إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 19 سبتمبر 2022

عن القراءة والكتابة: تأطير نظري

 ١. في الكوميديا: جيري ساينفيلد و لاري ديفيد .. أو لاري ديفيد وجيري ساينفلد 
 
قرأت، في وقت ما، جزءا من كتاب ألينكا زوبانجيتش “في الكوميديا”. مدفوعا بشيئين: الأول هو علاقة ألينكا اللصيقة بكاتبي وأستاذي المفضل سلافوي جيجاك. والدافع الثاني، كالعادة، كان الفضول. ألينكا فيسلسوفة جادة. بمعنى أنها هضمت نوعا ما من المعارف (هيغل ونيتشة على الأقل) لدرجة أنها لا تستطيع التكلم بدون أن تكون مملة لحد الألم. أو/و مثيرة للإهتمام. حسب منظور المستمع. رغم ذلك تمكنت من الكتابة عن الكوميديا. الكوميديا إذن ليست للتسلية (لدي رغبة في كتابة جملتي المفضلة هنا: “هههههههههه”، ولكن أخشى أن لا يؤخذ هذا المقال على محمل الجد). الكوميديا هي، حسب ألينكا، واحدة من أدوات الحقيقة. ومن ثم، لذلك، فهي واحدة من أنواع الفنون.
  
تعلقت بداية وبصورة غير مقصودة ولا متوقعه، بالكاتب الكوميدي لاري ديفيد. أحببته وأحببت كل تفصيلة من تفاصيل منتوجه “أكبح شغفك Curb Your Enthusiasm” وهو مسلسل كوميدي تدور أحداثه حول حياة لاري ديفيد نفسه. المسلسل يحكي عبره لاري ديفيد، التفاصيل الأعتيادية لحياة “لاري ديفيد”. الشيء الذي وصفه لاكان ب “الخصاء الرمزي Symbolic Castration” يعود هنا بصورة معكوسة: الخصاء الرمزي في النظرية اللاكانية هي موقع الشخص “الأنا” في الفضاء الرمزي، الأستاذ مثلا، أو الطبيب، أو القائد السياسي، له موقع يشغله “كشخص أو أنا” في الفضاء الرمزي مختلف عن موقعه كشخص بالنسبة لنفسه. تخيل مثلا أن تلاقي مارتن لوثر كينغ في الواقع، أنت ستقف له أحتراما، أو ستكرهه بشده، حسب موقفك من “أسمه”. أما مارتن لوثر كينغ نفسه، مع زوجته مثلا أو مع أبناءه، فهو شخص أخر. الأب هو أول أنواع الخصاء الرمزي. للأب موقع رمزي معين يجبره على التصرف بطريقة معينة. أذا قادتك الصدفة لأن ترى أباك يضحك ببلاهة مع أصدقائه مثلا فأنت كإبن لن يكون بأمكانك إلا أن لا تعرفه. لأن هيكل علاقة الأب/الأبن هو في داخل الرمز.
    

 في المسلسل في المقابل، ف “لاري ديفيد” كرمز يظهر في شكل الشخص العادي، المضحك، وغير المثير للإهتمام فعلا، فيما عدا التسلية. و لاري ديفيد الكاتب الأسطورة في الحقيقة يتحول هو نفسه لتلاقي غريب بين الأنا و الرمز. في واحدة من المقابلات يعلق لاري ديفيد: الشخص في المسلسل، بصراحته المبالغ فيها، عدم لباقته، كرهه للطقوس الإجتماعية، هو الحقيقة، أما أنا في حياتي اليومية كلاري ديفيد فأنا أمثل فقط. موضوع الكوميديا إذن هو ليس أحد الإثنين، بل الفراغ بينهما: التناقض بين الأنا والرمز. حال ظهوره فهو يظهر كشيء مثير للضحك. أو حتى للبهجة. ما يظنه الواحد منا أنه “هو” كأنا، هو في نفسه شيء مضحك. التحرر هنا هو ليس في تصوير لاري ديفيك لحياته “كما كان يجب أن تكون” بل في توضيحه لبلاهة التعلق بالأنا. أو بالرمز. ببلاهة التعلق بكلاهما. الملك الذي يظن نفسه فعلا “ملك” هو مجنون يقول لاكان.. يكمل لاري ديفيد: وكذلك الذي يظن أنه مجرد رجل عادي. وبذلك تغلق الكوميديا السلسلة الجدلية ك Suture. حسب التعبير اللاكاني.

قادتني المعرفة بلاري ديفيد، لنتيجة حتمية، وهي التعرف على رفيقه وصديقه جيري ساينفيلد: بدأت العلاقة بين الإثنين قبل قرابة الأربعين عاما، يهوديان في نيويورك يقومان بتقديم عروض كوميدية Standup Comedy في أندية مختلفة في المدينة. في البداية كان جيري ساينفيلد هو النجم. ككوميدي ناجح. بينما دفعت غرابة لاري ديفيد المبالغ فيها به لنوع أو أخر من الفشل. ما لم يلحظه العامة رآه جيري ساينفلد. ونوع من ال Inter-Subjectivity، التكامل، أو التعارض، أو الصداقة، دفع الفنانين للقيام بقفزة غير متوقعه أنتجت أهم عمل كوميدي أمريكي في التسعينات. المسلسل Seinfeld يوضح من أسمه أسبقية جيري على لاري في هذه المعادلة. رغم ذلك قام لاري من وراء الستار ككاتب رئيسي بإنتاج كل التفاصيل الكوميدية التي شارك في كتابتها ثم تمثيلها جيري فحملت اسمه. المسلسل كان كذلك عن “جيري ساينفلد” كبطل لقصة يمثل فيها نفسه. لكن في ساينفلد يظهر بوضوح أن الشخص داخل المسلسل ليس له علاقة بالشخص خارجه. لم تكتمل لمسة لاري ديفيد الفنية إلا بعملية الإعادة. وهي عملية أساسية في أي هيكل نظري: لن يكون من الممكن أنتاج Curb Your Enthusiasm إلا بإعادة لنفس العملية التي انتجت النسخة الفاشلة Seinfeld. مثلما نقول دائما لن يكون بالإمكان إنتاج الحزب الشيوعي الأفريقي إلا بإعادة عملية إنتاج الحزب الشيوعي السوداني. لن تنجح ثورة أكتوبر (السودانية والروسية) إلا بعملية إعادة إنتاجها. “الخطأ” هو جزء من الصحيح. لكنه لن يكون جزءا من صحيح إلا بعملية إعداته. ما يسمى عادة ب “التعلم من الخطأ” هو في الحقيقة “الخطأ” مجردا من أي إمكانية. الشخص يعرف أنه “لم يجرب الحب أصلا” عندما يعرف أنه لا يريد أن “يعيده”. ليس هنالك في المقابل أجمل من تجربة حب نفس الشخص “مرتين”. 

كنت قد وصلت لتقرير نهائي بأن جيري ساينفلد هو مجرد جزء من قصة جميلة اسمها “لاري ديفيد”. لكن الكاتب والممثل المبالغ في غروره فاجأني قبل فترة قصيرة بجملة أعجبتني لحد الهيام بها. سأله المقدم مرة: كيف ترى الحياة في لوس أنجلوس. رد جيري: “أنا اشعر بأنني في رحلة إمتدت عشرين عاما.. مدينتي هي نيويورك، هناك توجد الكوميديا.. في لوس انجلوس لا يمكن للشخص أن يكون ظريفا .. هنالك شيء في نيويورك ضد الحياة، والكوميديا هي مقاومة لذلك الشيء، لتقول شيئا مضحكا لابد من أن توجد هذه السلبية. لا يمكن أن توجد كوميديا بدون وجود هذه السلبية، كشيء يدفع ضدها، في هاوايي مثلا حيث الكل سعيد والطبيعة خلابة لا يمكن أن توجد كوميديا”. وفي الحقيقة ما قاله جيري يرتقي لمستوى النظرية: الكتابة هي عملية مقاومة لوجود مضاد للحياة. في الأوضاع البائسة للشعوب غير النامية، بلغة مغفلي التنمية، توجد الكتابة. في هاوايي لا أحد سيكتب أي شيء. في خلال فترة كتابتي لهذا المقال، راودني حلم غريب. للقاريء غير الملم بخلفية الحلم سأحكي التفاصيل التالية (دعنا نتذكر دائما، أن عبد الله علي ابراهيم قد أثبت قبل فترة طويلة أن الكتابة هي بالتعريف نوع من انواع الرواية لقصة حياة ما): كان كاتب المقال قد غادر السودان في حوالي العام ٢٠١٦، منذ وقتها لم تتح لي فرصة العودة. و الحقيقة لم يمثل هذا الأمر مشكلة كبيرة بالنسبة لي. في الولايات المتحدة، البلاد التي تموت من شدة البرد حيتانها، انهمكت، من ضمن أشياء أخرى، في مسيرة تعليمية كثيفة، خضتها في أغلب الأحيان في أطار من العزلة التي أتقن بطبعي التعامل معها. وحتى لا يظن القارئ أن هذه المساحة هي بكائية فعلي أن أضيف بأنني أتقن كذلك الاستمتاع بها. في الحلم رغم ذلك تدور التفاصيل التالية: أعود لأرض الوطن، أذهب مباشرة لمقابلة الصديق إبراهيم عبد الغني، الذي هو بالمناسبة ليس أخد أفضل كاتبي القصة الذين قابلتهم في حياتي، بل وكذلك أحد أكثر الناس الذين لا تمل من الحديث معهم رغم أنه يرد كل عشرة دقائق بكلمة واحدة أو أقل. في الحلم لا يتذكر إبراهيم من هو أنا. رغم كل محاولاتي لذكيره، الكوميديا السوداء تستمر عندما تنضم زوجته فداء للمشهد فأحاول تذكيرها، وهي كانت أخر شخص من أصدقائي ألاقيه قبل المغادرة نتيجة لتفاصيل أخرى مضحكة أفضل تخطيها هنا. فداء لا تتذكر. وكذلك صديق أخر أعزه جدا. أفكر في أن الوحيد الذي سيتذكرني هو جاري عمرو حسن، فأبحث عنه بلا جدوى. هنا أستيقظ. بشعور هو خليط من الإرهاق والصدمة. والكتابة في هذا الإطار، هي نوع من المقاومة: ضد هذا الخطر الدائم بالنسيان، التهديد المستمر للذات بالإضمحلال في أي لحظة في غياهب الموت، الرغبة التي هي الخوف من الفقد، في هذا الإطار تكون الكتابة ممكنة. وفي هذا الإطار فإن كل تحديد رمزي للكتابة كأسلوب، تعبير، هيكل، مقدمة، نهاية، إلخ من البلاهات التي روج لها جورج أورويل مرة، غير ذي معنى. مثلما ينتمي الحلم في التحليل النفسي اللاكاني لإطار “الحقيقي” والذي هو ذلك الشيء العصي على الترميز. فإن الكتابة في مصدرها هي نتاج لجدل بين الحقيقي والوعي. وبذلك فهي بالتعريف عمل أبداعي غير خاضع لأي معيار خارجي. والكتابة في هذا الإطار هي مكتوب بلا قاريء. كل ما ينتج عنها خارجيا هو تأثير جانبي ليس على الكاتب أن يتنبأ به أو أن يخطط له. 

كان المثقف السوداني الحديث الأول معاوية محمد نور قد مر بتجربة غاية في الغرابة: كتب هو في فترة “انتاجه” قصة قصيرة عن مثقف يصاب بالجنون في إطار استكشافه للمعرفة. ثم أصيب معاوية نور نفسه بالجنون لاحقا. يمكن طبعا أن نعتبر أن ذلك مجرد مصادفة. لكن كذلك يمكن فهم الأمر في السياق التالي: المعرفة في إطار العقل الحديث (أو فلنقل الغربي) هي المعرفة في رواقات المؤسسة الفكرية الموجودة سلفا. أن تكون مثقفا هو أن تعرف ما كان مكتوبا مسبقا. ثم تضيف عليه. لكن، المعرفة في إطارها المجرد هي عملية الدخول في مجال لم يسبق طرقه، إطار لم يوجد منذ مدة طويلة إلا في سياق حالة ما بعد الإستعمار، حيث توجد الرغبة في المعرفة، ولكن بلا وجود مؤسسة الفكر الكثيفة. في هذا الإطار فقط، تظهر المعرفة بشكلها المجرد كنوع أو أخر من أنواع الجنون. فالقديم ما عاد يعمل والجديد لم يولد بعد. ربما دفع معاوية ثمن عدم فهمه للقصة التي كتبها هو نفسه: في أفريقيا تشير حالات عديدة، من ضمنها حالة حركات مثل جيش الرب، أو أحداث مثل مجازر رواندا، أو حتى في أسيا تشير ظواهر مثل بول بوت، إلى أن جدل التحديث يمكن تلخيصه في العلاقة ليس بين (الوجود، والعدم) ، أو (الوجود، والوقت) إلخ مثل الحالة الثقافية التي ينتجها الكانون الغربي (لاحظ حتى أن ما يمكن رؤيته كجنون في الإطار الغربي “النازية” يظهر فيها بوضوح الشكل الهيكلي العلمي للعملية المنظمة، معسكرات الإعتقال كمصانع للقتل، الآلة الإعلامية النازية كعملية هندسة إجتماعية، القنبلة النووية كعملية استراتيجية محسوبة إلخ) … بل فإن جدل الحداثة في إطاره النقي، العالم ثالثي، يظهر كجدل الوجود، والجنون. وذلك ليس خطأ، المعرفة، في إطار الحداثة الحقة، تنتمي للحقيقي وليس الرمزي. وبالتالي فإن عملية المعرفة نفسها هي عملية جنونية. وفي هذا الإطار يمكن قلب الأمور لتظهر على حقيقتها (على نسق مقولة بيرتولي بريخت “عملية سرقة البنك أقل اجراما من عملية بنائه”): كل مشارك في مجازر رواندا هو أقل جنونا من العالِم الذي قام بالتنظير لبناء القنبلة النووية. 

٢. القراءة: أقرأ بسم ربك الذي خلق.. 

تأسست البؤرة الاستعمارية المسمى بكلية غردون بيننا على أسبقية القراءة على التفكير. أو التقنية على الإبداع. لذلك مثلا لم يقرأ بين جدرانها كلام الاستاذ الجامعي الألماني هايدجر “حول التساؤل عن التقنية؟”. ولذلك لم يسمح فيها بأن توجد المعارف السماعية للسودانيين. دي معارف سماعية ساكت. ولذلك حكى عبد الله علي ابراهيم في مقاله “حالة اللا بايوغرافيا” عن مثقف أفريقي ما، ألقى بكل الكتب الغربية، التي كان يحملها معه في سفينة أثناء رحلة عودته لأفريقيا، ألقى بها لا مباليا إلى البحر. ترميزا لبداية معركة كثيفة ضد الكتب في حد ذاتها، وليس قراءة الكتاب الغربي فقط، في رأيي. نظرية المعرفة المتوفرة لنا حتى الآن تضع الأمور كلها في إطار معكوس: قراءة – تفكير – كتابة. هذا التتابع يجعل من العقل تابعا لما هو خارجه. وبالتالي فهي جزء من عملية إخضاع للذات أمام التقنية. للإبداع أمام الصرامة. للجمال التلقائي أمام الهيكل. هذه العملية هي جزء من عملية تحويل الإنسان لأداة. مثلما يتبع العامل في المصنع للآلة، فإن المثقف في هذه الحالة يتبع للمكتبة. جحافل من الأجساد الميتة دخلت عبر هذه العملية لأرض الثقافة كآلات للتكرار، وفي بعض الأحيان كمهرجين يرقصون أمام سلالم الترقي الأكاديمي. ولم ينطق أحدهم، حتى الآن بأي حقيقة. ذلك إذا إعتبرنا أن الحقيقة، و”الجديد” هما شيء واحد. تعرفت في فترة سابقة على شخص كان يدعي أنه قرأ الكتب، وعرفت عبر استلاف أحد الكتب منه (وكان جديدا كأنه لم يلمس) بأنه لم يقرأه، وهو لم يكن كذلك من الذكاء بحيث يجيد التمثيل عموما. هذه الحالة أظن أنها النهاية المنطقية لحالة أعتماد المؤسسة الثقافية على التكرار و “المصادر” كما يسمون: أن يكتشفوا أن القراءة أو عدمها يقودان لنفس النتيجة: الغباء.   

في المقابل، فشخص مثل النبي محمد وضع العملية في إطارها الصحيح: الوصول الفردي الشاق للحقيقة ثم القراءة عبرها. الإستنارة داخلية ثم الإستزادة لا تضر: محمد بما يسميه المتدينون العلم اللدني وصل لأحد أعظم المنتوجات الفكرية والأدبية التي عرفتها الإنسانية. وهذه الاستنارة الذاتية، تحرر العقل بالمعرفة التي أنتجها هو، جعلته يبدأ بدعوة الناس للقراءة. المجتمع العربي عموما كان يمر بفترة نهضة حيث تم رفع الإبداع الذاتي لمستوى تعليق ذلك الإنتاج في بطن الكعبة. ألم يتساءل نازيو القراءة بيننا عن مصدر المعلقات؟ في أي جامعة تم تدريس ذلك؟ المعرفة هي منتوج إنساني ذاتي وفردي. وليس عملية حشو خارجي للعقل. المعارف التي يحصدها الواحد منا بالنظر والسمع والمشي والكلام والمراقبة والتساؤل والحيرة والغضب والفرح إلخ من العمليات الذاتية بالغة التعقيد هي المصدر الأساسي للمعرفة. بل إنني أدعي أنه ما لم يكن الإنسان قد وصل ذاتيا إلى فهم جزئي (وإن كان غير منظما) للنظرية الكانتية عن الفينومينولوجيا مثلا، فإنه لن يكون قادرا على فهمها مهما قرأ كانت. إذا تبلد عقل الإنسان في إنظار لحظة نزول المعرفة عليه فجأة خارجيا فإنه سيظل متبلدا إلى الأبد. إذا فقد الإنسان الثقة في عقله، وفي نفسه بالتالي، فهو سيظل طفلا. وبالتالي فيمكنك أن تفهم لماذا يخلوا الفضاء الثقافي الحالي من أي فكرة مثيرة للإهتمام: عملية تحويل الإنسان لآلة تمت على كافة الإصعدة التي يمكن تخيلها. والأداة بالتعريف لا تفكر. 

خرج الطيب صالح من جامعة الخرطوم، لكن ليس “خريجا” بل هاربا. وذكر أنه شعر بأنها تخنقه. وبينما كان الطيب صالح محظوظا لهروبه، فإن المجتمع السوداني لم ينج من عملية الخنق. تقضي هذه العملية التدريبية المعتمدة على التبليد الجماعي على أي ذرة ذكاء عند الإنسان. ويزداد غباءا كلما قبل بها وبنظمها. كلما احترم الواحد الكتب زاد احتقاره لنفسه. 

من القصص التي يتفنن خريجو كلية غردون في ترديدها هي قصة رسالة الخليفة عبد اللهي الى الملكة فكتوريا “اسلمي تسلمي، فإن قبلت الدخول في الاسلام زوجناك ابننا يوسف ود الدكيم”. وهذه القصة عند النخبة كالنجم ينير لهم الطريق، فهي لا تفسر فقط حالهم هم اليوم، كأبناء لمثل هذا المغفل، بل تفسر كذلك حال المغفل نفسه. وهي قصة مختلقة بالطبع. تروج في مجتمع يقدس القراءة والأكاديميا، فلا يفكر ولا يقرأ. ولكنني ظننت أن العقل حال تحرره كان يمكنه التعامل مع هذه القصة حتى بدون التحري الأكاديمي خلفها. فالعقل الحر يستطيع أن يرى التاريخ في شكله الكامل، كما هو، وليس التاريخ الخيالي للإستعمار (ملكة بريطانيا كشيء عظيم). في الإطار الحقيقي للتاريخ فحتى هذه القصة المزورة ليست بذلك السوء: أولا هي رد على إمرأة تدعي أنها ملكة، فهي بذلك مهرجة بالتعريف، ثم إذا أخذنا مسألة الزواج نفسها، فيجب أن نتذكر أن الأسر الحاكمة في أوروبا كانت من البلاهة، في محاولة الحفاظ على نقاء الدم الملكي، حتى أنها أجبرت ابناءها على الزواج حصرا من بني عمومتهم، وفي أحدى الحالات في أسبانيا (وهي اسرة مرتبطة نسبا بأسرة الملكة فكتوريا) تزوج العم من أبنة أخيه. في إطار سخيف كهذا يمكن فعلا القول بأن يوسف ود دكيم كان سيكون ترقيا. وبالفعل. 

المشكلة هنا هي أن بحثي عن تاريخ فكتوريا لم يسبق تفكيري في هذا البحث. هذا عمل أنا قمت به واعيا. أما إذا سرت في درب المعرفة كتلقي وتبعية لما هو موجود فعلا فإحتمالية التحرر مما يكبل العقل ستقل وليس العكس. أنت لا ترى لوحات محمد عبد الرسول جميلة لأنها جميلة في ذاتها، بل لأنك تقابل فيها ما كنت تبحث عنه دائما. عملية القتل المنهجية لأطر التعلم الحقيقي وهي تربية ثقة الفرد في عقله وذاته، هي عملية استعمارية لا تقل قسوة عن أي عملية تحكم أستعمارية أخرى. 

ليس من المصادفة أن الطيب صالح، وليس أحد غيره، كان أبدع علم التحرر الذهني من الاستعمار. ولا يمكن فهم موسم الهجرة إلى الشمال إلا في إطار هذا العلم الدقيق. (وأقول بأن التحرر من الاستعمار هو التحرر عموما، فالإستعمار كمشكلة هو مجرد تجسد للشيء العام، وجهه، والشيء العام هنا هو جدل العقل والموت، يحتاج العقل عموما لخطوة “التجرؤ” قال كانت قديما، لأن التفكير الحق هو تحرر من الخوف من الموت، ولهذا الموت أشكال عدة أحدها الهيكل الاستعماري للمعرفة الخصية). سار الطيب صالح في هذا الطريق بإعادة أكتشافه لنفسه، لعقله، بعمليات عدة وصف أحدها بأنه تعلق بالمتنبي أنقذه. لذلك كانت له ثقة مدهشة: أتذكر دائما دهشتي (ككاتب) من مقولة الطيب صالح “كنت لا أئبه لتبخر أفكاري في الفضاء كدخان السجائر”. هذه النزعة تتأتى لشخص عرف نفسه جيدا، حتى وثق بها، فبدأ يكتب في مسار من الخلاص وليس الخوف. محمود محمد طه تكلم مرة عن الحياة بين موتين. أو الحياة في اللحظة الحاضرة وعيا وجسارة، بلا حنين/تقيد بالماضي، ولا خوف/ترقب للمستقبل. هذه الحياة هي العقل الحر. وهذا العقل هو مصدر المعرفة. أو كما قال شاعر ما: لقد استعيدت الأبدية.. هي البحر وقد أختلط بالشمس.  

حان وقت إلقاء الكتب (والجامعة الخراب) إلى جوف البحر. 

محمود المعتصم 

تم نشر المقال على صحيفة مداميك الإلكترونية بتاريخ ١٦ سبتمبر ٢٠٢٢