إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الجمعة، 14 أبريل 2017

ربيع النرجسية .. خريف الفرد (2-3)

ربيع النرجسية .. خريف الفرد (2-3)1

هنالك قراءتان خاطئتان للشحصية النرجسية. الأولى هي قراءة شعبية رائجة و الأخرى تنتمي لما يمكن تسميته مجازا "علم النفس الأمريكي أو البراغماتي". تقول القراءة الشعبية بأن الشخص النرجسي هو شخص معتز بنفسه يحتقر الآخرين، هو شخص مغرم بصورة مرضية بنفسه، شخص مثل "كريستيانو رونالدو" أو "كايني ويست" كما هو رائج. هذه القراءة الشعبية لها جوهر حقيقة، و لكنها كذلك تجعلنا ننظر للشخص النرجسي بإعتباره خروجاً عن القاعدة، و تهمل حقيقة أن الشحصية النرجسية هي شحصية "عادية" هذه الأيام، إن لم تكن القاعدة. و رغم أن هذه الصفات النمطية هي صفات يمكن فهم إرتباطها بالنرجسية، إلا أن الحقيقة هي أن الشخص النرجسي لا يحتاج بالضرورة للظهور بهذا الشكل النمطي، بل يمكنه أن يكون شخصا مبالغا في التواضع و لطيفا جدا في معاملة الآخرين. على سبيل المثال يجب على السياسي الناجح في عالم اليوم الذي تسيطر عليه ديمقراطية شكلية يحركها الإعلام، يجب عليه أن يكون شخصا محبوبا و متواضعا، و لكن يجب عليه في نفس الوقت أن يحتفظ بمسافة بينه و بين الناس، أن يعاملهم "كناخبين" فقط، و بالتالي أن تكون العلاقة التي تجمعه بهم هي علاقة إستغلال و خداع. الزعيم الذي يحبه الناس ليس لانه "لبق" و "بياع كلام" بل لأنه مرتبط مع الناس بشكل عضوي عبر شبكة مصالح هو "صادق" في سعيه لتحقيقها، مثل "غاندي" أو "تشي جيفارا" إختفى هذه الأيام، و حل محله الزعيم النرجسي المحبوب إعلاميا (أوباما و هو إبن النظام الوفي محبوب أكثر من بيرني ساندرز الذي يسعى فعلا لتحقيق مصالح مادية مباشرة للناس).

أما بالنسبة لعلم النفس الأمريكي، فإن المشكلة تكمن في أن هذه المدرسة بدأت منذ البداية كمدرسة "ممتثلة". ما يهم علم النفس الأمريكي هو "الفعالية" و "الأداء"، و على هذه الأسس يتم تعريف الحالة النفسية المثالية بأنها الحالة التي تجعل الإنسان يؤدي دوره الإجتماعي بصورة جيدة. ثلاثية فرويد (الإيغو ، السوبر إيغو ، و الإيد) تم تفسيرها بالشكل المبسط التالي: الإنسان منفصل بين هذه الثلاثية، فهو من جانب خاضع لضغط غرائزه البدائية (الإيد) و من جانب خاضع لضغط الصورة القانونية المثالية (السوبر إيغو).. و بين الإثنين يقف الإيغو كعامل معادل يمنح الإنسان هوية متزنة. مثلا.. يريد الرجل أن يعامل المرأة بصورة غرائزية و لكن تمنعه الصورة المثالية فينتج عن ذلك إيغو يحاول أن يحب المرأة و أن يكتب لها شعرا ..إلخ. الإيغو إذن هو العامل النفسي الجيد، الجانب الذي على العلاج النفسي تقويته بحيث يصبح قادرا على أداء مهامه بكفاءة. من هنا جاءت التسمية: علم النفس المتوجه بالإيغو Ego Oriented Psychology. و بهذا الشكل تم تقسيم الأمراض النفسية لنوعين الذهان Psychosis و هو الحالة التي تعرف بعدم قدرة الإنسان على أداء وظائفه الإجتماعية و بفقد إتصاله بالوقع (حالة جنون) و العصاب Neurosis الذي يعرف بضعف الإيغو و عدم قدرته على أداء وظيفته التوفيقية، و ينتح عن هذه الحالة إما هوس أو هيستيريا (في الحالتين يعود السوبر إيغو للظهور بصورة مبالغ فيها إذ لا يستطيع الإنسان التصالح معه). من هذا التقسيم جاءت في الأربعينات نظرية (الأشخاص في المنتصف) Borderline و ذلك لأن حالات عديدة لم يكن بالإمكان تصنيفها لا في خانة العصاب و لا في خانة الذهان. و إحدى هذه التشخيصات كان "النرجسية المرضية".

من جانب فإن النرجسي يظهر أعراض عصابية، كشعوره الدائم بالقلق بلا سبب، و إهتمامه الهوسي بآراء الآخرين عنه و عدم قدرته على تحمل أقل قدر من الفشل الاجتماعي (يقابل أقل فشل بإكتئاب حاد). و من جانب آخر فإن النرجسي يظهر أعراض ذهانية خفيفة، كعدم قدرته على قبول الواقع، و تورطه في مشاعر طفولية غير مفسرة منطقيا، ككراهية أشخاص قريبين له بناءا على تفسيرات إرتيابية لتصرفاتهم البسيطة (إبتسامة أحدهم ستفسر على أنها سخرية من الشخص مثلا). هذه الإعراض المتناقضة، من وجهة نظر علم النفس الأمريكي، جعلت النرجسية المرضية إحدى تشخيصات ال Borderline. الآن دعونا نقدم توضيحا "فينومينولوجيا/ظاهريا" للشخصية النرجسية كما جاء في ورقة سلافوي جيجاك: 
- النرجسي شخص ناجح، و متفوق أحيانا، متوائم بصورة مثالية داخل المجتمع. و لكن هذا التواجد المثالي يعتمد على تناقض غريب: النرجسي يعامل الآخرين كمجرد دمى، يستغلهم، هم موجودون في الخارج فقط كأشياء يمكن الإستفادة منها. و لكن مع ذلك فالنرجسي يهتم جدا لآراء الآخرين، في الحقيقة فإن كل النجاح الذي يسعى له النرجسي هدفه هو السمعة التي سيحظى بها بين الآخرين. و لذلك فإن أقل فشل إجتماعي هو كارثة حقيقية. النرجسي "سيد" و لكنه سيد أسير لعبيده. هذا التناقض الأساسي بين النرجسي و "الآخر" يؤدي لعدة تبعات: أولا، لا يحمل النرجسي أي قدرة على "التعاطف"، على إختبار مشاعر الآخرين كأشياء حقيقية، و لا على إدراك الآخرين كأشياء لها عمق لا يمكنه الوصول له، كشحصيات في الخارج. و هذا يجعله يقسم الناس بصورة سطحية إلى ثلاثة أقسام: الآخر المثالي، ذلك الذي يريد النرجسي أن يحصل منه على الإعجاب. الآخر العدو، أولئك الذين "يحسدون" النرجسي و يشكلون خطرا على صورته و سمعته. و "البقية"، مجموعة الدمى التي لا يبالي النرجسي بوجودها، الأشخاص الفاشلون العاديون الذين ليس لهم أي فائدة عندما يتعلق الأمر بصورة النرجسي عن نفسه. و حتى عندما يتعلق الأمر بعلاقة النرجسي بالآخر المثالي، فإن هذه العلاقة ليس لها أي عمق، يمكن لهذا الآخر المثالي أن يسقط إلى خانة "البقية" بسهولة في أي لحظة يفقد فيها قيمته بالنسبة للنرجسي. كل أنواع البشر إذن هي بالنسبة للنرجسي أدوات يجب إستعمالها بلا أي تورع. لذلك يظهر النرجسي للآخرين كشخص "أناني" و "بارد" و متهكم Cynical. 
و إن أخفى ذلك خلف قناع من اللطافة و حسن المعاملة التي تهدف فقط لخداع الآخرين.

- لا يستطيع النرجسي، كما هو واضح، أن يكون إرتباطا عميقا بالآخرين. إرتباطا يجعله "يثق" فيهم و "يعتمد" عليهم، و أن "يتلزم" تجاههم. هو يعتمد على الآخرين لكن فقط كملاحظين و معجبين بنجاحه. هو يعتمد على "إعترافهم" به. و لكن هذا الإعتماد هو إعتماد مختلف عن إعتماد الواحد منا على الآخرين كأشخاص يوفرون لنا التعاطف و الفهم و الوفاء. النرجسي يسعى "للإسفادة" من الآخر، و حتى عندما يحترم الآخر فإنه يحترمه لأسباب نرجسية ذاتية بحتة. هذا الغياب للعلاقة الحقيقية مع الآخرين يجعل النرجسي متوجسا بشكل دائم منهم. هو يخاف من أن يفتح قلبه لهم و أن يرتبط بهم "أكثر من اللازم". و يظهر ذلك أكثر ما يظهر في العلاقات الغرامية التي يفضلها النرجسي: العلاقات القصيرة الباردة التي لا تجبره على الإلتزام الشاق تجاه الآخرين و تمنحه مساحته "حتى يتنفس".

- يحترم النرجسي القوانين، و لكنه يحترمها على أنها "جزء من اللعبة" و لا يأحذها بجدية. النرجسي ممتثل، يرى في مقاومة القوانين الإجتماعية غباءا، و في الإمتثال لها ذكاءا و "فهلوة". عليك أن تكون ذكيا و "تمشي أمورك". و هو يرى أن الجميع يفعلون نفس الشيء: خلف أقنعة الإمتثال للقوانين الإجتماعية فإن الكل يخفي شخصه الحقيقي و يشارك في "اللعبة" حتى يصل لأهدافه فقط. جميع الناس يحاولون خداع بعضهم البعض، و لذلك عليك أن تكون ذكيا و أن تخدعهم أنت في البداية. عليك أن تكون ذكيا أيضا و أن تعرف كيف "تتأقلم" بلا أي حدود أخلاقية. القانون، الأخلاق و المثل كلها بالنسبة للنرجسي ليست أكثر من مجرد لعبة، و لكنها مع ذلك لعبة يجب الإلتزام بها، كما هي بلا تغيير، حتى يتمكن الواحد منا من النجاح.

