إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 18 أبريل 2016

دفاعا عن السياسة: مع آلان باديو إلى نهاية العالم

دفاعا عن السياسة...

(2) مع آلان باديو إلى نهاية العالم

هذا العبور بالسياسة من فضاء الإجبار الأخلاقي التقليدي، ذلك الفضاء المليء بالتشنج و الكراهية، إلى حقيقة أنها مساحة خلق الجديد، الجديد الذي "نتوق إليه"، "نتحمس في بهجة لرؤيته". ما أن نحقق هذه النقلة حتى نجد أن تعريف السياسة على أنها "فن الممكن" لا يمكنه أن يستوعب "سياسات التحرر الجذرية".

الحرية الإنسانية هي في جوهرها تطلع/رغبة لما هو ممكن (و ما هو غير ممكن في ظل المقدمات المادية المتاحة). إن الركن الأساسي لأي أيديولوجيا سلطوية هو توفيرها لكل خيارات "الممكن" لنا: عليك أن تختار إما أن تكون في الحكومة "بكل شروطها" أو في المعارضة "بكل شروطها"؛ إن كنت مواطنا في الشرق الأوسط فعليك أن تختار إما أن تكون سنيا "مع السعودية" أو شيعيا "مع إيران"؛ بعد نجاح الثورة المصرية قدم الإختيار للناس أن إما أن يكونوا مع الإخوان المسلمين أو أن يقبلوا بعودة النظام القديم؛ في صراع الهوية الثقافي عندنا فإن الخيار الصارم تجاه أفريقيا هو إما أن تكون عربيا عنصريا أو أن تكون أفريقانيا حقا (صلاح أحمد إبراهيم هو الرمز الفارق هنا، لكن هذا موضوع آخر). أما حركة الحرية الأولى فهي رفض كل الخيارات المطروحة من قبل السلطة (بالمعنى الواسع للكلمة)، و التطلع نحو إيجاد حل يلغي ضرورة الإختيار، و إنجاز مهمة توفير مقدمات هذا الحل، مهمة جعل اللا ممكن ممكنا. هذه هي علاقة الحرية باليوتوبيا.

هنا يمكننا أن نفهم فكرة ألان باديو القائلة بأن الفلسفة في الأساس تفتح المجال المعرفي لدى الإنسان "لرغبات" جديدة جذريا. الفلسفة تبدأ عملية خلق الواقع الجديد لأنها تفتح المجال للتوق لشيء ما، تجعل هذا التوق مشروعا. لقد ماتت السياسة عندنا عندما لم نفتح المجال لأنفسنا للتطلع لشيء جديد كليا، عندما تحركنا في داخل الممكن، في داخل السياسة اليومية كما تُقدم لنا على أنها "كل شيء يمكن إنجازه في ظل الظروف..". في داخل هذه السياسة التي هي جزء من العالم الحالي، و التي تفترض أن أي رغبة في شيء جديد كليا، أي رغبة في فعل خلاق، هي بالضرورة مجرد أحلام.

في داخل هذه السياسة فإن الخيارات هي إما أن تكون السياسة "لعبة قذرة" أو أن نلتزم في نشاطات عشوائية "تتدعي خداعا الجذرية Pseudo-radical" تهدف فقط لتجنب مواجهة الحقيقة القائلة بأن فعل خلق واقع جديد، أن الرغبة في خلق واقع جديد، هي رغبة تتطلب أكثر من مجرد "فعل كل ما يبدو أنه صحيح"، تتطلب مجهودا فكريا منضبطا قبل كل شيء. أن الرغبة في الخلق السياسي الجذري هي أكثر من مجرد الرغبة في الشعور بالسعادة أو الرضى. و بالتالي فهي عكس التبسيط الذي يجلب الراحة، هي العمل الشاق لمواجهة تعقيد الحقيقة. نحن الذين لنا مصلحة –إن شئت- في رؤية هذا العالم الجديد، نحن في الحقيقة لا نملك غير عقولنا و أجسادنا -مثل أي بروليتاريا في كل مكان- و لذلك فإن إستخداما، منضبطا و جادا، لهذا الموارد المتوفرة لفترة محدودة سيكون إلزاميا. أخلاقيات الرغبة (التي يقترحها جاك لاكان عبر علم نفسه المبني على أفكار فرويد و هيغل و كانت) ليست أخلاقيات "إفعل ما تشاء"، بل هي أخلاق "تحلى بالشجاعة، لتلتزم بكل الفعل الشاق و الضروري فعلا، حتى تحافظ على رغبتك حية".

إذن، يمكننا أن ندافع فعلا عن السياسة، أن نحررها من أثر الواقع عليها. بالعودة لآلان باديو، فإن فكرته عن تحرير الفلسفة لرغبات جديدة تأخذ شكلا حاسما في التبعات التي يبنيها آلان على هذا التحرير: إن تكون رغبة في صناعة عالم جديد، إن بناء هذه الرغبة لا على مجرد تخيلات وهمية، بل على فعل فكري منضبط، فكر مادي –إن شئت-، هو فعل الفلسفة الجذري؛ أما عملية تحقق هذا العالم فهو يتم عبر طريقين. الأول هو الفن: الإبداع خارج الأطر المتاحة، الإنشغال بخلق كل ما هو غير موجود من وجهة نظر الثقافة المهيمنة، الفن كفعل "تحرري" حقيقي. و الطريق الآخر هو السياسة: السياسة التحررية هي سياسة أخلاقية ما دامت ملتزمة بالوفاء لرغباتنا الأصيلة، و هي رغبات توجد خارج العالم المتاح اليوم، و لذلك فهي سياسة إبداعية، لا تجتر الماضي بل تحاول "الوفاء" للحقيقة التي ظهرت فيه. هذه السياسة التي تحاول بناء عالم جديد هي سياسة شاقة، في بعض تفاصيلها مملة، و لكنها مع ذلك سياسة تجيش الناس لأنها تعبر عنهم، تجيشهم بلا "شعبوية" إن صح التعبير. هذا التعارض بين السياسة الجذرية و الشعبوية يمكن تلخيصه في فكرة التعارض بين "المنفعة المباشرة" و "الحقيقة"، متى ما وضعت الأهداف الصغير "المشروعة" كأهداف عليا، متى ما رفعت فوق الحقيقة فإننا سننتهي لسياسات شعبوية، تؤدي في النهاية للبقاء داخل العالم، لمواصلة الدوران فيه (و بالتالي عدم القدرة على إنتاج المنفعة على المدى البعيد و لكل الناس)، لذلك فإن الفكر السياسي الجذري هو فكر مبني على أسبقية الحقيقة على كل شيء.

بالنسبة لي، فإن هذه السياسة هي ليست شيئا جيدا فحسب، بل هي عمل محبب، يمكنني أن أفني حياتي فيه بلا أي ضغط من أخلاقيات "المسؤولية". بالفعل، هذه السياسة هي رفيقة الفن، هي الخلق في الواقع لموضوع الفن.

لكن حتى لا تتحول هذه الدعوة لإعادة الإعتبار للسياسة لدعوة خيالية/تجريدية فإنه يمكنني أن أربطها بنمطين أكثر إشكالية: أولا، تاريخ هذه السياسة التحررية، التي تهدف لخلق عالم جديد، هو تاريخ صلب، حقيقي، مزعج في أكثر تفاصيله؛ بداية بالثورة الفرنسية، مرورا بثورة أكتوبر في روسيا، و حركات التحرر من الإستعمار، بالثورة في الصين و إيران، و ثورة أكتوبر في السودان. هذا التاريخ، الذي هو تاريخ من العنف و الفشل (قبل الحرية و الديمقراطية و إنجاز ما كان يبدو غير ممكنا) هو "تاريخنا" كما يقول سلافوي جيجاك، لا يمكننا، بل لا يجب، أن نتنصل منه. جزء من حقيقة قدرتنا على مواصلة تخيل غير الممكن هو الإستناد على هذا التاريخ، لذلك فيجب التعامل مع هذه المشكلة/الإمكانية وجها لوجه. أما من الجانب الآخر، فيمكنني أن أشير لشخص مثل ديفيد هارفي، عالم الجغرافيا البريطاني، و المتخصص في التخطيط الحضري (في هندسة المدن) بوصفه أحد الأشخاص الذين حولوا الرغبة المجردة في "خلق مدن جديدة" لمشروع أكاديمي صلب. أن أشير له بوصفه مثال للقوة المادية لهذه السياسة، قوة تحولها لعلم، و من ثم لواقع. فنحن ("نحن" هذه أنا أقترض بها من المستقبل، أو هكذا نتمنى) لسنا، بطبيعة الحال، ظاهرة ثقافية، فقط.

إن الثورة، كتوق أصيل، هي ليست في "الكرنفال" الذي يحدث يوم المظاهرات الحاشدة، بتعبير سلافوي جيجاك، بل في العمل السياسي الممل الذي ينجز بعد إنتهاء الكرنفال... و الذي ينجز قبله بالضرورة.

إنتهى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق