتحمّل هذا المشروع. هذا، ويجب القول بأن مشروع الشيوعية الإفريقية لن يبدأ ولن ينمو في صفحات الصحف (ولا على أرض الواقع، وهذا أستطراد ضروري لكبح النزعة الطفولية للمادية الفجة)، بل عبر تاريخ مُكتَمل لشعوب في مسيرة التحرر. بما في ذلك كل تفاصيل عملية الخلق الإنساني؛ حياة الفرد والمجتمع في الأدب، والفن، والسياسة، والرياضة، وحتى في العلاقات الهامشية بين الأفراد، الصداقة والحب. وربما عبرَ الحرب والعنف.
لذلك فإن التفاصيل أدناه لا تعدوا كونها مُقترحات. هي، ومن ناحية هيكلية، لا يمكن لها إلا أن تكون مجرَّد مقترحات. لكن لماذا أكتبها إذن؟ الإجابة: لأنه في أيّ فكرة، فإن الجدل يدور بين التجريد والمثال الواقعي. عبر عملية الشد والجذب بينهما تنفتح أحياناً فرصٌ لفهم التجريد نفسه.

ب. أسبقية السياسة على الاقتصاد والاجتماع:


في العملية الشيوعية فإن السياسة هي الأساس وليس الاقتصاد. إذا أردنا أن نستصحب المصطلح "البروليتاريا" فعلينا أن نُغيّره: البروليتاريا هي الطبقة الديمقراطية، الأغلبية الساحقة للشعب. المواطنون. مُعَرَّفُون بحقّهم السياسي، وهو الصوت الحرّ داخل القانون السياسي.
وبذلك يمكننا بسهولة فهم أن هدف الشيوعية هو العدل المطلق في القوَّة السياسية. وليس في المادة الاقتصادية. التساوي الكامل الديمقراطي: لكلّ شخصٍ واحد صوت واحد.
وإذا كان تكتيكياً من الضروري تنظيم الناس بناءاً على موقعهم داخل الهيكل الاقتصادي، فإن على هذا التكتيك أن لا يُحَوِّل هدفهم نحو المطالب الاقتصادية، التي هي لا محالة مدخل الطبقة الحاكمة (ضد الديمقراطية) لشراء الكادحين: لاحظ أن أعلى مستويات الحكم بالأقلية يُحدِث في ما يُسمَّى بالدول الاشتراكية، الاسكندنافية، حيث يظل هيكل التوزيع السياسي للقوة معطوباً بينما تتم تلبية المطالب الاقتصادية للمجتمع المنظم اقتصادياً. والمُحصّلة هي مجتمع "سعيد"، سعيد في حالة ركود والتزام بتراتبيات عدة تحدّ من حرية الإنسان وتمنَع عنه التصور الكوني للوجود والذات. هنالك سبب يجعل هذه الدول الاسكندنافية تحديداً، عاجزة، مثلاً، عن اقتراح أو تطبيق حلول للمشكلات الجذرية التي تواجه البشرية، الحرب والتغيير البيئي وغيرها، فبعكس التصور السائد لا تمثّل هذه الدول التطور الأمثل للإنسانية، بل تمثّل النهاية "الاشتراكية" للعملية الرأسمالية نفسها. من داخلها ومن أجلها. وليس ضدّها.
نحن في المقابل نسعى ليس فقط لتحسين الواقع الاقتصادي للناس. بل لتطبيق العدالة كذلك. كمبدأ فوق اقتصادي. كمبدءٍ عامّ. سياسيّ. وذلك يتضمن العدل في توزيع الثروة. بينما العكس غير صحيح.

ج. ما بعد الدولة القومية:


بينما يمكن، تكتيكيّاً، العمل داخل دائرة الدولة القومية المتهالكة، بل من الضروري ذلك، إلا أنه استراتيجياً على الشيوعي أن يفهم عصره: منذ العملية الاستعمارية، ثم اقتصادات الشركات/الدول العابرة للقارات، بات الوحدة المسمّاة الدولة القومية في مهب الريح. فهي لم تعد لا المساحة الجغرافية التي تحد الاقتصاد المحلي، ولم تعد قادرة على حماية مصالح مواطنيها، ولم تعد كذلك قادرة على الحرب. لاحظ، مثلاً، أن بيانات الديون الدولية لدول إفريقيا جنوب الصحراء هي بيانات تكاد تكون كوميدية في استحالتها. الوحدة التي كانت سابقاً كبيرة وجامعة، حيث بإمكانها تحمّل الهمّ الجماعي للأمة داخلها، باتت من الضعف والصغر بالنسبة للاقتصاد المعولم حتى أن مواطنيها باتوا يسخرون منها قبل غيرهم (وذلك بالتأكيد يسير عكس تعريف هيغل للدولة، التي هي الكيان المقدّس الذي يضحّي الناس من أجله في الحرب)، وذلك تَغيُّر كبيرٌ وجذريّ، رغم أنه حدث ببطء فلم يشعر الجميع به بعد.
بالنسبة لنا في المقابل، فالوحدة السياسية التي نراها استراتيجياً هي القارة الإفريقية. كوحدة جغرافية، واجتماعية وليست عرقية. وبينما تسعى الطبقة الحاكمة في إفريقيا اليوم للوحدة من باب الضرورة، فإنها ستعجز دائماً عن تطبيقها. لأنها لا تملك الطاقة الاجتماعية الديمقراطية، ولا النظرية السياسية المبنية على مبدأ العدالة، ولا تفهم، كذلك، الأساس الروحي للوحدة الاجتماعية. نحن في المقابل نعمل استراتيجياً لتطبيق نوعٍ أو آخر من الديمقراطية في كلّ قطرٍ إفريقيّ، إيماناً بأن أفضل أساسٍ للوحدة هو الحرية السياسية للأفارقة، وسنقوم بتوفير الظروف الموضوعية للوحدة بإلغاء المنافسة الرأسمالية بين الشعوب (والتي تقود الطبقات الحاكمة لتفضيل حصتها الضيّقة محلياً على القوة الجماعية للأمم)، وكذلك بتوفير فكرة الشيوعية الإفريقية كفكرة روحية تتجاوز المصالح والمادة لكونها قضية عامة، تهدف لتحرير الأفارقة وإلهام البشرية قاطبة عبر خلق نظامٍ سياسيّ اجتماعيّ جديد، هذا الأساس الروحي للأمم لن يكون بالإمكان توحيد أيِّ شعبٍ بدونه، ناهيك عن توحيد قارةٍ بأكملها.

د. الدستور: البداية والنهاية


كان أليكس دي توكفيل قد لاحظ أن ما يجعل الدستور الأمريكي راسخاً هو أنه كُتِبَ قاعديَّاً قبل أن تُصَكّ بنوده من قبل النخبة. لهذه الملاحظة قيمة كبرى:

عندما يعمل الشيوعي الإفريقي من أجل ترسيخ العدل، فإنه ليس وصيّاً على الناس يحرّرهم رغماً عن إرادتهم. ولا راغباً في ضمانٍ قاطعٍ بحلول العدل بين الناس. لقد أدَّت العقيدة القائلة بأن العدالة تمرّ عبر التحكم السياسي من أعلى إلى أكبر أنواع التدمير السياسي للمجتمعات.
طريق الشيوعية الإفريقية، في المقابل، هو عبر تجذير العقيدة بين الناس في شكل مبادئ عامة يخوض بها الناس صراعهم اليومي التكتيكي مع النظام الحالي، ويكتشفون داخلها نوعاً من الحياة أفضل من التراتبيات السائدة اليوم. ولاحقاً، في خلال عملية التحرر الإفريقي، عندما تصل الشعوب للحظة التفاوض على المبادئ الدستورية التي يريدون لها أن تحكم الكونفيدرالية، فإنهم سيكتبون المبادئ الشيوعية الإفريقية في الدستور. الدستور القابل للتغيُّر ديمقراطياً، والمحروس برغبة عموم الناس فيه وليس بأيّ شيءٍ آخر. ولأن الشيوعي الإفريقي يفهم أن الصراع الاجتماعي لا ينتهي، فإن الأحزاب الشيوعية الإفريقية تبقى حيَّة وفاعلة من أجل الحفاظ على مبادئ الجمهورية الشيوعية. المبادئ التي لا يضمن استمرارها إلا استمرار الشعوب في حصد نتائجها إيجاباً.
بدلاً من التخطيط المركزي للاقتصاد، والتوزيع العبثي للموارد من قِبَل الدولة، فإن المبدأ الشيوعي الدستوري يؤدي إلى تطبيق عملي للعدالة عبر الهيكل السياسي الاقتصادي الناتج عنه. مثلاً: يتضمن الدستور بنداً يجعل للعامل حقَّاً في الإدارة والتملك للمشروع الجماعي. يتضمَّن الدستور بنداً يجعل ملكية الأرض جماعية، تعود للوحدة الاجتماعية الصغرى (المدينة أو القرية إلخ). يتضمَّن الدستور بنداً يمنع أية عملية تدمير بيئي. يتضمن الدستور بنداً يمنع استقواء أي مواطن سياسيَّاً على أيّ مواطنٍ آخر عبر المادة (مثلاً عبر امتلاك أجهزة الإعلام وتسخيرها للمصلحة الخاصة) وهكذا. بحيث يعكس الدستور المبادئ العامة التي يؤمن الناس بها ويجعلها حدوداً قانونية يتعامل المجتمع معها كحقائق. وما ينتج كتاريخ أجتماعي عن الالتزام بهذه المبادئ، لن يخضع فقط لعقيدة الناس في الأرض، بل لصراعهم حولها. الصراع الذي سيستمر حتى يستقر المجتمع على وضعٍ يُصبح بمرور الوقت ثقافة وطريقة حياة.

ما أودّ قوله هو أن عملية الصراع من أجل الشيوعية الإفريقية، عملية التبشير بها، وتنظيم الناس بناءاً على عقيدتها، العمل الجماعي من أجل خلق بؤر إنتاجٍ وتوزيعٍ للثروة أفضل للناس، ذلك سيُنتج ثقافةً سياسية تَنعكس على الدستور، ومن ثم ينعكس الدستور، بصفته إحدى نقاط الانتصار المهمة، على الصراع نفسه. لكن في كل تفاصيل هذه العملية، تعمل الشيوعية الإفريقية على تفكيك أجهزة الدولة بالتقسيم الكونفدرالي ثم المناطقي، وتركيز القوة محلّياً من خلال العمليات الديمقراطية التشاركية والتقريرية. أي أن وسيلة الشيوعية الإفريقية للحكم لا تمرّ عبر جهاز البرجوازية التاريخي المُسَمَّى الدولة. بل عبر أجهزة الشعوب في القاعدة، وهي المجتمع المدني الحر.

ه. الدولة، الفيدرالية، الكونفيدرالية والجيش:


يمكن للشخص (السوداني خاصة) أن يتساءل: ماهو هدف أو سبب وجود الدولة المركزية؟ والإجابة هي:
١. توفير الحماية الأمنية لأصحاب رأس المال. وشبكات الفساد من حولهم.
٢. الاستعداد للحرب.
كل ما عدا ذلك يمكن تنظيمه في وِحدات أصغر. مثلما نرى في دول صغيرة جداً هي بحجم المدن. لذلك فالدولة هي، هيكليَّاً، أداة للطبقة الحاكمة، ليس لأنها الطبقة التي تَحكُم، بل لأنها الطبقة التي تستفيد من عمليّة الحُكم والتحكُّم.
من المنظور الشيوعي للمستقبل، فإن عملية الاستعداد للحرب تأخذ شكلاً مختلفاً: مع تجذّر العمل الاجتماعي في أكثر من قطرٍ جار، ووجود أنواع من الأحزاب الشيوعية القوية في كلّ قطر، وتطوير أنظمة الحوار والعمل المشترك عبر الحدود، وصولاً لدرجات الاتحاد الاقتصادي والسياسي المختلفة، ونَزع السلطة، ولو تدريجياً، من النخب المتحالفة مع الاستعمار؛ فإن خطر الحرب العَبَثِيَّة بين القطرين الإفريقيين أو أكثر ستقل. وسيصبح بالتالي للجيش الوطني الواحد قيمة أقل. خاصة إذا أخذنا في الاعتبار بأن هذه العملية تتضمن عَمَلاً جادَّاً من أجل الديمقراطية التي هي الحلّ الجّذري لمشكلة الحرب الأهلية، إذ عبرها ينفتح الطريق أمام الشعب، أو الشعوب المختلفة في نفس القطر، للتفاوض بلا سلاح.
خطر الحرب في هذه الحالة سيكون الحرب التي سيشنّها الاستعمار. الذي هو ما يزال يَحكُم عبر تهديد الحرب. وما أُجادل به هو: الجيوش الحالية ليست قادرة على حرب القوى الاستعمارية لأسباب عديدة، أولاً هي مركزية وبطيئة بما لا يناسب الحرب مع قوّة حديثة، ثانياً هي متأخرة بصورة حاسمة فيما يخص سلاح الجوّ، وبالتالي فهي قادرة فقط على الحرب بعد انتهاء عملية التدمير الجوي لأرضها. ولذلك نرى الدول الإفريقية خاضعة تماماً للابتزاز، مهما كان غير معقول. (مثل قضية ديون الدول جنوب الصحراء، أو القبول بالتدخل الاستعماري سياسياً في كل الأقطار الإفريقية تقريباً).
ما أُجادل به كذلك هو أن الاستعداد للحرب الدفاعية ضدّ الاستعمار يتم بصورة أفضل، وغير قابلة للهزيمة، في حال كانت الوحدات العسكرية مُقسَّمة وغير مركزية. وحدات صغيرة بحجم الوحدات السياسية الصغيرة للمناطق. مكوَّنة من جنود من أهل المناطق أنفسهم، وجنود احتياط هم السكان. بلا قيادة مركزية وبتبعية مباشرة للدستور الذي يسمح لها بالقتال في حالتين فقط: ضدّ جيشٍ أجنبيّ محتل، أو في حال خروج أي منطقة أخرى على الدستور. وبالتالي لا تكون لعملية احتلال قطعة من الأرض قيمة، إلا إذا تم كذلك احتلال كلّ شبرٍ آخر من الأرض. وفي نفس الوقت يزول تهديد الجيش المركزي من سكان الأطراف في القارة، والذين تحولوا، بسبب هذا التهديد، لهوامش فقيرة ومُهمَلة، واضطروا للحرب ضد المركز المُستفيد اقتصاديَّاً من هذا التهميش.
كذلك فإن تحول الجيوش لوحدات صغيرة مرتبطة عضويّاً بمناطقها، يجعل من عملية الانقلاب على الدستور عمليّة غاية في الخطورة، فهي في نفس الوقت، غير محميّة بجيش مركزيّ، ومُهدَّدَة بحربٍ متكافئة بين أطراف عدّة. وبالتالي، فإن عملية الانقلاب على الدستور ستكون مخاطرة تؤدي، في أسوأ الفروض، لفوضى محدودة جغرافيّاً. ومع وجود واقع اقتصادي جيّد لأغلب الناس، فإن هذه المخاطرة لن تكون مُثمِرة.
وبالنسبة للضرائب وعمليات التنمية العابرة للوحدات الصغيرة، فإنه يمكن تنظيم هذه العملية بلا حاجة للدولة في شكل منظمات غير ربحيّة، يقرّر الناس ديمقراطيةً تقديم دعم ماديّ جماعيّ لها، وتتولى، عبر إدارةٍ مُحَاسَبةٍ ديمقراطيَّاً أمامهم، المجال العام المعيّن. على سبيل المثال، لبناء طريق عابر للقارة يمكن لهذا الأمر أن يتم عبر منظمة غير ربحية، شفافة، وخاضعة للمحاسبة من قبل الناس بعد موافقة كل المناطق التي يمرّ هذا الطريق عبرها. بدلاً عن تولّي دولةٍ مركزيةٍ ما كلّ عمليات التنمية في شكل جهاز قابض، واسع الصلاحيات، يُمثِّل هو نفسه خطراً على الكلّ مع مرور الوقت.
عندما نرسم خريطة الشيوعية الإفريقية في أذهاننا علينا أن لا نرسم قارة كبيرة متّحدة لها بضع عواصم ثرية، يرغب جميع الأفارقة بالعيش فيها، بل وجوداً كونفيدراليّاً يتنقل الناس فيه بين مناطق كلها حيَّة، وفاعلة بالتساوي؛ عملية إثراء عام للوجود الإفريقي مبنيّ على القبول الطوعي والحكم الذاتي، واقتراح حلول محليّة وتبادل لخبراتٍ مختلفة، وأنواع أصيلة من المجتمعات التي لا تَرى في اختلافها مَنقَصَة. إذ الشيوعية ليست إلا مبادئ عامة قابلة للتطبيق بين شعوب لها تاريخها وثقافتها الخاصة.

و. الاستعداد للعنف:


يفهم الشيوعيون الأفارقة هيكل القوة بشكلٍ جيد. وبذلك تكون النتيجة التالية متوقعة: حال انتظام الحركة الشيوعية الإفريقية في بلد ما، فإنها تُهدّد مصالح الطبقة الحاكمة، أو هي لا تعمل عملها. وهذا التهديد يؤدي لكل أصناف العنف السياسي والاجتماعي. ويتوقّع كذلك أن يتركَّز العنف على الكادر الفرد أكثر حتى من الحركة الشيوعية عامة. إذ بكَسر قُدرَة الكادر على الإيمان والعمل يتم شلّ الحركة الشيوعية بتحويلها لتجمّع من الأفراد المُحَاصَرين والمكتئبين.
لذلك فإذا تم تلخيص دور المنظمة التي هي الحزب الشيوعي الإفريقي فهي: الاستعداد للعنف.

لكن العنف، في فكر الشيوعية الإفريقية، هو عنفٌ دفاعيٌّ حَصْرَاً. رغم أننا نتوقع بصورة تُقارب اليقين من أعداء العدالة أن يقابلونا بالعنف، إلا أننا نختار بصورةٍ حُرَّة أن ننتظره حتى يبدأ. هذا الهيكل هو هيكل مختلف عن التحضير للعنف بعد وقوعه.
والاستعداد للعنف يأخذ أشكالاً عدّة، أولها تجويد أسلحة اللاعنف. لأن ذلك يُحضِّر للمعركة في خلفية تعاطف المجتمع مع أحد أطرافها ضد الآخر. وفي هذا الإطار يعمل العنف المنطلق ضد الحركة الشيوعية الإفريقية على تسريع الاصطفاف الاجتماعي خلفها. وأخلاقياً، لا يمكن تربية الكادر الشيوعي على البدء بالعنف وتَوقُّع أنه لن يتحول لآلة فاشية.
مع ذلك لا يمكن لأي حركةٍ تسعى لتغييرٍ تاريخيّ له معنى أن لا تتحضر لعنفِ مُرَكَّز. بداية من تدريب الكادر على استعمال السلاح، ونهاية بتوفير حواضن واسعة لكادرها تحارب معه وقت الضرورة. إن تحول العمل الشيوعي لعمل نخبوي بين الطلاب والمثقفين هو، غير أنه تكتيكٌ قصيرُ نظرٍ يرى فقط الطاقة التقنية للمتعلمين، ولا يرى الطاقة الاجتماعية للقواعد الكثيفة، إلا أنه كذلك تكتيكٌ ضعيف من ناحية الاستعداد للعنف.

ز. إفريقيا والعالم:


تعمل الشيوعية الإفريقية على توفير إجابة معاصرة على السؤال التاريخي الذي هو القارة الإفريقية. ولا يجب أن يُصاب الكادر الشيوعي الإفريقي بجنون يجعله يرغب في حل مشكلة الآخرين. إلا أنه كذلك يرغب في توفير تجربته الخاصة للبشرية جمعاء كتجربة فيها شيء يمكن التعلّم منه. مثلما نتعلّم نحن من الآخرين. هذا على صعيد النظرة الكلية.
أما على الصعيد العمليّ، فلإفريقيا علاقة شائكة مع العالم. تحديداً مع القوى الكبرى فيه. وهذه العلاقة لن تُحلَّ إلا بصراعٍ مباشر. تكتيكياً يحدث في شكلِ تفاوضٍ مرحليّ، يجب أن تتم دراسته جيّداً، بحيث لا يُفاوض الأفارقة على البنود الخطأ. ويقبلون بالتنازل الخطأ. كما يحدث يوميّاً الآن. أما استراتيجيّاً فإن الحرية الكاملة للأفارقة لن تتم بغير تحوّل كامل في النظام العالمي لنظام ديمقراطي، تسيطر عليه الشعوب عبر ممثليها المنتخبين، وليس بنظام العصابات المسلحة والشركات العابرة للقارات الشمولي الحالي. وفي هذا المجال فإن للأحزاب الشيوعية الإفريقية حلفاء في كل أرجاء العالم تسعى لتعاقدٍ مبدئيّ معهم، من أجلنا ومن أجلهم. فخطر التهديد البيئي والحرب النووية والابتزاز الاقتصادي بات يشمل الكل تقريباً إلا أقلية عولمية صغيرة تَجِب هزيمتها.
وفي هذا الإطار، ورغم أن الشيوعية الإفريقية لن تُبشّر بيوتوبيا تقنيّة من أي نوع، فإنه مع ذلك من الضروري التركيز على عملية نقلٍ لعلوم التقنية الضرورية لتنمية معقولة، غير عبثية وغير ضارة بالبيئة، تلبّي الاحتياجات الأساسية للإنسان الإفريقي.

ي. خاتمة: لماذا الشيوعية الإفريقية كمشروع عام؟


من الضروري أن يفهم الإنسان عموماً، والإفريقي خصوصاً، بأن الوجود الاجتماعي التاريخي، هو، قبل أن يكون مشكلة، فُرصَة. إن عملية التدريب المدرسي للإنسان على أن يقبل واقعه كما هو، ويقبل بالتالي حياته كمسيرة مُصمَّمة سلفاً، هي ليست عملية محزنة فقط، بل وخطيرة. فالوجود الإنساني (الذي هو مشكلة وفرصة في نفس الوقت) غير قابل لمثل هذا النوع من التعليب الصناعي. وحال قبول هذه النظرة له، فإن أبواب الموت ستُفتَح: قبولنا كالأفارقة بالواقع الحديث الاستعماري فَتَح علينا أبواب الحروب الأهلية، والركود الفكري، والاختناق الاقتصادي، وضاعت أجيال عدة داخل سراب المسيرة المُصَنَّعة المنتظرة. الوجود الإنساني في المقابل يتطلب أن يُؤخذ كعملية حياة كلية، يسعى فيها الإنسان لامتلاك مصيره، وامتلاك حرية الخَلق لما يريده، وما يريده الناس فعلاً، كرغبة أصيلة، هو ضرورة عملية في نفس الوقت. إذن فالخيار هو إما الموت أو الحرية. والحرية هي أن يحقق الإنسان، ومجتمعه، الحقيقة التي هي هُم.

و … "قل اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء".

تم نشر المقال على صحيفة الحداثة السودانية -في جزئين- بتاريخ ديسمبر، ١٦، ٢٠٢٢

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

قراءة نقدية لورقة المبادئ فوق الدستورية

قراءة نقدية  لورقة المبادئ فوق الدستورية 

بقلم: محمود المعتصم

يوليو ٢٠٢٠

 

(1)   الحزب و المثقف 

ما تزال ورقة عبد الله علي إبراهيم "المثقف و الحزب"، والتي أرسلها إلى المؤتمر السادس لحزبه الشيوعي السابق، ما تزال، في رأيي إجدى أفضل قطع الأدب السياسي السوداني، وهو أدب ثر. شرح عبد الله إبراهيم في الورقة وضعه المستضعف، كمثقف متفرغ، في حزب شيوعي منهك. إذ لا إستقلالية له ولا إحترام. وقد أدى المناخ الطارد إلى هجرة المثقف، في حالة إبراهيم، لخارج الحزب. تكمن أهمية الورقة في أنها قابلة للتعميم، ومن ثم يمكن للأحزاب كافة أن تتبنى حلولا لهذه المشكلة عبرها. إذ الأحزاب السياسية هي طلائع الإنتلجنسيا بشقيها الحركي والثقافي، لا تستقيم الواحدة بغير الأخرى. (أنا أقترح علاقة أكثر إشكالية وتعقيدا بين المثقف وحزبه، لا يتسع المجال لها هنا).

حالة الإفقار الثقافي في الأحزاب جعلت السياسة تتحول لتكتيك لا نهائي. نسميه سياسة رزق اليوم باليوم، بلا وجود للأسس النظرية الصلبة التي تشكل الإستراتيجية صعبة التغيير. هذه الحالة من التكتيك الرزق اليوم باليوم تفقد الحزب القدرة على الظهور كمؤسسة ذات رسوخ مبدئي. وهنا يتم الإستعاضة عن المبدئية الإستراتيجية بمبدئية هتافية و "لا تساوم و إن منحوك الذهب..." وما تعرف ايه. 

ظهرت حالة الإفقار الثقافي وغياب الإستراتيجية والتأسيس النظري في حزب المؤتمر السوداني ودعواه إلى العلمانية. جاءت الدعوى مشوشة ومتناقضة وغير واضحة. قادها الحركيون من البداية إلى النهاية. والحركي يسير في ليل الثورة وحيدا، ضائعا منفردا، وستأتيه تباشير الخريف، في تعبير الراحل أبوذكرى. 

في البداية خرجت الدعوى للعلمانية من خالد سلك، "العلمانية" ذكرها بالإسم. ثم قام الحزب بتقديم رؤيته السياسية لحسم القضايا المصيرية فذكر العلمانية معرفة بمضمونها (كما يرى الحزب) وهو "الفصل بين الدولة والمؤسسات الدينية". ثم قال نائب رئيس الحزب مستور أحمد محمد "وعليه يجب أن يتم إتخاذ قرار تاريخي بالنص على فصل الدين عن الدولة، إذا كان المقابل تقرير المصير" (بوست منشور في صفحة الحزب على فيسبوك بتاريخ 22 فبراير). 

وهنا تظهر ثلاث إشكالات. الأولى هي عن السؤال حول "الإسم"، النقاش بين موقف خالد سلك (يسمى في تعبيرات السياسة الطفولية بالمصادم)، وموقف الحزب المتواري. لماذا يمثل الإسم مشكلة؟ وما هو الحل؟ (يقترح كاتب المقال أن الموقف الإستراتيجي يجب أن يكون تسمية العلمانية بإسمها أيا كانت التبعات الآنية. لا يتسع المكان لشرح المسألة لكن ربما أقرب تحليل لهذه المشكلة هو تحليل ورطة الحزب الشيوعي في إسمه، وأحداث ما سمي لاحقا ب "نصيحة الرفاق السوفييت"، يمكن مراجهة مقالات عبد الله علي إبراهيم "عبد الخالق محجوب: ويولد الإنقلابي من الثوري"). 
الإشكالية الثانية هي إشكالية تعريف العلمانية. فالتعريف الذي جاء به الحزب متواريا يبدوا ركيكا لأبعد حد. تظهر خلفه ذات غير واعية بما تقول. وربما لا يتجاوز هذا التعريف ركاكة إلا تعريف آخر للعلمانية وجدته في موقع حزب المؤتمر السوداني نفسه على الإنترنت: 


"  العلمانية: بمعنى اعتماد نسبية المعايير على مستوى المعرفة والممارسة الاجتماعية، والقطيعة (بالمعنى العلمي/التاريخي/النسبي) مع البنى الفكرية الأسطورية والدينية الإطلاقية (أي جعلها مقيسة وليست مقياساً). ومن ثم رفض كل المشاريع التي تستند إلي أبعاد غيبية تكرس القهر والاضطهاد ونفي الآخر." 

وهنا يظهر واضحا سبب ركاكة التعريف المتواري. وهو أن التعريف الذي كان يفترض به التأسيس النظري للإستراتيجية كان غرائبيا تفوح منه سماجة فلسفية سطحية وفاقد لأي قيمة. 

الإشكالية الثالثة هي إشكالية تقديم التكتيك الدائم على الإستراتيجية. فمستور و هو إبن مدرسة الحركيين الطلابية التي أفرزت غالبية الكادر الحركي اليوم، قام بتحديد شديد الغرابة: "إذا كان المقابل تقرير المصير". وماذا إن لم يكن المقابل تقرير المصير؟ وما مشكلة تقرير المصير تحديدا؟ وهل سيكون التعامل معها "تفاوضيا" بهذا الشكل، كلما رفع كرت تقرير المصير ككرت تفاوضي برجوازي صغير رجعنا نتقهقر و نقابل المساومة غير المبدئية بمساومة غير مبدئية أخرى؟ 

 

لا يمكن حل المشاكل السياسية بهذه الأحزاب. حركية الشكل والمضمون. إنني أأمل، لمصلحة بلدنا، أن تبدأ الأحزاب في تكوين أفرع ثقافية، وعلاقات ثقافة مع أكاديميين ومفكرين من خارج الحزب، يتبنى الحزب رؤاءهم ويدربه كادره عليها. ولا يشترط بالمثقف أن يكون عضوا في الحزب ولا مؤيدا لسياساته قاطبة. هذا الانفتاح على الأفكار وتبنيها حزبيا سيمنح الأحزاب فرصة خلق مثقفين أساسيين له بدون الحاجة لأن يكونوا أعضاءا في الحزب ولا أن يكونوا أحياء حتى. في بلد يكتب فيه عبد الله النعيم وعبد الله علي إبراهيم عن العلمانية والإستراتيجية الحداثية التقدمية لها، برصانة شديدة، لا يصح أن تنخفض ممارستنا لنوع من الهرج التكتيكي. 

 

(2) سلامات وشالو: الوجه الآخر 

 

في المقابل، قامت الحركة الشعبية عبر تقديمها كتيب المحاميين متوكل سلامات و إدريس شالو، بوصفه جزءا تأسيسيا من خطة الحركة الشعبية جناح الحلو، قامت بوضع التراتبية الصحيحة للعمل السياسي. فالتكتيك تابع لتأسيس نظري واضح. وينشر هذا التأسيس للعلن ليتم تمحيصه ونقاشه أولا، وليتم التدرب عليه والتربي عبره ثانيا. ربما صقلت الحرب أحزابنا المسلحة بأكثر مما توفر لرصيفاتها السلمية التي حولت نفسها لآلات "أنتي كوز" ضعيفة. 

 

لكن هنالك مسائل بالنسبة لرؤية الحركة الشعبية تجعلها إشكالية لحد بعيد. فليس كل تأسيس استراتيجي صحيح. وربما تكون الإستراتيجية الخاطئة أكثر خطورة من التكتيك الخاطيء. لذلك أعيب على أستاذتنا متوكل سلامات وإدريس شالو أن ورقتهم لم تخل من تسرع وعدم وضوح. سأحدد نقدي بالنقاط التالية: 

 

1.      ما هي العلمانية؟ 

في رأيي لم تقدم الورقة توضيحا كافيا للعلمانية. خاصة وأنها ورقة "قانونية" ذات طابع تأسيس نظري للدستور. فلا يمكن هنا أن نكتفي بعموميات عن "التجارة بالدين" و "الإبادة الجماعية" وغيرها من لوازم اليسار الثقافي هذه الأيام. 

لقد قمنا نحن السودانيون عبر تاريخ طويل صلب، بتعريف العلمانية. بلا استيراد ومن لب واقعنا القاسي. حيث بدأت مسألة العلمانية عندنا عندما طرح الدستور الإسلامي إبان الجمعية التأسيسية بعد الإستقلال. وكان النواب الجنوبيون رأس الرمح وقتها في الدفاع عن حق المواطنة المتساوية وحياد الدولة تجاه الثقافات والأديان، يشرحون "العلمانية السودانية" بوضوح من على كراسي البرلمان (أذكر هنا مناظرة الترابي مع نتالي ألور بعد ثورة أكتوبر). ولم تكن تلك العلمانية نتيجة تأثر بالفكر الفرنسي أو الأمريكي، فقط، بل كانت مصطلحا نمى بيننا لندافع به، وبتعريفنا الفريد له، ضد فكرة الدستور الإسلامي التي طرحتها القوى الطائفية والإسلامية. وفي حين تعرف هذه العلمانية نفسها بأنها حياد الدولة الكامل تجاه الأديان، والإلتزام بحقوق المواطنية المتساوية بلا تمييز ديني، والإلتزام بالتقرير "العلماني" الذي هو تقرير الشعب الديمقراطي وليس سلطة نصوص الدين السماوية. حيث لا يشمل هذا التعريف منع الأحزاب ذات الخلفية الدينية بل يرى فرصة وجودها المشترك تحت ظل الدستور العلماني. في مقابل هذا فإنه هنالك تعريفات أخرى وجدت في التاريخ. رأت بأن العلمانية تشمل منع تدخل أي مؤسسة دينية في السياسة. بل هنالك خطوات أبعد، إذ قامت بعض العلمانيات الغربية والعربية بشمل التعليم العلماني (يعرف في هذا الاطار بالتعليم الإلحادي) إذ يشمل تعريف العلمانية هنا تطهير أذهان الناس من الخرافة وغيرها. عبر المدرسة.

في ظل هذا التباين لا يوجد في ورقة سلامات وشالو ذكر صريح لوضع المؤسسات الدينية (بما فيها الأحزاب) في دولتهم العلمانية. وهذا كذب بالفط lying by omission في عرف الثقافة. لا يحترم عقل القاريء. وأكثر من ذلك: يكتب سلامات وشالو في متن النص نوعا من الخطاب السياسي الصارم ضد الإسلام السياسي يجعل الواحد منا يشك أنهم أقرب للعلمانية الفرنسية من العلمانية السودانية (وفيه تسويف شديد في ورقة تقترح مباديء فوق دستورية جامعة و ليس خطابا عاطفيا ضد مخالف): 

"وفي الوقت ذاته يتردَّد ويتخوَّف الجُناة والمُتحالفين معهم من العيش في حرية وعدالة ومُساواة وفق تدابير مُحدَّدة تمنع فرض هويَّة إسلاموعروبية وتُجرِّم الرق والإسترقاق وتمنع الإضطهاد الديني والعنصري وتسييس الدين وغيره"

وكذلك نقرأ في الورقة: 

"فبالرغم من تخوُّف الأستاذ/ نبيل من الإسلام السياسي وبعض الفلسفات العلمانية إلا أنه لم يشر في بحثه المذكور إلى مبدأ العلمانية أو الفصل بين الدين والدولة كضرورة يفرضها إستغلال الدين الإسلامي في الصراع السياسي لعقود من الزمان"

 

كيف يقترح سلامات وشالو منع تسييس الدين؟ ومنع استغلال الدين في السياسة؟ عبر الدستور؟ (يجب التفريق هنا بين المنع القانوني و الادانة الأخلاقية. فقد يكون من المشروع ادانة استعمال الدين في السياسة، الرأي الذي أخالف إطلاقه هكذا، ولكنني أحترمه، أما المنع القانوني فهو في رأيي غير مشروع وضد الحرية التنظيمية وحرية العقيدة) في بلد إختلط فيه الدين بالسياسة لفترة طويلة جدا، يصعب معها تخيل تفريق "ديمقراطي" بين الدين والسياسة، بمعنى أن يترك للناس الأمر من تلقاء أنفسهم، ويثير الشك في رغبة القيام بهذا التفريق بالقوة. (من هي الجهة التي ستتولى المنع؟ وكم هو مقدار العنف المطلوب لتنفيذ ذلك؟ وبأي شرعية؟)

من جانب لا تقوم الورقة بإقتراح طرح واضح من مسألة "المؤسسات الدينية" و من جانب آخر تتحدث عن تدابير قانونية تبدوا لي "قاسية" لمنع "تسييس الدين". إن كانت الشموليات العلمانية في شكلها الماركسي قد بدأت بنوع من التنظير شديد الوضوح والقسوة. فإن ورقة سلامات وشالو ربما توضح إحدى الفروق الجوهرية بين الماركسية والفاشية، الأولى حتى في فشلها فهي نظرية واضحة، الأخرى هي عملية التحريك العنيف للناس ضد الوضوح تحديدا. (نعم، أنا أصف الكتابة هنا بأنها 
proto-fascist، إذ يتسنى لها أكثر من عنصر فاشي: السلاح والشعبوية والتأطير العرقي و"الآخر" الذي يمثل الشر المطلق "الإسلاميون أو الاسلاموعروبيين في هذه الحالة". وقد يكون المحضر للعنف الفاشي شحصا جيدا، ويبدو أن سلامات وشالو من هذا النوع، لكن عموما فإن شكل الإنتهاكات التي تم اتهام حركة عبد الواحد محمد نور بها من قبل الأمم المتحدة، و أشياء مثل أحداث أبو كرشولا يجب أن تجعلنا لا نغفل إمكانية التحول الفاشي في مسألة النضال من أجل المهمشين، مهما حسنت النوايا". 

 

2.      مسألة المفوضية الدستورية: 

البداية هنا يجب أن تكون الحديث عن الديمقراطية. كشفت ثورة ديسمبر وهي ثورة "ديمقراطية" شكلا ومضمونا. ثورة الحشود الأغلبية ضد الأقلية. بلا قوة سوى قوة الكثافة الديمقراطية نفسها، بلا سلاح وبلا سند خارجي. ثورة تكاد تكون خالية من فكرة سوى الديمقراطية وبعض الحديث الجانبي عن العدالة. تكتيكها ديمقراطي (التظاهر الطويل جدا المنهك للدولة) وهدفها الإستراتيجي في رأيي هو التحول الديمقراطي فقط. كشفت هذه الثورة بؤس رأي النخبة في الديمقراطية. 

ويظهر هذا البؤس في عدد من الطبقات: 

أولا، الرؤية الرومانسية للديمقراطية. في رأي النخبة فإن الديمقراطية ليست عملية واقعية تستند على فرضية أن حكم الشعب أفضل من أي سلطة أقلية. وبالتالي هي ليست أفضل شيء (أفلاطون قديما وضح اشكالية فكرة حكم الشعب، وهو محق تماما) بل شيء سيء ولكنه أفضل الموجود لدينا، في تعبير وينستون شيرشل. 

ثانيا، من هذا التصور الرومانسي، تسعى النخبة لتبرئة الديمقراطية من كل عيب. تحاول النخبة أن تجعل العملية الديمقراطية والنتائج شيئا واحدا. هي لا تقبل الإنفتاح الضروري في المسألة الديمقراطية، أن تقريرالشعب هو، ومن واقع أنه حر، تقرير لا يمكن فرض نتيجة مسبقة عليه. فرض النتيجة المسبقة مهما كانت هذه النتيجة جميلة يلغي تلقائيا العملية الديمقراطية. 

ثالثا، يغيب في نظر النخبة أهم بند في العملية الديمقراطية، وهو بند "فراغ موقع السلطة"، حدثت في التاريخ ديمقراطيات قررت أشياءا سيئة، ولكن مبدأ فراغ موقع السلطة يجعل تغيير السيء لشيء أفضل ممكنا. بينما حلول القائد أو الجيش أو الكنيسة أو رجل الدين أو المثقف، في موقع السلطة يمنع التغيير التدريجي ويقفل باب التطور التاريخي. لذلك تكون الأنظمة الشمولية أنظمة ذابلة مثل النظام الاستاليني، مهما كانت المباديء التي بنيت عليها جميلة، بينما تتطور الليبرالية الأمريكية تدريجيا ومن داخل النظام لتوسع أفق الحريات من أقلية إلى أخرى بصورة مستمرة. وبعد بند فراغ موقع السلطة تأتي بقية البنود، مثل الفصل بين السلطات والتبادل السلمي للسلطة وغيرها، بل هي من متطلباته. فموقع السلطة غير المحكوم بقوة ثابتة يطلب وجود كل الهياكل والأنظمة الديمقراطية بصرامة شديدة وإلا تحل الفوضى. 

رابعا، أن التأسيس الديمقراطي للمباديء الديمقراطية لا يلغي هذه المباديء بل هو الصانع الأوحد لها. إذ بينما تهتم الأقلية بمصالح مباشرة واضحة لها، وبالتالي حال إتفاقها على مباديء ما فإنها ستربطها بمصالحها الضيقة، فإن الأغلبية الديمقراطية، وهي عموم الشعب، تسعى دائما لمباديء عامة، إذ المصلحة هنا عامة. (سيحدث أن تمارس الأغلبية ضيق الأفق كذلك، لكن الأقلية المتسلطة يتوقع منها ذلك بصورة أكبر).

خامسا، يشيع عند اليسار السوداني هذه الأيام إنتقاد "ديكتاتورية الأغلبية" بإعتبارها خطرا. ويستند هذا اليسار على أغلبية الطائفيين والإسلاميين بعد ثورة اكتوبر التي طردت الشيوعيين وقامت بتجريد الجنوبيين من مواطنتهم الكاملة. ولكن هذا الإنتقاد هو قفز في الظلام. إذ يلوح في خلفية هذا الإنتقاد رغبة في تجريع الناس غصص السعادة من أعلى. أن تفرض على هذه الأغلبية الديكتاتورية الأمور الصحيحة، لمصلحتهم. وهذا الفرض، وتحديدا لأننا نتكلم عن الأغلبية هنا، سوف يكون ولابد مسنودا بسلطة سياسية قاهرة. هذه النظرية ولدت شموليات التقدميين الأفارقة والعرب بعد الإستقلال. وهي لم تؤدي لأفضل مما خرجت عليه. أقول أنا أن حل ديكتاتورية الأغلبية (الظالمة للأقلية والمنتهكة للمباديء الديمقراطية التي نتفق جميعا أنها المواطنة المتساوية والحرية وعلمانية الدستور) هو ليس في تنصيب أقلية ما كحاكم أعلى محدد لمباديء الشعب، بل في تجذير ديكتاتورية الأغلبية: أن تتحول هذه الأغلبية في وعيها إلى أغلبية ديمقراطية راغبة في الدولة الحديثة. لماذا أسمي هذه الأغلبية بالديكتاتورية؟ لأنني أود التذكير بأنه هنالك دائما، في الديمقراطية، أقلية (ضد-ديمقراطية) يتم قمع رأيها. فبدلا من تجريم الأغلبية علينا أن نرى أنها مصدر السند الحقيقي للمباديء الديمقراطية و أن مجال تغيير رأي الأغلبية هو ليس القوانين الفوقية ولا السلطة الجيدة، بل النقاش والحوار والعمل بين الناس. 
ومما يقفل مساحة الحوار هو "القنع" المبكر من الناس. إذ يؤدي ذلك لإستعدائهم و سلك سبل التغيير الفوقي الذي يعمل الهوة بين الطبقة السياسية التقدمية والشعب. وبذلك ندخل في حلقة مفرغة: الناس متهمون من النخبة بأنهم شموليون، وهذا الإتهام يؤدي لإبعاد الناس أكثر من النخبة. 

 

بسبب هذه المشاكل، يشيع عندنا ضيق الصدر بالعملية الديمقراطية ومحاولة الإلتفاف عليها. أود أولا أن أشيد بأن ورقة سلامات وشالو قد أقرت بمبدأ الإستفتاء كوسيلة لإجازة الدستور. وذلك ربما قطع الطريق على تيار بدأ يتشكل، يدعوا لدستور (أو مباديء دستورية) لا تجيزه الأغلبية "الديكتاتورية". ولكن هذا الإقرار جاء مرفوقا بعملية إلتفاف تبدو مثيرة للشك. تقول الورقة: 

"أننا نرى أن المفوضية الدستورية يجب أن يُتَّفق عليها شكلاً وموضوعاً (التكوين، والمهام) في المنبر التفاوضي ومن ثم تقوم بصياغة وتضمين نصوص الإتفاق في الإعلان الدستوري الذي سيحكم الفترة الإنتقالية التي سيتَّفق عليها في المنبر التفاوضي، و على أن يُشكِّل هذا الدستور الإنتقالي مشروع الدستور الدائم، وتقوم المفوضية بتصميم برامج وفق القانون لإنزال هذا الدستور للشعوب السودانية ومن ثم عرضه عليهم في إستفتاء شعبي بعد إنفاذ برامج العودة الطوعية والإحصاء السكاني وغيره من التدابير ذات الصلة و قبل نهاية الفترة الإنتقالية و إجراء أي إنتخابات"

 

يقترح سلامات وشالو إذن كتابة الدستور المؤقت في منبر التفاوض. فبدلا عن أن يكون منبر التفاوض مساحة حل مسألة رفع السلاح بإتفاق حد أدنى، يضمن حرية التنظيم والعمل للحركات التي تضع السلاح ويضمن إصلاح الإختلال المادي وتوفيق أوضاع اللاجئين وإستعادة حقوقهم قدر الإمكان (هذه أمور لا يبدو أن عليها خلاف). يريد سلامات وشالو لمنبر التفاوض بين قحت (وهي تحالف نرى نحن في الشمال أنه لا يمثلنا بالشكل الكافي) والحركة الشعبية (لا يدري أحد مقدار تمثيلها الديمقراطي لشعوب الهامش، إذ كل العملية الحالية هي لفتح المجال لهذا القياس الديمقراطي، يبدو من الغريب إدعاء شخص ما، مهما كانت تضحياته أنه ممثل للناس كافة ثم دخوله في عملية إنتخابية، إذا كنت ممثلا أصلا للناس فما داعي العملية؟)، يريدان للمنبر أن يكون مساحة حوار دستوري كامل، أو وسيلة التأسيس لهذا الحوار ووضع مهامه ومن ثم كتابة الدستور (وهو أتفاق حد أعلى طبعا) عبرهم. 
ويراد لهذا الدستور أن يحكم لعامين (أو أكثر). وتدير السلطة التي بنت الدستور وعبره تتكون وتكتسب مشروعيتها، عملية الحوار المجتمعي، ومن ثم تقوم نفس السلطة بعقد الاستفتاء عليه. وبعد ذلك تأتي الإنتخابات. 
كل ذلك وفي ظل انقسام عقدي صنعته قحت في الشمال، عبر عدم توسيع ماعونها ليشمل الإسلاميين. لا تبدو هذه الخطة قابلة للتطبيق بغير قوة دولة شديدة القمع. ولا تبدو قابلة للتأسيس لدستور عام مستدام يمثل كل الناس وتساهم كل التيارات في كتابته. هي دعوة لتجريع الشعب السوداني غصص السعادة من أعلى. ونحن، كشعب، شربنا تلك الغصص طويلا ونرغب في يوم ما أن نتقيئها. 

الاثنين، 19 سبتمبر 2022

عن القراءة والكتابة: تأطير نظري

 ١. في الكوميديا: جيري ساينفيلد و لاري ديفيد .. أو لاري ديفيد وجيري ساينفلد 
 
قرأت، في وقت ما، جزءا من كتاب ألينكا زوبانجيتش “في الكوميديا”. مدفوعا بشيئين: الأول هو علاقة ألينكا اللصيقة بكاتبي وأستاذي المفضل سلافوي جيجاك. والدافع الثاني، كالعادة، كان الفضول. ألينكا فيسلسوفة جادة. بمعنى أنها هضمت نوعا ما من المعارف (هيغل ونيتشة على الأقل) لدرجة أنها لا تستطيع التكلم بدون أن تكون مملة لحد الألم. أو/و مثيرة للإهتمام. حسب منظور المستمع. رغم ذلك تمكنت من الكتابة عن الكوميديا. الكوميديا إذن ليست للتسلية (لدي رغبة في كتابة جملتي المفضلة هنا: “هههههههههه”، ولكن أخشى أن لا يؤخذ هذا المقال على محمل الجد). الكوميديا هي، حسب ألينكا، واحدة من أدوات الحقيقة. ومن ثم، لذلك، فهي واحدة من أنواع الفنون.
  
تعلقت بداية وبصورة غير مقصودة ولا متوقعه، بالكاتب الكوميدي لاري ديفيد. أحببته وأحببت كل تفصيلة من تفاصيل منتوجه “أكبح شغفك Curb Your Enthusiasm” وهو مسلسل كوميدي تدور أحداثه حول حياة لاري ديفيد نفسه. المسلسل يحكي عبره لاري ديفيد، التفاصيل الأعتيادية لحياة “لاري ديفيد”. الشيء الذي وصفه لاكان ب “الخصاء الرمزي Symbolic Castration” يعود هنا بصورة معكوسة: الخصاء الرمزي في النظرية اللاكانية هي موقع الشخص “الأنا” في الفضاء الرمزي، الأستاذ مثلا، أو الطبيب، أو القائد السياسي، له موقع يشغله “كشخص أو أنا” في الفضاء الرمزي مختلف عن موقعه كشخص بالنسبة لنفسه. تخيل مثلا أن تلاقي مارتن لوثر كينغ في الواقع، أنت ستقف له أحتراما، أو ستكرهه بشده، حسب موقفك من “أسمه”. أما مارتن لوثر كينغ نفسه، مع زوجته مثلا أو مع أبناءه، فهو شخص أخر. الأب هو أول أنواع الخصاء الرمزي. للأب موقع رمزي معين يجبره على التصرف بطريقة معينة. أذا قادتك الصدفة لأن ترى أباك يضحك ببلاهة مع أصدقائه مثلا فأنت كإبن لن يكون بأمكانك إلا أن لا تعرفه. لأن هيكل علاقة الأب/الأبن هو في داخل الرمز.
    

 في المسلسل في المقابل، ف “لاري ديفيد” كرمز يظهر في شكل الشخص العادي، المضحك، وغير المثير للإهتمام فعلا، فيما عدا التسلية. و لاري ديفيد الكاتب الأسطورة في الحقيقة يتحول هو نفسه لتلاقي غريب بين الأنا و الرمز. في واحدة من المقابلات يعلق لاري ديفيد: الشخص في المسلسل، بصراحته المبالغ فيها، عدم لباقته، كرهه للطقوس الإجتماعية، هو الحقيقة، أما أنا في حياتي اليومية كلاري ديفيد فأنا أمثل فقط. موضوع الكوميديا إذن هو ليس أحد الإثنين، بل الفراغ بينهما: التناقض بين الأنا والرمز. حال ظهوره فهو يظهر كشيء مثير للضحك. أو حتى للبهجة. ما يظنه الواحد منا أنه “هو” كأنا، هو في نفسه شيء مضحك. التحرر هنا هو ليس في تصوير لاري ديفيك لحياته “كما كان يجب أن تكون” بل في توضيحه لبلاهة التعلق بالأنا. أو بالرمز. ببلاهة التعلق بكلاهما. الملك الذي يظن نفسه فعلا “ملك” هو مجنون يقول لاكان.. يكمل لاري ديفيد: وكذلك الذي يظن أنه مجرد رجل عادي. وبذلك تغلق الكوميديا السلسلة الجدلية ك Suture. حسب التعبير اللاكاني.

قادتني المعرفة بلاري ديفيد، لنتيجة حتمية، وهي التعرف على رفيقه وصديقه جيري ساينفيلد: بدأت العلاقة بين الإثنين قبل قرابة الأربعين عاما، يهوديان في نيويورك يقومان بتقديم عروض كوميدية Standup Comedy في أندية مختلفة في المدينة. في البداية كان جيري ساينفيلد هو النجم. ككوميدي ناجح. بينما دفعت غرابة لاري ديفيد المبالغ فيها به لنوع أو أخر من الفشل. ما لم يلحظه العامة رآه جيري ساينفلد. ونوع من ال Inter-Subjectivity، التكامل، أو التعارض، أو الصداقة، دفع الفنانين للقيام بقفزة غير متوقعه أنتجت أهم عمل كوميدي أمريكي في التسعينات. المسلسل Seinfeld يوضح من أسمه أسبقية جيري على لاري في هذه المعادلة. رغم ذلك قام لاري من وراء الستار ككاتب رئيسي بإنتاج كل التفاصيل الكوميدية التي شارك في كتابتها ثم تمثيلها جيري فحملت اسمه. المسلسل كان كذلك عن “جيري ساينفلد” كبطل لقصة يمثل فيها نفسه. لكن في ساينفلد يظهر بوضوح أن الشخص داخل المسلسل ليس له علاقة بالشخص خارجه. لم تكتمل لمسة لاري ديفيد الفنية إلا بعملية الإعادة. وهي عملية أساسية في أي هيكل نظري: لن يكون من الممكن أنتاج Curb Your Enthusiasm إلا بإعادة لنفس العملية التي انتجت النسخة الفاشلة Seinfeld. مثلما نقول دائما لن يكون بالإمكان إنتاج الحزب الشيوعي الأفريقي إلا بإعادة عملية إنتاج الحزب الشيوعي السوداني. لن تنجح ثورة أكتوبر (السودانية والروسية) إلا بعملية إعادة إنتاجها. “الخطأ” هو جزء من الصحيح. لكنه لن يكون جزءا من صحيح إلا بعملية إعداته. ما يسمى عادة ب “التعلم من الخطأ” هو في الحقيقة “الخطأ” مجردا من أي إمكانية. الشخص يعرف أنه “لم يجرب الحب أصلا” عندما يعرف أنه لا يريد أن “يعيده”. ليس هنالك في المقابل أجمل من تجربة حب نفس الشخص “مرتين”. 

كنت قد وصلت لتقرير نهائي بأن جيري ساينفلد هو مجرد جزء من قصة جميلة اسمها “لاري ديفيد”. لكن الكاتب والممثل المبالغ في غروره فاجأني قبل فترة قصيرة بجملة أعجبتني لحد الهيام بها. سأله المقدم مرة: كيف ترى الحياة في لوس أنجلوس. رد جيري: “أنا اشعر بأنني في رحلة إمتدت عشرين عاما.. مدينتي هي نيويورك، هناك توجد الكوميديا.. في لوس انجلوس لا يمكن للشخص أن يكون ظريفا .. هنالك شيء في نيويورك ضد الحياة، والكوميديا هي مقاومة لذلك الشيء، لتقول شيئا مضحكا لابد من أن توجد هذه السلبية. لا يمكن أن توجد كوميديا بدون وجود هذه السلبية، كشيء يدفع ضدها، في هاوايي مثلا حيث الكل سعيد والطبيعة خلابة لا يمكن أن توجد كوميديا”. وفي الحقيقة ما قاله جيري يرتقي لمستوى النظرية: الكتابة هي عملية مقاومة لوجود مضاد للحياة. في الأوضاع البائسة للشعوب غير النامية، بلغة مغفلي التنمية، توجد الكتابة. في هاوايي لا أحد سيكتب أي شيء. في خلال فترة كتابتي لهذا المقال، راودني حلم غريب. للقاريء غير الملم بخلفية الحلم سأحكي التفاصيل التالية (دعنا نتذكر دائما، أن عبد الله علي ابراهيم قد أثبت قبل فترة طويلة أن الكتابة هي بالتعريف نوع من انواع الرواية لقصة حياة ما): كان كاتب المقال قد غادر السودان في حوالي العام ٢٠١٦، منذ وقتها لم تتح لي فرصة العودة. و الحقيقة لم يمثل هذا الأمر مشكلة كبيرة بالنسبة لي. في الولايات المتحدة، البلاد التي تموت من شدة البرد حيتانها، انهمكت، من ضمن أشياء أخرى، في مسيرة تعليمية كثيفة، خضتها في أغلب الأحيان في أطار من العزلة التي أتقن بطبعي التعامل معها. وحتى لا يظن القارئ أن هذه المساحة هي بكائية فعلي أن أضيف بأنني أتقن كذلك الاستمتاع بها. في الحلم رغم ذلك تدور التفاصيل التالية: أعود لأرض الوطن، أذهب مباشرة لمقابلة الصديق إبراهيم عبد الغني، الذي هو بالمناسبة ليس أخد أفضل كاتبي القصة الذين قابلتهم في حياتي، بل وكذلك أحد أكثر الناس الذين لا تمل من الحديث معهم رغم أنه يرد كل عشرة دقائق بكلمة واحدة أو أقل. في الحلم لا يتذكر إبراهيم من هو أنا. رغم كل محاولاتي لذكيره، الكوميديا السوداء تستمر عندما تنضم زوجته فداء للمشهد فأحاول تذكيرها، وهي كانت أخر شخص من أصدقائي ألاقيه قبل المغادرة نتيجة لتفاصيل أخرى مضحكة أفضل تخطيها هنا. فداء لا تتذكر. وكذلك صديق أخر أعزه جدا. أفكر في أن الوحيد الذي سيتذكرني هو جاري عمرو حسن، فأبحث عنه بلا جدوى. هنا أستيقظ. بشعور هو خليط من الإرهاق والصدمة. والكتابة في هذا الإطار، هي نوع من المقاومة: ضد هذا الخطر الدائم بالنسيان، التهديد المستمر للذات بالإضمحلال في أي لحظة في غياهب الموت، الرغبة التي هي الخوف من الفقد، في هذا الإطار تكون الكتابة ممكنة. وفي هذا الإطار فإن كل تحديد رمزي للكتابة كأسلوب، تعبير، هيكل، مقدمة، نهاية، إلخ من البلاهات التي روج لها جورج أورويل مرة، غير ذي معنى. مثلما ينتمي الحلم في التحليل النفسي اللاكاني لإطار “الحقيقي” والذي هو ذلك الشيء العصي على الترميز. فإن الكتابة في مصدرها هي نتاج لجدل بين الحقيقي والوعي. وبذلك فهي بالتعريف عمل أبداعي غير خاضع لأي معيار خارجي. والكتابة في هذا الإطار هي مكتوب بلا قاريء. كل ما ينتج عنها خارجيا هو تأثير جانبي ليس على الكاتب أن يتنبأ به أو أن يخطط له. 

كان المثقف السوداني الحديث الأول معاوية محمد نور قد مر بتجربة غاية في الغرابة: كتب هو في فترة “انتاجه” قصة قصيرة عن مثقف يصاب بالجنون في إطار استكشافه للمعرفة. ثم أصيب معاوية نور نفسه بالجنون لاحقا. يمكن طبعا أن نعتبر أن ذلك مجرد مصادفة. لكن كذلك يمكن فهم الأمر في السياق التالي: المعرفة في إطار العقل الحديث (أو فلنقل الغربي) هي المعرفة في رواقات المؤسسة الفكرية الموجودة سلفا. أن تكون مثقفا هو أن تعرف ما كان مكتوبا مسبقا. ثم تضيف عليه. لكن، المعرفة في إطارها المجرد هي عملية الدخول في مجال لم يسبق طرقه، إطار لم يوجد منذ مدة طويلة إلا في سياق حالة ما بعد الإستعمار، حيث توجد الرغبة في المعرفة، ولكن بلا وجود مؤسسة الفكر الكثيفة. في هذا الإطار فقط، تظهر المعرفة بشكلها المجرد كنوع أو أخر من أنواع الجنون. فالقديم ما عاد يعمل والجديد لم يولد بعد. ربما دفع معاوية ثمن عدم فهمه للقصة التي كتبها هو نفسه: في أفريقيا تشير حالات عديدة، من ضمنها حالة حركات مثل جيش الرب، أو أحداث مثل مجازر رواندا، أو حتى في أسيا تشير ظواهر مثل بول بوت، إلى أن جدل التحديث يمكن تلخيصه في العلاقة ليس بين (الوجود، والعدم) ، أو (الوجود، والوقت) إلخ مثل الحالة الثقافية التي ينتجها الكانون الغربي (لاحظ حتى أن ما يمكن رؤيته كجنون في الإطار الغربي “النازية” يظهر فيها بوضوح الشكل الهيكلي العلمي للعملية المنظمة، معسكرات الإعتقال كمصانع للقتل، الآلة الإعلامية النازية كعملية هندسة إجتماعية، القنبلة النووية كعملية استراتيجية محسوبة إلخ) … بل فإن جدل الحداثة في إطاره النقي، العالم ثالثي، يظهر كجدل الوجود، والجنون. وذلك ليس خطأ، المعرفة، في إطار الحداثة الحقة، تنتمي للحقيقي وليس الرمزي. وبالتالي فإن عملية المعرفة نفسها هي عملية جنونية. وفي هذا الإطار يمكن قلب الأمور لتظهر على حقيقتها (على نسق مقولة بيرتولي بريخت “عملية سرقة البنك أقل اجراما من عملية بنائه”): كل مشارك في مجازر رواندا هو أقل جنونا من العالِم الذي قام بالتنظير لبناء القنبلة النووية. 

٢. القراءة: أقرأ بسم ربك الذي خلق.. 

تأسست البؤرة الاستعمارية المسمى بكلية غردون بيننا على أسبقية القراءة على التفكير. أو التقنية على الإبداع. لذلك مثلا لم يقرأ بين جدرانها كلام الاستاذ الجامعي الألماني هايدجر “حول التساؤل عن التقنية؟”. ولذلك لم يسمح فيها بأن توجد المعارف السماعية للسودانيين. دي معارف سماعية ساكت. ولذلك حكى عبد الله علي ابراهيم في مقاله “حالة اللا بايوغرافيا” عن مثقف أفريقي ما، ألقى بكل الكتب الغربية، التي كان يحملها معه في سفينة أثناء رحلة عودته لأفريقيا، ألقى بها لا مباليا إلى البحر. ترميزا لبداية معركة كثيفة ضد الكتب في حد ذاتها، وليس قراءة الكتاب الغربي فقط، في رأيي. نظرية المعرفة المتوفرة لنا حتى الآن تضع الأمور كلها في إطار معكوس: قراءة – تفكير – كتابة. هذا التتابع يجعل من العقل تابعا لما هو خارجه. وبالتالي فهي جزء من عملية إخضاع للذات أمام التقنية. للإبداع أمام الصرامة. للجمال التلقائي أمام الهيكل. هذه العملية هي جزء من عملية تحويل الإنسان لأداة. مثلما يتبع العامل في المصنع للآلة، فإن المثقف في هذه الحالة يتبع للمكتبة. جحافل من الأجساد الميتة دخلت عبر هذه العملية لأرض الثقافة كآلات للتكرار، وفي بعض الأحيان كمهرجين يرقصون أمام سلالم الترقي الأكاديمي. ولم ينطق أحدهم، حتى الآن بأي حقيقة. ذلك إذا إعتبرنا أن الحقيقة، و”الجديد” هما شيء واحد. تعرفت في فترة سابقة على شخص كان يدعي أنه قرأ الكتب، وعرفت عبر استلاف أحد الكتب منه (وكان جديدا كأنه لم يلمس) بأنه لم يقرأه، وهو لم يكن كذلك من الذكاء بحيث يجيد التمثيل عموما. هذه الحالة أظن أنها النهاية المنطقية لحالة أعتماد المؤسسة الثقافية على التكرار و “المصادر” كما يسمون: أن يكتشفوا أن القراءة أو عدمها يقودان لنفس النتيجة: الغباء.   

في المقابل، فشخص مثل النبي محمد وضع العملية في إطارها الصحيح: الوصول الفردي الشاق للحقيقة ثم القراءة عبرها. الإستنارة داخلية ثم الإستزادة لا تضر: محمد بما يسميه المتدينون العلم اللدني وصل لأحد أعظم المنتوجات الفكرية والأدبية التي عرفتها الإنسانية. وهذه الاستنارة الذاتية، تحرر العقل بالمعرفة التي أنتجها هو، جعلته يبدأ بدعوة الناس للقراءة. المجتمع العربي عموما كان يمر بفترة نهضة حيث تم رفع الإبداع الذاتي لمستوى تعليق ذلك الإنتاج في بطن الكعبة. ألم يتساءل نازيو القراءة بيننا عن مصدر المعلقات؟ في أي جامعة تم تدريس ذلك؟ المعرفة هي منتوج إنساني ذاتي وفردي. وليس عملية حشو خارجي للعقل. المعارف التي يحصدها الواحد منا بالنظر والسمع والمشي والكلام والمراقبة والتساؤل والحيرة والغضب والفرح إلخ من العمليات الذاتية بالغة التعقيد هي المصدر الأساسي للمعرفة. بل إنني أدعي أنه ما لم يكن الإنسان قد وصل ذاتيا إلى فهم جزئي (وإن كان غير منظما) للنظرية الكانتية عن الفينومينولوجيا مثلا، فإنه لن يكون قادرا على فهمها مهما قرأ كانت. إذا تبلد عقل الإنسان في إنظار لحظة نزول المعرفة عليه فجأة خارجيا فإنه سيظل متبلدا إلى الأبد. إذا فقد الإنسان الثقة في عقله، وفي نفسه بالتالي، فهو سيظل طفلا. وبالتالي فيمكنك أن تفهم لماذا يخلوا الفضاء الثقافي الحالي من أي فكرة مثيرة للإهتمام: عملية تحويل الإنسان لآلة تمت على كافة الإصعدة التي يمكن تخيلها. والأداة بالتعريف لا تفكر. 

خرج الطيب صالح من جامعة الخرطوم، لكن ليس “خريجا” بل هاربا. وذكر أنه شعر بأنها تخنقه. وبينما كان الطيب صالح محظوظا لهروبه، فإن المجتمع السوداني لم ينج من عملية الخنق. تقضي هذه العملية التدريبية المعتمدة على التبليد الجماعي على أي ذرة ذكاء عند الإنسان. ويزداد غباءا كلما قبل بها وبنظمها. كلما احترم الواحد الكتب زاد احتقاره لنفسه. 

من القصص التي يتفنن خريجو كلية غردون في ترديدها هي قصة رسالة الخليفة عبد اللهي الى الملكة فكتوريا “اسلمي تسلمي، فإن قبلت الدخول في الاسلام زوجناك ابننا يوسف ود الدكيم”. وهذه القصة عند النخبة كالنجم ينير لهم الطريق، فهي لا تفسر فقط حالهم هم اليوم، كأبناء لمثل هذا المغفل، بل تفسر كذلك حال المغفل نفسه. وهي قصة مختلقة بالطبع. تروج في مجتمع يقدس القراءة والأكاديميا، فلا يفكر ولا يقرأ. ولكنني ظننت أن العقل حال تحرره كان يمكنه التعامل مع هذه القصة حتى بدون التحري الأكاديمي خلفها. فالعقل الحر يستطيع أن يرى التاريخ في شكله الكامل، كما هو، وليس التاريخ الخيالي للإستعمار (ملكة بريطانيا كشيء عظيم). في الإطار الحقيقي للتاريخ فحتى هذه القصة المزورة ليست بذلك السوء: أولا هي رد على إمرأة تدعي أنها ملكة، فهي بذلك مهرجة بالتعريف، ثم إذا أخذنا مسألة الزواج نفسها، فيجب أن نتذكر أن الأسر الحاكمة في أوروبا كانت من البلاهة، في محاولة الحفاظ على نقاء الدم الملكي، حتى أنها أجبرت ابناءها على الزواج حصرا من بني عمومتهم، وفي أحدى الحالات في أسبانيا (وهي اسرة مرتبطة نسبا بأسرة الملكة فكتوريا) تزوج العم من أبنة أخيه. في إطار سخيف كهذا يمكن فعلا القول بأن يوسف ود دكيم كان سيكون ترقيا. وبالفعل. 

المشكلة هنا هي أن بحثي عن تاريخ فكتوريا لم يسبق تفكيري في هذا البحث. هذا عمل أنا قمت به واعيا. أما إذا سرت في درب المعرفة كتلقي وتبعية لما هو موجود فعلا فإحتمالية التحرر مما يكبل العقل ستقل وليس العكس. أنت لا ترى لوحات محمد عبد الرسول جميلة لأنها جميلة في ذاتها، بل لأنك تقابل فيها ما كنت تبحث عنه دائما. عملية القتل المنهجية لأطر التعلم الحقيقي وهي تربية ثقة الفرد في عقله وذاته، هي عملية استعمارية لا تقل قسوة عن أي عملية تحكم أستعمارية أخرى. 

ليس من المصادفة أن الطيب صالح، وليس أحد غيره، كان أبدع علم التحرر الذهني من الاستعمار. ولا يمكن فهم موسم الهجرة إلى الشمال إلا في إطار هذا العلم الدقيق. (وأقول بأن التحرر من الاستعمار هو التحرر عموما، فالإستعمار كمشكلة هو مجرد تجسد للشيء العام، وجهه، والشيء العام هنا هو جدل العقل والموت، يحتاج العقل عموما لخطوة “التجرؤ” قال كانت قديما، لأن التفكير الحق هو تحرر من الخوف من الموت، ولهذا الموت أشكال عدة أحدها الهيكل الاستعماري للمعرفة الخصية). سار الطيب صالح في هذا الطريق بإعادة أكتشافه لنفسه، لعقله، بعمليات عدة وصف أحدها بأنه تعلق بالمتنبي أنقذه. لذلك كانت له ثقة مدهشة: أتذكر دائما دهشتي (ككاتب) من مقولة الطيب صالح “كنت لا أئبه لتبخر أفكاري في الفضاء كدخان السجائر”. هذه النزعة تتأتى لشخص عرف نفسه جيدا، حتى وثق بها، فبدأ يكتب في مسار من الخلاص وليس الخوف. محمود محمد طه تكلم مرة عن الحياة بين موتين. أو الحياة في اللحظة الحاضرة وعيا وجسارة، بلا حنين/تقيد بالماضي، ولا خوف/ترقب للمستقبل. هذه الحياة هي العقل الحر. وهذا العقل هو مصدر المعرفة. أو كما قال شاعر ما: لقد استعيدت الأبدية.. هي البحر وقد أختلط بالشمس.  

حان وقت إلقاء الكتب (والجامعة الخراب) إلى جوف البحر. 

محمود المعتصم 

تم نشر المقال على صحيفة مداميك الإلكترونية بتاريخ ١٦ سبتمبر ٢٠٢٢