إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 18 أبريل 2016

تعليق على مقال مامون التلب "بُرجم.. أو ألفية تدشين السلطة الفردية"


أولا، أظن أنه من المفيد ملاحظة أن مامون يكتب المقالة متفائلة و جيدة بأفضل بكثير مما يكتب الشعر.


الرجل لديه موهبة في محاولة عيش الثقافة. بدل النزعة المبطنة لدى أغلبية "المثقفاتية" للتعرف على الثقافة تحديدا ليحيدوها في النهاية. ليتخلصوا منها بأكثر مما يفعل الناس العاديون.

أتذكر مرة أننا إجتمعنا كمثقفين شباب في شارع النيل في حلقة يقصد منها مناقشة الواقع و محاولة الفعل فيه، بدأت الجلسة بسيل من الأطروحات ما بعد الحداثية من شاكلة "لا يوجد شيء إسمه وطن، هذا مجرد إستيهام خيالي"، "لا يمكن بناء أي فعل سياسي على أخلاق ما".. إلخ من التعميمات البليدة التي يفترض صاحبها أنها غاية في العمق. بعدها إكتشفنا جميعا أنه لا يوجد أي سبيل لحوار ما في ظل هذه "الثقافة". الخطوة التالية كانت أن قرر الجميع أنه علينا أن نتوقف عن التعاطي مع الموضوع "ثقافيا" و أن نبدأ بالحديث مباشرة! أن نتفق على الأشياء الواضحة: الديمقراطية، حقوق الإنسان، إلخ ... و خلاص! بالنسبة لتلك الجلسة فإن المعرفة هي تحديدا السبيل لتجاوز المعرفة.

على سبيل المثال، فإن مامون التلب، في نقده الموصوف من قبله هو نفسه ب"غير الموضوعي" للكاتب حمور زيادة، قد قام بمحاولة عكس هذه اللعنة. لعنة إستعمال الثقافة لإدراك حدودها ثم تجاوزها. قام بمحاولة إستعمال الثقافة نفسها في كتابة نقد لا يلتزم بالمعايير الثقافية المتاحة. كان من الممكن أن "يستبطن" مامون كراهيته (إن صح التعبير) لحمور و أن يتعامل معها كمجرد كراهية غير مبررة من دون أن يحاول تشكيلها ثقافيا في شكل نقد. أن يفعل كما يفعل بقية "الموضوعيين". هم ببساطة عندما تستبد بهم اللاعقلانية و الذاتية يدركونها كأشياء "ما قبل ثقافية" لا يمكن مناقشتها -بل لا يجب- أن تناقش داخل الثقافة. لذلك فإنه، و بغض النظر عن فشل مامون تماما في مشروع نقده اللاموضوعي، و حقيقة أن مامون نفسه يمثل جزءا مما يحاول هو أن يكرهه (يمكن مراجعة مقابلة مامون في الغارديان و التي تحدث فيها كواحد من "ايديولوجيي" المعرضة عن كيف أن حكومة الإنقاذ أخفت عنا الكتب فلم يبق لنا إلا أن نقرأ كتب الجغرافيا و النحو!)، على الرغم من كل ذلك، فإنني أجد نفسي متفقا تماما مع فكرة إدخال هذه الحزازات و الخلافات غير الموضوعية داخل مشروع الشخص الثقافي. بدون مثل هذه الشجاعة فإن الثقافة ستتحول لمساحة يستعملها الإنسان متى أراد و يتخلص منها متى أراد، مثلما يفعل "المثقفاتية" عندنا. و يصح هنا أن نسأل، هل تسيطر الموضوعية بالفعل على كل من هاجم لا موضوعية مامون التلب؟

بالنسبة للمقال:
يلاحظ مامون، محقا، أنه في داخل هذا العالم فإن أدوات بعينها تتكون و تعمل ضده. مامون يقوم بالعملية الصعبة، تخيل عالم آخر جذريا، من داخل هذا العالم. هذا العالم القادم كان يطلق عليه سابقا "يوتوبيا". و للكلمة بالتأكيد أعداء في كل مكان. يوتوبيا مامون التلب تقوم على رؤية الحرية الجذرية التي ينتجها عالم اللاحرية رغما عنه. و تصل هذه الحرية قمتها في فكرة "عصر السلطة الفردية"، لم يعد الأفراد بحاجة لمؤسسات حتى يعملوا من خلالها، فكرة محمود درويش "الفرد الحشود" قد تحققت فعلا، الفرد نفسه تحول لمؤسسة، مؤسسة لها مشروع و لها أدوات. تعجب مامون التلب جدا فكرة أن لا حوجة للكاتب في عالم اليوم "لناشر"، يمكنك أن تكتب في مدونة أو في الفيسبوك، و إن كان ما تكتب جيدا فأنت ستنجح. إعجاب الناشر بما تكتب لم يعد خطوة ضرورية. هذا نوع واحد من أشكال تركز السلطة لدى الفرد، و إذا ما لاحظنا هذه الأشكال في أماكن العمل و في قدرة الأفراد على مقاومة "ارباب العمل" فإننا سنرى أن ما كنا نحلم به قد تحقق فعلا. و يا للدهشة.


أتشارك مع مامون و بلا أي إعتذارية تفاؤله بأن هنالك عالم آخر من الممكن أن يتحقق، لكنني أقترح نوعا آخر من التفاؤل. قبل ذلك يمكننا أن نتساؤل عن فعالية التفاؤل المباشر كما يفعل مامون التلب: كل شيء يسير في طريق جيد، علينا أن نواصل العمل داخل الفرص التي ظهرت بصورة تلقائية. ألا تغفل هذه النظرة أنها تلتزم بصورة مريبة بتلقائية الأشياء؟ و من ثم تبالغ في تصور تأثير منجزات النظام نفسه على نفسه؟ سابقا توقع كارل ماركس أن الرأسمالية قد أنبتت في داخلها بذرة فناءها تلقائيا، إعتبر ماركس أن "الأزمات المالية الكبرى" سوف تقضي على الرأسمالية تلقائيا (أو فلنقل حسب إحدى القراءات ذات الطابع الحتمي).. ما حدث فعلا هو أن الأزمات المالية ظهرت كواحدة من أهم أسلحة الرأسمالية، تعيد بها ترتيب أوضاعها و تظهر كل مرة أقوى من ذي قبل. هل فعلا ينتج النظام تلقائيا بذور فنائه؟ أم أنه يستعمل حتى "تفاؤلنا" البسيط لصالحه؟

ما لا يستطيع مامون التلب تخيله هو غياب المرجعية. خذ مثلا إسم مدونته "طينيا". غياب المتجاوز ظاهريا (مامون التلب علماني بالطبع) في الخطاب المعلن لمامون يخفي ظهوره في شكل مرجعية أخرى: الأرض، الطبيعة، المادة ذات نفسها. يتشارك مامون هذه النزعة الطبيعوية (إن صح التعبير) مع حركات واسعة ترى أن المرجعية الجديدة تكمن في الأرض "كأم" لنا جميعا. ميتافيزقيا جديدة. لذلك فإنه و كأن هذه المرجعية تظهر لدى مامون كضمان بأن كل شيء سيكون على ما يرام. ماذا لو ظهرت لنا الحقيقة في المستقبل أن كل شيء سيزداد سوءا؟ ربما سنتحول حينها من متفائلين إلى متشائمين واقعيين مثل أغلبية الأذكياء حاليا.

هنالك في الفضاء الثقافي العالمي حاليا مدرسة أخرى في المادية. أستطيع، من معرفتي المحدودة بها، أن أقترح شكلا آخرا في التفاؤل: الأشياء إذا تركت لحالها فإنها تتجه تلقائية نحو الكارثة، إن كان ثمة حتمية ما في الكون فهو لهذه الكارثة، و أي يوتوبيا هي إنجاز "المستحيل" و تفادي هذه الكارثة. حتى الثورات العربية عندما إعتقدنا أنها الرد التلقائي و المنطقي للشعب "الظروف الموضوعية لدى الشعوب العربية جعلت الثورة حتمية" (هذا النوع من التفكير الذي يجعل من الجوع حلنا الوحيد، إقترحه ياسر عرمان و مجموعته كثيرا) فاجأتنا الثورات بأن أنتجت تلقائيا بؤسا تجاوز كل تصور، و أنتجت متشديين و ظلاما و تخلف. و كل ذلك و نحن مازلنا متفرجين ننتظر أن تصلح الأمور نفسها. إن التفاؤل المشروع بفرصة تكون يوتوبيا ما لا يمكنه أن يقف إلا على إدراك و تقبل لحتمية الكارثة (أو إحتمال حدوثها على الأقل). هذا أولا. ثانيا، إن بداية الحل تكمن في أن نرى في الحلول التي تظهر تلقائيا المشكلة ذات نفسها. خذ مثلا فرضية ألان باديو الشهيرة:
Since it is sure of its ability to control the entire domain of the visible and the audible via the laws governing commercial circulation and democratic communication, Empire no longer censures anything. All art, and all thought, is ruined when we accept this permission to consume, to communicate and to enjoy. We should become the pitiless censors of ourselves
كل الأشياء التي يحتفي بها مامون: حرية الكتابة و القراءة و إستهلاكهما، بالنسبة لباديو هي وسائل تقوم تحديدا بتدمير كل فرص إنتاج شيء جديد. بالتأكيد لا يمكن فهم الفقرة بإعتبارها هجوما شاملا على التعبير و حرية التعبير. كل ما في الأمر هو أنه هنالك جوانب أخرى لهذه الحرية، متى ما أغفلناها فإننا سنكون جزءا من عملية إفراغ هذه الحرية من معناها. الحرية التي تظهر تلقائيا يمكن إستعماها بطرق عديدة، هي ليست شيئا جيدا في ذاتها. و كل خلق لعالم جديد يبدأ برفض "الفرص" التي يفتحها العالم القديم تحديدا. عندما يستفزنا العالم لنتفاءل ببراءة، علينا، مباشرة، أن نفعل "رقابتنا الذاتية"، أن نضع تفاؤلنا موضع تساؤل جاد.

هناك تعليقان (2):

  1. سلام يا سيد محمود، شكراً على الكتابة الماتعة والأسئلة والتفاكير الجديدة :) عثرت على المدونة أمس فقط، وأدعوك إلى قراءة (الحجب) كذلك إذ هو امتداد لمقال برجم. إليك بالرابط:
    http://teenia.blogspot.com/2016/04/blog-post.html
    حتى يتوضح موضوع التفاؤل والتشاؤم.
    ولي عودة بالتأكيد.
    تحياتي واحتراماتي :)

    ردحذف
  2. و الله نورت و شرفت المكان يا مامون .. بالنسبة للمقال "حجب" فبجيهو لاحقا. لكن مبدئيا كدا قريته و اعجبت بيهو جدا. أصلا نحن في الفضاء بتاعنا فكرة الكتابة عن المستقبل "بجدية" ماف. ما أظن في ناس كتار مقتنعين إنو في مستقبل. هههههه

    مرحب بيك مرة تانية. :)

    ردحذف