- ليس للنرجسي قدرة على الحزن، بمعنى أنه يواجه الفقد و الفشل بغضب عارم، و ليس له قدرة على تقبلهما عبر الحزن. الخسارة بالنسبة للنرجسي إهانة، و لذلك فهي غير مقبولة. 
- أخيرا. و ذلك يعود بنا للبداية. فإنه ليس للنرجسي قدرة أصيلة على "الإستمتاع". النرجسي يستمتع فقط عندما يعرف الآخرون أنه سعيد. و يظهر ذلك في التناقض الغريب، حيث يبحث النرجسي عن النجاح ليس لأجل الفائدة التي سيجلبها ذلك النجاح (إستعمال المال للسفر و الترفيه .. إلخ) بل لأجل الإعجاب الذي سيظهره الآخرون. و بذلك يصبح النجاح هدفا بذاته. غياب القدرة على الإستمتاع الفردي (و الرغبة الأصيلة) يجعل النرجسي يشعر بأنه "فارغ من الداخل" أو أنه "فاقد للهوية.. نفسه غريبة عليه". و هذا الشعور يدفعه للتحرك بلا توقف بحثا عن "شيء ما". ألا تعتمد كتب التنمية البشرية على هذا الشعور الأساسي بالفراغ و تحاول أن تملأه بالسؤال الخاطيء، و الإجابة على ذلك السؤال؟ "كيف تجذب الآخرين و تصنع أصدقاءا؟" هذا السؤال مثلا هو في حد ذاته إجابة على سؤال آخر: لماذا أشعر بأنني فارغ من الداخل؟ الإجابة: لأنك لا تستطيع حذب الآخرين و لانه ليس لك أصدقاء، و دعنا نخبرك كيف تفعل ذلك. دائما كان يحيرني مقدار الشعور بالذنب الذي تصنعه هذه الكتب لدى الشاب المسكين الذي يقرأها. (هذه السخافات ما زالت في طور طفولتها و ستكبر مع مرور الأيام، حاليا هنالك شيء يدعى "مدرب الحياة" هو شخص تستأجره ليلعب دور كتب التنمية البشرية و لكن مع إضافة إنسانية تظهر في شكل حكمة فردية سخيفة، هذا الشخص سيعطيك نصائح بإستمرار عن كيفية التغلب على القلق و الشعور بالسعداة و الحصول على النجاح).

يعلق جيجاك على هذا الوصف بملاحظة أنه فعلا وصف "كلاسيكي"، وصف للشخص الأمريكي العادي مثلما تظهره السينما و الفنون الرائجة مثلا. و لكن هذا لا يقلل من قيمة الحقيقة في هذا الوصف، فهذه الفنون هي إنعكاس للواقع الإجتماعي في النهاية.

أمام هذا الوصف يعطينا علم النفس الأمريكي تفسيرا غريبا للحالة النرجسية: هي خليط من "تضخم الأيغو" و "ضعفه". للنرجسي إيغو ضعيف مريض (مثلا، النرجسي غير واثق من نفسه فعلا)، لا يستطيع أن يجعله يتعامل بصورة متزنة مع الآخرين، و هذه المشكلة يحلها النرجسي عبر إبتلاعه لكل ما هو في الخارج و التعامل معه على أنه جزء من ذاته. الإيغو المتضخم يظهر في حقيقة أن النرجسي يدرك الآخرين كمجرد إمتداد له، هم موجودون لخدمته و لمنحه السعادة إلخ. و حتى القوانين و المثل فهي موجودة حتى يتلاعب هو بها فقط. الحبيبة و الصديق و الرمز و كل آخر هو مجرد إمتداد للإيغو المتضخم النرجسي، و ليس هنالك أي شيء في الخارج فعلا (هنا تصدق مقولة أن النرجسي متمحور حول ذاته). و العلاج في هذه الحالة هو في "إصلاح الإيغو": أن يقبل الأنسان نفسه و يحبها بحيث لا يكون له حوجة لإستعمال الآخرين.. إلخ. هذا التصور غير الجدلي للهوية الإنسانية، الذي يميز علم النفس الأمريكي، لا يفتح أي مجال لتخيل "الفضاء الرمزي" كحقيقة سببها غربة الإنسان الجذرية الأساسية عن نفسه منذ البداية. و بالتالي فإنه حتى نتجاوز هذا المأزق الفرداني (الحل هو في أن تحب نفسك و تتصالح معها.. إلخ) فعلينا أن نعود لثلاثية فرويد (الإيغو، السوبر أيغو و الأيد) و لكن عبر القراءة الجدلية التي قدمها جاك لاكان.

(تم نشر المقال في الأخبار اللبنانية) 
____________

1- أعتمد في هذا المقال بشكل كامل على ورقة كتبها سلافوي جيجاك عام 1986 بعنوان "النرجسي المرضي، شكل الذاتية المطلوبة إجتماعيا"، المقال متوفر على العنوان 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق