إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 11 أبريل 2017

ربيع النرجسية … خريف الفرد (1-3)1

ربيع النرجسية … خريف الفرد (1-3)1
ما الذي يمكن أن يقدمه علم النفس للنظرية السياسية الإجتماعية؟ دعونا نبدأ بالقول بأنه، من وجهة نظرية علم النفس التي أقتنع بها على الأقل، ليس هنالك حد فاصل بين الفرد و الآخر. ليس هنالك عالم نفس فردي خالص خارج المجتمع، و لذلك فإن علم النفس هو بالأساس علم إجتماعي. هذه النظرة لا تروق للأيديولوجيا المهيمنة، لأن الأيديولوجيا الليبرالية الحالية تتحدث دائما عن "الفرد" و "الفردانية" بوصفها عوالم مفصولة عن الكل الإجتماعي، أنت تصبح فردا، من وجهة النظر الليبرالية، عندما تنغمس في الإهتمام بأمورك الخاصة و عندما "لا تبالي" بما يجري في الخارج. حتى الحرية يتم تعريفها بإعتبارها حرية فردية، أما حرية التغييرات الجماعية الكبرى فهي مجرد تطرف لا داعي له. علم النفس المتماشي مع هذه النظرة يعالج الأفراد بوصفهم عبارة عن عوامل داخلية لا نهائية يجب الوصول لحل لتعقيداتها حتى يشعر الفرد بالسعادة: عليك أن "تعرف نفسك جيدا"، عليك أن "تحقق ذاتك" ..إلخ. ضد هذه النظرة يعتمد علم النفس اللاكاني (و علم النفس الفرويدي قبل التشويهات المتأخرة) على الفكرة الأساسية القائلة بأن الفرد يتشكل أصلا عبر دخوله في فضاء معنى، و هذا الفضاء يتكون أساسا عبر حادثة إلتقاء الفرد "بالآخر". المقولة "الإنسان مخلوق إجتماعي" تؤخذ هنا بجدية. في هذا الإطار فإن العلاج النفسي هو بالأساس خروج إلى الخارج: (عليك أن تحتقر مشاعرك و عالمك الداخلي .. لأن كل ما يهم هو "القضية" .. "الحب" ..إلخ.. أو بصورة عامة، كل ما يهم هو ذلك الآخر الجذري الذي هو الرغبة الأصيلة) و لذلك لا مكان في هذا الإطار للحديث عن حصر علم النفس داخل العيادة2.
لتوضيح هذه الرؤية يمكننا أن نأخذ "الرغبة"، بوصفها مكونا نفسيا أساسيا، كمثال. ينظر علم النفس الرائج حاليا للرغبات الإنسانية بوصفها أمورا منفصلة عن الأوامر الإجتماعية، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمجتمعات الليبرالية الحديثة. الفرد الحديث يبحث بحرية عن السعادة و المتعة في الحياة بعيدا عن أي أمر إجتماعي. ما تغفله هذه النظرة هو حقيقة أنه خلف الحرية الظاهرية التي يتمتع بها هذا الفرد تلوح طاقة أمر أكثر شراسة و هي قوة إجتماعية بحتة: الفرد الحديث يشعر بأنه تحت ضغط أمر قاهر "عليك أن تستمتع بالحياة!"، أن تكون سعيدا هو في الحقيقة ليس خيارا هذه الأيام. مراقبة بسيطة للطلاب الأمريكيين ستجعلك ترى الإنضباط الصارم الذي يلتزم عبره الطالب بالترفيه عن نفسه مرة في الأسبوع عبر الذهاب للملاهي و شرب الكحول و غيرها، الفرد الذي لا يمارس هذه الطقوس سيشعر مباشرة بأنه "مذنب"، بأن هنالك شيء خاطيء في حياته. يشعر الفرد الحديث براحة أكبر عندما يفهم أنه "غير مُلزم" بأن يكون سعيدا، بأن بإمكانه أن يمر بفترات من التعاسة و أن ذلك ليس ذنبا. في كتابها "عن الكوميديا" تحدثت ألينكا زوبانشيتشس في المقدمة عن الكيفية التي أصبحت بها السعادة خصلة جوهرية، أن تكون شحصيا سعيدا و مرحا هي خصلة تشير إلى أنك شحص "جيد أخلاقيا" و أما إن كنت تعيسا فذلك يعني أن لك جوهرا أقل جودة (نفس الأمر يمكن قوله بالنسبة للنجاح و الفشل، النجاح أصبح يرى بإعتباره ميزة تكاد تكون بايولوجية في جوهرانيتها، و التفسير الطبقي الإجتماعي للنجاح تم تجاهله). هذه الحالة يمكن كذلك ملاحظتها في حقيقة أن الناس باتوا بخجلون من إظهار حزنهم.
الثمن الذي يدفعه الفرد المفصول عن الفضاء الرمزي، إذن، (ذلك هو تعريف الفرد النرجسي كما سنرى لاحقا) هو أن الأمر الإجتماعي سيأتي كأمر غير مفسر رمزيا. و بالتالي أكثر قهرا. بتعبيرات جاك لاكان، سيأتي الأمر غامضا كشعور غير مفسر "Enjoy!". و كشعور دائم بالتقصير أمام هذا الأمر. هذا يأتي بنا لسؤال: ما هي الرغبة أصلا؟ بالنسبة لعلم النفس اللاكاني فإن الرغبة دائما هي رغبة "عبر الآخر"، أنت ترغب فيما يرغب فيه الآخرون، أو ترغم في أن يحبك الآخرون، أو ترغب في أن تحبهم .. و هكذا. حالة الإرتباط النفسي الأساسي بالآخر هذه تجعل الإنسان جزءا من فضاء رمزي يدير هذه العلاقة: عندما تتعامل مع شخص آخر لا يمكن لهذا التعامل أن يتم إلا في ظل إتفاق ضمني بإحترام قوانين رمزية تجعل هذا التعامل ممكنا، مثلا، عندما يخبرك شخص بأنه يحبك فأنت لا تستطيع أن تتأكد بصورة كاملة إن كان هو يعني ذلك فعلا، ما تستطيع أن تفعله هو أن "تؤمن" بأن هذا الآخر يعني فعلا ما يقول، بأنه يعني الكلمة بمعناها الموجود سلفا في الفضاء الرمزي (في مثل هذه اللحظات، عندما يتواجه الإنسان بحب شخص آخر، يظهر "الآخر" كشيء جذري و مختلف و خارج إطار قدرتنا على الفهم الكامل و السيطرة، كشيء مخيف إن شئت، هذا الإختلاف الجذري، الشيء الموجود في الخارج، هو ما يفتح المجال لتكون فضاء رمزي يجعل من التواصل أمرا ممكنا). هنا يمكننا أن نفهم لماذا سمى جاك لاكان الفضاء الرمزي Symbolic Order "الآخر الكبير" .. لأنك تعتمد عليه لفهم "الآخر الصغير" الذي أمامك (و هو عبارة عن منظومة اللغة بالمعنى الواسع للكلمة، المنظومة التي تنتجها العلاقة المستحيلة مع الآخر الصغير). هذا الدخول في الفضاء الرمزي الذي هو علامة قبول الفرد لحقيقة أن الآخرين هم جزء حقيقي في الحياة، تأتي معه الرغبة المفسرة رمزيا.
لفهم الفرق بين الرغبة النرجسية (خارج الفضاء الرمزي، الرغبة التي لا تعترف بالآخر كشيء مختلف جذريا و موجود خارج الفرد) و الرغبة الفردية الحقيقية، يمكننا أن نعود لمقال سلافوي جيجاك عن الفلم "لا لا لاند" المنشور مؤخرا في Philosophical Salon. في هذا المقال يقدم جيجاك قراءة مميزة لفكرة الحب لا بوصفها شعورا داخليا نرجسيا، بل بوصفها إلتزاما رمزيا، أنت عندما تحب فأنت تلتزم تجاه شخص آخر و "تؤمن" بأنه يلتزم تجاهك بنفس القدر، و لا يهم هنا الشعور الداخلي أو السعادة: في الحب تتحول حياة الفرد الذاتية لأمر تافه، ما يهم فقط هو "الفكرة الخارجية"، الشخص الآخر الذي لا سبيل لمعرفة ما يدور في ذهنه، لا سبيل "لإبتلاعه"، كل ما هو ممكن هو "الإيمان" بالعلاقة كفكرة. لذلك فإن شعور الحب الأصيل هو شعور "مؤلم"، شعور بأن شيئا ما قد "تدخل من الخارج" في حياتنا. هذا الحب سيحكم ببقية القوانين الرمزية و لن يعيش خارجها، و لذلك كانت القراءة "اللينينية" التي قام بها جيجاك للفلم مميزة جدا: الحب الحقيقي هو الحب "اللينيني"، ذلك الحب الذي يحدث مرفقا بإلتزامات رمزية أخرى و يحيى عبرها، الرغبة في الحب لا تختلف عن الرغبة في مشروع سياسي تقدمي مثلا، كلاهما نتاج تحول الإنسان لمخلوق رمزي إجتماعي. و الحب بهذا المعنى لا يمكنه أن يكون مهربا من الإلتزامات الرمزية الأخرى (هي رغبات في الحقيقة، الفعل الثوري هو رغبة، وبصورة عامة فإن القانون الأخلاقي الداخلي هو نتاج رغبة كذلك، لاكان وضعها بهذا الشكل: الرغبة لها هيكل الواجب)، بل هو جزء منها. لذلك فإن علاقة الحب الحقيقية هي ليست تلك العلاقة التي يُضحّي الواحد منا بمسؤولياته من أجلها، بل هي العلاقة التي يُضَحّى بها في خدمة قضية أكبر (لحسن الحظ هذا الأمر غير ضروري دائما!). مثال جيجاك بالطبع كان لينين الذي منح حياته للثورة و بالتالي لم يجد الوقت للحب، و لكن ذلك لم يمنعه من حب أينيسيا أرماند في نفس الوقت. الحب المفقود الذي يشرق، عبر غيابه من أجل الثورة، كشيء أشد قوة و حضورا. هل يمكن مقارنة ذلك بالحب النرجسي الذي يسعى أول ما يسعى "لإلغاء" الآخر و "إبتلاعه"؟ .. هذا الحب الذي "يحرر" الآخر من إمتلاكنا له يفسر فكرة الشاعر الفرنسي الفرنسي ريلكة "الحب هو أن يحمي كل منا حرية الآخر".
بهذا التعريف للرغبة كنتاج توجه خارجي أساسي للنفس الإنسانية، سيكون من الممكن أن نفهم أن لعلم النفس بالتعريف تبعات إجتماعية و سياسية. بداية أي مشروع تحرري جماعي هي الفرد نفسه، إعادة صياعة رؤيته لنفسه و لرغباته. و بصورة ما فإنه علينا أن نعكس الفكرة السائدة "ليتحرر المجتمع فإن على الفرد أن يحرر نفسه". في الحقيقة حتى يتحرر الفرد فإن على الفضاء الإجتماعي أن يتشكل بصورة تجعل من الحرية الفردية أمرا ممكنا. و هنا أنا لا أعنى فضاء الحريات السياسية القانوني، بل أعني أمرا أكثر جذرية؛ حتى يتحرر الفرد فعليه أن يتحرر من عالمه الداخلي عبر دخوله في فضاء رمزي إجتماعي يعطي لهذا العالم الداخلي معنى رمزيا مفهوما. علينا أن نعيد صياغة رؤيتنا للواقع بحيث يكون بإمكاننا كأفراد أن نلتزم داخل قضايا و رغبات خارجية جماعية، رباعية آلان باديو مثلا: السياسة الجذرية و العلم و الفن و الحب. و بهذا الإلتزام سيصنع الفرد قانونه الداخلي بنفسه "معنى حياتي هو في نجاح هذا المشروع السياسي.. أو في هذا الإنتاج الفني .. إلخ". هذا القانون الداخلي الذي يحرر الواحد منا من نفسه عبر الدخول في مجال جماعي هو الشيء الذي تمنعه النرجسية. بوصفها النمط النفسي المناسب للمجتمع الرأسمالي المتقدم. و في غياب هذا المجال سيعود الأمر الإجتماعي الخارجي، و لكن ليس في صورة أمر رمزي مفهوم (قانون داخلي) بل في صورة مبهمة و لكنها شديدة القهر "عليك أن تستمتع بالحياة!"، "عليك أن تكون ناجحا!"، "عليك أن تكتشف مقدراتك الداخلية!" .. إلخ (تمتاز هذه الأوامر بأنها تأتي من الخارج و لكنها مُلزمة بصورة غريبة في نفس الوقت، مثلا، تمتاز كتب التنمية البشرية بأنها تصنع أهدافا معينة للأفراد بدون مشاورتهم "كيف تصنع أصدقاء؟"، "كيف تسيطر على الوقت؟" .. إلخ. و لكن هذا التدخل الخارجي الغريب يأتي بسلطة مباشرة، ردة الفعل الأساسية للفرد الذي يقرأ عنوان كتاب التنمية البشرية هو الشعور بالذنب! "لماذا لستُ ناجحا؟!" و كأنه إقتنع سلفا بأن من "واجبه" أن يصنع أصدقاء أو أن يلتزم بالمواعيد أو أن ينجح. و بالطبع لا تقدم هذه الكتب أي إجابة على سؤال "لماذا؟" .. "لماذا عليّ أن أنجح؟" هي تتحرك من البداية القاهرة المبهمة و تبني عليها). تذكر فقط تلك الشحصية النمطية التي تتحرك بإستمرار و بلا توقف في سعي نهائي نحو "النجاح" و "الشهرة" (و المال بالطبع، المال هو ال Master Signifier الذي يشمل تحته السعادة و النجاح و حتى الأخلاق، في عالم اليوم) و كأنها تؤدي مهمة أخلاقية، و لكنها في نفس الوقت تقوم بذلك بدون أي تفسير واضح و بشعور دائم بأنها مجرد "أكذوبة".. تلك الشخصية المثيرة للشفقة هي في نفس الوقت الشحصية الأكثر "إنتاجا لفائض القيمة" و هنا مربط الفرس.
(تم نشر المقال في صحيفة الأخبار اللبنانية)
http://www.al-akhbar.com/node/275632
__________________

1- أعتمد في هذا المقال بشكل كامل على ورقة كتبها سلافوي جيجاك عام 1986 بعنوان "النرجسي المرضي، شكل الذاتية المطلوبة إجتماعيا"، المقال متوفر على هذا الرابط
http://m3.manifesta.org/catalogue5.htm

2- لقراءة محاجة مكتملة ضد فكرة حصر علم النفس اللاكاني داحل العيادة بوصفه علم تحليل نفسي للأفراد و علاجهم: سلافوي جيجاك "كيف نقرأ لاكان"، الكتاب متوفر في موقع lacan.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق