إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 13 فبراير 2017

الإبداع كسلاح ثوري... أو لماذا يجب علينا أن نتخلى عن شعار إسقاط النظام؟

سيكون علينا أن نعيد إكتشاف التعقيد. كلما هجم علينا الواقع، و ممثلوا الواقع، بدغمائيتهم البسيطة: "يجب أن ندافع (فورا) عن المظلومين"، "يجب أن نتبرع أو نتصدق للفقراء (فورا)"، "أنت لا يمكنك أن تقف أمام كل هذا بلا حراك!" إلخ. علينا حينها، و تحديدا لكي نحافظ على درجة من الدفء الثوري في قلوبنا، علينا أن نظهر أقسى درجات البرود: "عفوا، و لكنني سأفضل أن لا أفعل أي شيء، دعوني، لو سمحتم، أفكر قليلا...". في هذا المستوى فإن المعركة هي على الأسس، سيكون من السهل بالنسبة لهؤلاء أن يتهموك بقلة الثورية، أما نحن فنسمارس كل العنف و في صمت: سنقوم بتدمير الأسس التي تجعل من أمثال هؤلاء... ثوريين. 

الإبداع في الفلسفة الثورية: آلان باديو و عبد الله علي إبراهيم

ما هي العلاقة بين الإبداع و التقليد؟ يشيع في عالم النرجسية و الفردانية المزيفة الذي نعيش فيه أن يعتقد المثقفون الشباب أن من واجبهم أن يكونوا "أصيلين". تظهر هذه الأصالة في حالة المثقف الشاب الذي يخجل جدا من إتباع أي مدرسة فكرية أو مفكر. في عالم الفرد النرجسي فإنه من الصعب على المثقف أن يعترف بأنه لا يعرف أي شيء، من الأسهل له أن يقوم بغنتاج المعرفة فورا. و بينما يبدو لأول وهلة أن هذا الفعل الفردي سوف يصنع إبداعا، إلا أنه و بمتابعة بسيطة للمقالات التي تكتب في الفيسبوك و في الصحف الإلكترونية الشبابية سوف تلاحظ أن تكرارا لا نهائيا و مملا هو ما سنحصل عليه. في هذا العالم من الأصالة الفردية الكاذبة فإنه لن يكون بمقدور الفرد أن يعيد صياغة الأسئلة، كل ما يمكنه فعله هو إعطاء إجابات جديدة و "جذابة\مثيرة" للأسئلة القديمة. الأرضية لا يصلها الإبداع. 

بالنسبة لتجربة اليسار الأولى في السودان (عبد الخالق محجوب) فإن هذا التعارض المتوهم بين الأصالة و التقليد (بمعنى التتلمذ) لم يكن موجودا. منذ البداية كان واضحا بالنسبة لعبد الخالق محجوب بأن دراسة النظرية و الإلتزام بها وحده لا يكفي، لذلك فإن مصطلح "التطبيق الخلاق" كان ملازما للرجل. هذا التطبيق الخلاق سوف يبدو دائما بالنسبة للعقول المتبلدة "كردة" عن النظرية. و هنا تحديدا تظهر فكرة أن الإبداع ليس فعلا تلقائيا بل هو في الحقيقية أس الثورية. 

آلان باديو، الفيسلوف الفرنسي، كتب في تعليقه على مشكلة اليونان (ورقة عنوانها "في عجزنا المعاصر") أنه يؤيد، بالتأكيد، كل الحراك الشعبي الذي حدث كردة فعل على الأزمة، المظاهرات، التجمعات، التنظيمات النقابية إلخ. إلا أنه إهتم بأن يذكرنا بأن كل هذه الأشياء هي أشياء قديمة، و أن علينا أن نتذكر أنه لكي تتحول هذه الأشياء القديمة لثورة فإن عليها أن تصنع أشياء جديدة: قاعدة ثورية جديدة، تكتيكات ثورية جديدة، حلول جديدة إلخ. و على الرغم من أنه علينا الإعتراف بان "الجديد" لا يمكنه إلا أن يبنى على الحراك و المشاكل التقليدية إلا أنه، مع ذلك، لا يمكننا أن نخلط بين الأمرين. الحراك (القديم) لا يعني الثورة (الجديد\الإبداع). 

يستند آلان باديو في هذه النظرة للإبداع على فلسفة كاملة. و العلاقة بين منظر الإبداع و الفلسفة علاقة مفهومة، فلا يمكن للإنسان أن يبدع و هو يتعامل مع الظهارة في شكلها السطحي. إن كان الإبداع في السياسة أساسا فعلا فكريا، فإنه و لا بد يجب أن يبنى على فلسفة. 

في فلسفة آلان باديو فإن الإبداع مربوط بفكرة "الحدث" the Event. آلان باديو يعتقد أن لكل "عالم" منطق معين، و أن جزءا من هذا المنطق هو وجود "تناقضات" داخل هذا العالم تجعل من بعض أجزائه غير موجودة أو غير معترف بها. على سبيل المثال في عصر العولمة فإن سكان دولة الكونغو الديمقراطية هم بالفعل غير موجودون. و في كل مجتمع رأسمالي فإن أشكالا كثيرة من "اللا وجود" سوف تنشأ، الفقراء، المضطهدون عنصريا، النساء إلخ. إنطلاقا من هذا التناقض فإن "الحدث" سوف يخرج. الثورة المصرية مثلا. 

لكن و بعكس التفكير الإجتماعي اليساري الكلاسيكي، يعتقد آلان باديو بأن الحدث لا يؤدي تلقائيا لحل المشكلة. يحتاج الحدث لكي يتحول لثورة لأن يبنى عليه "عالم جديد" بمنطق مختلف. و هذا البناء هو بالضرورة بناء إبداعي. و لذلك فهو شيء يعتمد على ظهور فكرة وفاء أفراد ثوريين للحدث Fidelity to the Event. و هذا الوفاء هو بالنسبة لباديو إحدى تبديات "الحقيقة" التي تجعل من الفرد العادي Human Animal ذاتا Subject. ذلك أن الحقيقة بالنسبة لفلسفة آلان باديو هي عملية جارية Process و ليست مقولة أو واقع. و من هنا يوسع باديو فكرة الوفاء للحقيقة ليجعل من الوقوع في الحب، و من الرغبة في الكشف العلمي جزءا منها. 

بالعودة لتجربة اليسار السوداني، أعتقد أنه يمكننا أن نقرأ "غرابة" عبد الله علي إبراهيم عن الماركسيين السودانيين و عن الماركسية في هذا السياق. فعبد الله هو تلميذ مدرسة "التطبيق الخلاق" لذلك كان لابد له أن يخرج بأشياء جديدة. بالنسبة لعبد الله علي إبراهيم و تبعا "للنظرية" التي يلتزم بها فإن "النظام" هو ليس نظام الإنقاذ "فقط" بل منظومة الحكم و المعارضة التي تكونت منذ الإستقلال. و بالنسبة له، و بناءا على النظرية كذلك، فإن الحل ليس في مجرد الثورة "بتعريفها الذي وضعته هذه المنظومة نفسها" بل في الثورة كعملية خلق واقع جديد. و إنطلاقا من هذا البناء النظري فإن آليات عبد الله علي إبراهيم كان لابد لها أن تكون آليات إبداعية، غير مألوفة. قرأها البعض من قليلي الموهبة كدلائل على التحالف مع الإنقاذ. 

في الفضاء الفكري لعبد الله علي إبراهيم فإنه من المتوجب التعامل مع الإسلام السياسي "كعامل ثوري محتمل"، لذلك كانت إعادة قراءة مسالة الإسلام السياسي من البداية و النظر إليها بصورة جديدة بناءا على هذه القراءة (كتاب الشريعة و لحداثة). نفس الشيء يمكن أن يقال في ظاهرة تحول الرجل من أكاديمي و سياسي إلى صحفي يقوم بإعادة إنتاج اللغة اليومية في الصحف، في فضاء عبد الله علي إبراهيم هذا النوع من التغير في الشخصية الفردية ممكن لأن هذه الشخصية هي "كادر" يعيد إنتاج نفسه بصورة إبداعية. و بعكس النظرة الثورية الكاذبة المتصلبة التي أظهرتها معارضتنا تجاه فكرة الحوار الوطني، إستبق عبد الله علي إبراهيم الحوار بعدة أعوام في دعواة للتجهز "لإرهاق خلاق" سوف يصيب النخب الحاكمة. ما يجعل هذا الإرهاق "خلاقا" هو بالتحديد تجهزنا له، مواجهته (و هو بالتأكيد جزء من الواقع) بقدرتنا على إعادة تشكيله، و بلا خوف أو مثالية سطحية سخيفة. 

إعادة إكتشاف العنف: عنف الثوري ضد نفسه 

منذ البداية، لم يكن للثوري إلا أن يمارس العنف ضد نفسه أولا. سانت جست (الثورة الفرنسية) وقف أمام جموع الناس يخطب فيهم و المقصلة (التي أنتجها هو) تلوح في الأفق: "... إنني أحتقر كومة التراب التي تتحدث إليكم.. التي هي أنا". 

يشيع أن يعتقد الناس أن العنف شيء سيء. فرانز فانون لن يوافق على هذا الرأي. بالنسبة لفانون فإن المشاريع الكبيرة، كالتحرر من الإستعمار، هي بالتعريف مشاريع لإعادة صياغة العالم، و بالتالي فهي مشاريع عنيفة. هنا سوف تظهر الحساسية الليبرالية: شكرا، سنفضل أن نعيش في العالم كما هو، لا حاجة لنا للعنف. لكن هل "العالم كما هو" مكان غير عنيف؟ سيكون من الجميل أن نسأل قاعدة الناس، و هي منظمة و في حالة قوة، عند ذلك.

إذن فإن السؤال بالنسبة للثوري هو ليس "كيف يمكننا أن نتفادى العنف؟" بل "كيف يجب أن نمارسه؟" و هنا يبدأ الإبداع في الاماكن التي يعتقد البعض أن لا إبداع فيها. 

في فلم العام الماضي Spotlight هنالك شخصية غريبة. مدير هيئة التحرير في الجريدة مارتي بارون، ظهرت هذه الشخصية في بداية الفلم بهدوء و لكن بإيحاء واضح: سوف يحرك هذا الشخص كل شيئ. ثم كان الرجل يظهر دائما و كأنه يعاني من مشكلة ما، كان يبدو و كأنه غير مرتاح دائما، أو غاضب حتى. إلا أنه كان مهذبا على الدوام، غاية في الإلتزام بكل قواعد اللباقة حتى مع ألد اعداءه. بعد أن قام فريق التحقيق الصحفي في المجلة بتوثيق الكثير من حالات إغتصاب الأطفال قام بها رهبان يتبعون للكنيسة الكاثوليكية، قدم له ملف القضية و الذي كان من الواضح أنه الأفضل في عصره. الجريدة كانت بالتأكيد ستبدأ نقاشا مجتمعيا صاخبا و مؤلما و سوف تحقق الكثير من المكاسب. أمام هذا الإغراء رد بارون بهدوء مشوش و كأنه يكبت شيئا: "سوف ندخل في نفس صراع القطط الذي دخلناه في مسألة بورتر، و الذي جلب الكثير من الضوضاء و لكنه لم يغير الأشياء قيد أملة. نحن بحاجة لأن نركز على المؤسسة و ليس الرهبان الأفراد. التطبيق و السياسات. أروني كيف قامت الكنيسة بالتلاعب بالقانون حتى لا يواجه هؤلاء الرهبان تهما. أروني كيف قاموا بإعادة هؤلاء الرهبان للكنائس مرارا و تكرارا. أروني أن هذا الأمر كان منهجيا! أنه أتى من الاعلى إلى الأسفل". 

بات معروفا أن سلافوي جيجاك قال مرة بأن مشكلة هيتلر أنه لم يكن عيفا بما فيه الكفاية! بالنسبة لجيجاك فكل أحداث تفجر العنف الدموي هي تعبير عن "ضعف" Impotence، هيتلر مارس كل العنف الدموي لأنه لم يكن شجاعا كفاية حتى يفكر في تغير المنظومة من أساسها (الملكية الفردية مثلا). بالمقابل غاندي في حراكه المسالم كان يتجه بعنف أكثر شجاعة: محاولة إسقاط الإمبراطورية. هل هنالك أية مقارنة بين عنف شخص يائس يقوم بقتل الكثير من الناس حتى يخفي خوفه الشديد من كل شيء و عنف غاندي المنهجي؟ 

يبدا العنف الثوري عندما يقاوم الإنسان الرغبة الشديدة في الهروب. عندما يلخص الثوريون السطحيون المشاكل بصورة مستعجلة و يبدؤون في التظاهر بغضب و بكل بسالة فإنهم يهربون، بهذا التوجه نحو الواقع، من المشكلة. أما و لكي يخرج الإنسان من عقل القطيع الجمعي و يبدأ بالتفكير بصورة حرة فإن عليه أن يمارس العنف ضد نفسه. الفكرة النرجسية المعاصرة هي أنه هنالك كيان ثابت و واضح يدعى "ذات"، "أنا" ... أي عنف تجاه هذا الكيان إحتاجه سانت جست حتى ينزله لمرتبة كومة التراب؟ لن يكون لكومة التراب أن ترفض الحقيقة. الأمر الذي تفعله الذات النرجسية بإستمرار و هي مرعوبة من كل شيء. 

في قراءته لفكرة القوة عند نيتشة لاحظ سلافوي جيجاك أن القراءات التقليدية لهذه الفكرة تهمل النهاية التي وصل لها الرجل. نيتشة عند هؤلاء "يقدس القوة" و يبني الأخلاق على هذا التقديس. لذلك ففي داخل فضاء نيتشة فإن الأخلاق المسيحية هي أخلاق الضعفاء، يحاولون بها تعويض قلة القوة عندهم. ماذا لو كانت القوة التي يتحدث عنها نيتشة هي قوة موجهة أساسا ضد النفس؟ و ليس ضد الآخرين. في مكان ما يقول نيتشة: "أن أهيمن؟ أن افرض نفسي على الآخرين؟ يا له من شيء مقرف! أليست النعمة هي في أن أفكر في الكثير من الآخرين". السعي "للسلام الداخلي" و الخوف من الصراع الأساسي في شكله الفردي هو ما يؤدي لغياب السلام في الخارج. ما يدفع الإنسان "للهيمنة" على الآخرين هي ليست نزعته للعنف بل خوفه من ممارسة العنف ضد نفسه. أن يقول لنفسه "يا له من شيء مقرف!". 

الغطاء الأيديولوجي: إسقاط النظام 

هنا يمكننا أن نقول أن غياب الإبداع في فضاءنا سببه الخوف. و الضعف. سيقوم الإنسان دائما بصناعة الاغطية الايديولوجية التي تمنعه من رؤية الحقيقة. بالنسبة لنيتشة مثلا فإن الحقيقة هي بالتعريف أمر سيء و تكمن القوة في تحمل أكبر قدر منها. هل يستطيع الفرد الثوري أن يتحمل حقيقة أنه مجرد مشاغب لا يعلم ماذا يفعل و يقوم فقط بلعب دور تلقائي. أنه شخص لا يعلم في الحقيقة الكيفية التي سيحل بها المشاكل التي يدعي خروجه لحلها (البطالة، الفقر، بناء دولة حديثة، حل مسالة النظام العالمي .. إلخ)؟ أعتقد أن هذا الامر هو أكثر صعوبة على الإنسان من مواجهة الشرطة و التعرض للضرب. 

و لذلك هنالك أيديولوجيا. في داخل الأيديولوجيا لا يرى الإنسان كل هذه الاشياء. و أهم من ذلك، فانه لا يرى نفسه تحت سيطرة الأيديولوجيا. المأدلجون بالنسبة له هم "المنظرون" أصحاب النظريات التي تبرر لهم تقاعسهم عن أداء الواجب الثوري. أعتقد أن الشعار "إسقاط النظام" و رغم أنه شعار صحيح من الناحية المجردة (من لا يريد لهذا النظام أن يسقط؟) إلا أنه في الحالة الراهنة يلعب دور الغطاء الأيديولوجي. في داخل هذا الشعار (بدعوته الضمنية الدائمة للتظاهر و هدم نظام الإنقاذ فورا) فإنه لا مكان للتفكير. هل يمكنك أن تسال أحدا من ثوريينا: ماذا إن كان إسقاط النظام لن يؤدي لكل الأشياء التي تدعونها؟ لا اعتقد. 

حتى نتمكن من إعادة ترتيب الحالة الثورية، و اعني بذلك إعطاء الأولوية للتفكير، و التنظيم على التحرك التلقائي. إعطاء الأولوية للندوة السياسية على المظاهرة. و الأولوية لصناعة الكادر على تحريكه. و الأولوية للحقيقة على السياسة. أعني بإعادة ترتيب الحالة الثورية أن علينا أن نعيد تشكيل طريقة تحركنا بحيث يكون العمل المؤسس ممكنا و من ثم الإبداع ممكنا. نحن لسنا أيتاما في هذا المجال، عليك فقط أن تقرأ تاريخ الثوريين (روبيسبيير، روزا لوكسمبورغ، غاندي، ماو، فانون... إلى أن نصل لعبد الخالق محجوب)، جميعهم كان أقرب من للفنان شديد الحساسية منه للمناضل المتصلب. و كل حركاتهم بدأت برفض الحراك العفوي. حتى نتمكن من فعل ذلك علينا أن نتحلى بالشجاعة و أن نعترف باننا لم نقم بأي شيء، قبل ذلك علينا أن نتخلى عن شعار إسقاط النظام. و أن نبدأ بالتساؤل كيف تسقط الأنمظة العتيدة في الحقيقة؟ 

في كل حالة ثورية فإن السؤال لا يكون "ما هي مساويء العدو" بل ... "ما هو الشكل الذي يجعل العدو نفسه يظهر كحليف؟". 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق