إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 18 أبريل 2016

عن الواقعية و الإسلام السياسي

ماذا يعني أن يكون الإنسان واقعيا؟
أعتقد أنه قد حان الوقت للتفكير حول الواقعية بصورة أكثر نقدية، عندما إنطلقت الثورة السورية كانت الطموحات المادية للناس غير واقعية بإمتياز، بشار الأسد سيرحل، و نظام قائم على الحرية و الديمقراطية و الرفاه سيحل محله، عندما نطلق طموحاتنا الثورية المادية فإننا في العادة ننزع لتخيل ما لا يمكن تخيله في ظل القواعد الحالية للعبة، حتى في الولايات المتحدة فإن التفكير في نظام صحي يغطي الجميع على سبيل المثال هو تفكير غير واقعي بالمطلق، و يمكننا أن نمد هذا المنطق لنفكر في الحلم الأفريقي الدائم بالوحدة و التكامل، و هو مطلب مادي بسيط لدول متجاورة سحقها الفقر و لا مخرج لها بدون هذه الوحدة، لكن رغم ذلك فإننا سنجد أنفسنا و قد وقفنا أمام كم لا نهائي من المعيقات بحيث تتحول مطالبنا المادية البسيطة و المستعجلة، مثل كل مطالب الناس الآنية البسيطة في أي ثورة، إلى "يوتوبيا"، و في التطلع لهذه اليوتوبيا المفروضة عليه فرضا يفارق الكادر الثوري الواقعية بلا أي أفق ممكن للمصالحة. على الصعيد الآخر، فإن القوى السياسية الدينية، و التي تفسر الواقع بشكل متجاوز غير عابئة بالحقائق المادية، ستكون هي القوى الواقعية القادرة على التأقلم مع قواعد اللعبة، في سوريا إنتهى الحال بدولة قطر و هي الدولة، رفقة تركيا، التي تريد أن تتعامل مع الثورات العربية بأكثر صورة عقلانية ممكنة، إنتهى بها الحال للتحالف و لو ضمنيا مع "جبهة النصرة" إحدى أجنحة تنظيم القاعدة سيء الذكر، و بالتأكيد و قبل ذلك، مع باقي التشكيلات الإسلامية الأكثر إعتدالا. على الأرض فإن هؤلاء الجهاديين، الذين ينتهي تفسير بعضهم للصراع بين فكرة حرب الكفار و البحث عن الحور العين، هم عمليا أصحاب الخطاب الأكثر واقعية، و يمكن للمرء أن يتذكر دائما أن نقدهم الصارم لكل النزعات اليوتوبية أساسه أن الله تعالى –حسب تفسيرهم- قد خلق الكون لتكون مآسي الواقع الراهن status qou، هي القاعدة التي لا سبيل لتغييرها.
هذا النزاع حول الواقع، و تمثيله، يمكن فهمه بصورة أوضح في الفنون التمثيلية كالسينما و المسرح. هنالك مدرسة بأكملها في المسرح الأوروبي تنزع لمحاولة إنتاج مسرح "واقعي"، في هذا المسرح تتضمن الحبكة لحظات يقوم فيها الممثلون بأفعال لا يمكن هضمها داخل الإطار الخيالي للقصة، كأن يتم ذبح حيوان على المسرح ليسيل دمه الحقيقي على الأرض، و كما يمكننا أن نتوقع فإن هذه اللحظات ستمثل دائما صدمه للمتابع، و ستكون ردة الفعل هي شعور مشابه لشعور "الإستيقاظ" من حلم، في السينما إبتدع وودي آلن فكرة أن يتحدث البطل للمشاهدين عبر الكاميرا ليحدثهم عن سير القصة و كأنه خارجها، و يمكن متابعة السعي المحموم لتحويل السينما لمجرد واقع في قطاع كبير من الأفلام الأوروبية، حيث يهدف المخرج أساسا لتحويل الحوارات داخل الفلم لنسخ طبق الأصل للحوارات التي تحدث في الواقع.

و تنزع هذه المدرسة في الواقعية الصلبة إلى النظر للشكل المقابل لها على أنه مجرد كليشي طفولي، أتذكر على سبيل المثال أنني أحببت الفلم Silver Linings Playbook تحديدا بسبب مجموعة الكليشيهات الرائعة التي يحملها، في نهاية الفلم تخرج "تيفاني" و هي في قمة الحزن معتقدة بأن "بات" قد عاد لزوجته السابقة، يلحقها بات راكضا تحت المطر ليعطيها رسالة كتبها لها قبل أسبوع، خلاصتها أنه يحبها، تسأله تيفاني محتارة و غاضبة: ماذا كنت تنتظر كل هذا الوقت؟! يعتذر: آسف، "أردت أن أجعل هذه اللحظة درامية قليلا!"، بخلاف مثل هذه الكليشيهات الرومانسية فإن الفلم بشكل عام مبني على الفكرة الشائعة بأنه لا يمكن للإنسان أن يحب فعلا إلا إن كان مجنونا. بشكل عام، يمكن ملاحظة الفرق بين المدرستين إبتداءا من مقدمة الفلم، بالنسبة للأولى فإن شاشة السينما هي إطلالة هادئة لرؤية العادي و المتوقع، تدخل إليها بأكثر شكل تدريجي ممكن و بلا أي قفزات مبنية على المشاعر، أما بالنسبة للثانية فإن الشاشة الكبيرة للسينما هي بوابة إلى المتجاوز "الآخر" لذلك فإن بداية الفلم يجب أن تكون سحرية بأقصى ما يستطيع للمخرج أن يفعل، فالحد الفاصل بين الواقع و بين الخيال لا يمكن إنجازه إلا بدفع المشاهد عن طريق عواطفه للقبول بالقواعد الجديدة و الإلتزام بشكل فعال بها. مخرجون كبول توماس أندرسون و كوينتين تارانتينو (أتذكر تحديدا ماغنوليا و إنغلورياس باستردس) يبرعون في هذا الفن -وضع الحدود الفاصلة بين ما قبل السينما و السينما- لكنني أفضل الفلم فيلاديلفيا كمثال، في بداية الفلم تم وضع أغنية بروس إسبرينسغتين "فيلاديلفيا" و سط مشاهد السحاب و النزول من السماء للمدينة، و كأننا ندخل لأول مرة لفيلاديلفيا جديدة. و بشكل عام فإن الإحتفاء الكامل بالذاتية و الخيال مثل العمود الفقري للفلم المذهل "إيميلي".

الآن فإن السؤال هو: في صف من يقف التفسير المادي للواقع؟ يمكننا في البداية أن نبدأ من الموقف المقابل، ينشط حاليا في منطقتنا تياران مضادان للحداثة (على الأقل للحداثة بمعناها المطلق) تيار الإسلام السياسي، و تيار القومية العربية (و الأفريقية)، سيكون متحتما على كلا التيارين لإكمال تصورهما للواقع، سيكون محتما عليهما الإستناد على تفسير متجاوز للواقع، كالإيمان بشرعية دينية أصولية (حيث يتم إخضاع الواقع لسلطة النص) أو الإيمان بالعرق. قبل أيام و في معرض دفاعه عن نفسه أمام إنتاقادات أحد أنصار الأفريقانية ذكرنا عبد الله علي إبراهيم بأن موقف الأفريقانية ممثلا في منطق الأديب النيجيري الشهير وولي سوينكا هو موقف الإستناد على "ميتافيزيقيا العرق الأفريقي"، هذا النمط من التفكير المتجاوز هو نوع من الهروب إلى الأمام، حيث يتم وضع الحدود المتخيلة حول الثقافة و العرق بحيث تصبح العودة إليهما فعلا مقاوما، و يتم إعتبار هذه العودة عودة للذات، ضد هذا السياق جعل فرانز فانون هدفه الأساس هو ألا تتحول أفريقيا لأوروبا جديدة، لا يمكن محاربة الإستعمار جذريا، حسب فرانز فانون، عن طريق تبني نفس جوهر الفلسفة الإستعمارية أو "الهوية".

بشكل عام، فإن ما يوجد خارج أي منطق متجاوز هو "الحقيقة". تقول إحدى روايات مقتل جاليليو، أن آخر كلمات نطق بها العالم قبل أن يموت كانت "على الرغم من كل شيء، سوف تستمر حتما في الدوران"، فالأرض، كرمز للمادة التي تسكنها الحقيقة، و رغم السلطة الهائلة للمنظومة المتجاوزة التي صنعتها مؤسسة عظيمة كالكنيسة، سوف تستمر بالدوران. أعتقد أنه يمكننا أن نبدأ من هذه النقطة في أي محاولة لتبني سياسات مادية، حيث لا يشرح التفكير المادي –كما قد يتوقع البعض— كيف أن الإنسان عبارة عن مجرد كائن باحث عن اللذة و السعادة، بل على العكس، فإن ما يشير له التفكير المادي هو حقيقة أن هنالك دائما شيء خارج العقل الإنساني، واقع ما، حقيقة ما، يحاول العقل الإنساني أن يفهمها، أو أن يتعامل معها. ما أن تقرأ دوستويفيسكي يكتب عن "الشخص المنغمس في التفاهة" حتى تتلمس و بسهولة كيف أن هذا الشخص في الواقع هو أكثر شخص يستند في تفسيره للواقع على خيالاته الشخصية، على إيمانه بهذه الخيالات و ليس على الحقائق. بالعودة لتحليلنا السابق للمسرح، فإنه يمكن القول أن أحد الأمثلة الرئيسية لهذه التخيلات هو تخيل الإدراك الكامل للواقع.

إذا أخذنا التصور التقليدي "للإنسان المادي" متمثلا في الشخص الثري الذي ما يزال يبحث عن زيادة ثروته، فإننا سنلاحظ بسهولة أن الدوافع الحقيقية لهذا التوجه (الذي يتم إعتباره توجها واقعيا) هي دوافع غير مادية أساسا، تظهر النزعة شبه الدينية للإيمان بأهمية مواصلة الربح، في الظاهرة الشائعة للرأسمالي الذي يتبرع بأجزاء كبيرة من ثروته يوميا ليعاود جمعها في الغد من جديد، المثال الآخر للأيديولوجيا التي تظهر تحت قناع الواقعية هو الشخص التيكنوقراطي أو "الخبير"، لاحظ إدواد سعيد مثلا أن فكرة الحياد الكامل و الواقعية المطلقة للخبير الأمريكي الذي يحلل الشأل الفلسطيني أو العراقي هي الوجه الأخر للنزعة الإستشراقية المبنية على الأيديولوجيا المتجاوزة الأكثر هشاشة، و لا تستطيع هذه النزعة أن تظهر نفسها إلا في شكل النقاط المحايدة التي يلقيها أحد "الخبراء".

في المقابل، فإن تصورا آخر للمادية، يتمثل في تحليلات فرويد على سبيل المثال، ينزع لإعتبار أن جزءا من الحقيقة المادية على الأقل يكمن خارج الواقع الصلب الممل، في الخيال، في تحليل كارل ماركس مثلا "للسلعة" فإنه يوضح و بصورة ألمعية كيف أن القيمة المادية للسلعة لا تكمن في كيانها المادي المباشر، أو في إستعمالها المادي، فالسلعة دائما تستمد قيمتها من رمزية ما، عندما يشتري الإنسان سيارة فهو لا يشتري أربع عجلات و هيكل، و لا يشتري شيئا يقله من البيت للعمل فقط، بل يشتري الرمزية الخيالية أساسا، و لهذه الرمزية تبدي مادي مباشر. يقول جاك لاكان "الحقيقة تأخذ دائما شكل رواية fiction". ما يميز الحقيقة أيضا هو أنها مطلقة، فبينما يتم تجزيء الواقع في التصورات القومية و معظم التصورات الدينية، حيث يتم تجزيء العالم لعوالم، و تجزي الثقافة لثقافات إلخ، فإنه من وجهة النظر المادية فإن الحقيقة هي المطلق.

لذلك فإن الطبقة السياسية التي تتبنى الحقيقة، تتبنى التحليل المادي للواقع، هي نفسها الطبقة التي تتبنى المطلق و تتبنى الخيالي السحري في نفس الوقت، حالما يخرج الفقير (أو أي عنصر مبعد في الإطار الإجتماعي)، تحت ضغط الواقع المادي، من نطاق الأيديولوجيا المسيطرة (التي تطرح نفسها كمجرد تلقائية واقعية) إلى نطاق الوعي، الذي يجعله كادرا ثوريا بالتعريف، فإن هذا الفرد سيتحول مباشرة لحالم باليوتوبيا  كشيء مطلق "يشمل الجميع" في مقابل "الواقع" الذي يشمل الجميع (المعاناة الإنسانية الإعتباطية هي حقيقة مطلقة، لا يمكن تزييفها بأي تبرير ديني أو قومي أو عرقي). في هذا السياق يمكننا أن نتذكر المشاهد السحرية للمتظاهرين في ميدان التحرير، حيث ظهر المطلق Universal: مشاهد إتحاد المسلمين و المسيحيين، النزعة الواعية للإخاء و المساواة، ظهر مقرونا بالمطالب المادية البسيطة. و يمكننا أن نقول، و نحن في معرض الحديث عن اليوتوبيا، بأن هذه المطالب "البسيطة" و المترتبات الثقافية و الفنية و الإجتماعية التي يمكن أن تبنى عليها، هي، بالقطع، أكثر جمالا من كل الخيالات القومية و الدينية، مثل الحلم بإقامة دولة الخلافة أو خلافه.

ربما إقترب الوقت الذي ستوضع فيه بروباغاندا الإسلام السياسي، و إتهامها الدائم لخصومها بأنهم يعطون تفسيرا جامدا باردا للواقع، محل تساؤل. فما يجعل الواقع بلا لون، هو محاولة إسباغ التفسيرات الأيديولوجية عليه لمنع الناس من تغييره جذريا، سيفكر متحمس دائم مثلي لفكرة الثورة، كيف كان يمكن للثورة الإيرانية أن تكون الثورة الرئيسية في الشرق الأوسط لو لم يتم وضع حدود التفسير الشيعي للعالم عليها، تلك الحدود التي لم تضيق المساحة المتخيلة للثورة (لتشمل المجتمعات الشيعية أو المجتمعات المسلمة فقط) بل ضيقت أفق الثورة حتى على الشعب الأيراني، حيث تم الحد من قدرة الثورة على تحرير المرأة على سبيل المثال. بالتأكيد، فإن هذا التحليل لا ينتمي للقول السائد بأن الثورة كانت لتكون أكثر جذرية لو قامت بها القوى العلمانية التي تعارض النظام حاليا، حيث لا يمكن بالمجمل، مقارنة قوى شعبية حقيقية، كالقوى التي كان يمثلها الخميني، بمالمجموعات المعزولة فكريا قبل أن نقول عمليا عن الناس.

في مقابل الأيديولوجيا الدينية التي تحاول أن تضفي لونا رماديا على العالم، بوصفه مقسما لشرق و غرب، لمسلمين "عرب" و كفار "غربيين"، و التي تحاول بالتالي أن تفرض تصورها الخاص للمعرفة، و الذي لا يمكن فصله عن نزعتها لتكوين نمط معين للسلطة يضمن بقاء الواقع الراهن أو تغيره شكليا (في العادة يتميز هذا النمط من الإسلاميين بخوف فطري من التغيير الجذري، و بنزعة متوقعة للحفاظ على ما يوصف بأنه "قيم" يفترض أنها وجدت لتخلد، بغض النظر عن عدالتها أو مواءمتها لروح العصر). في مقابل هذه الأيديولوجيا التي تستعمل كل التجاوز الممكن للحقائق لتحافظ على الواقع، على القواعد الأساسية للعبة، يمكننا أن نضع رموزا كعلي عزت بيجوفتش. شخص مثلي فهم الدين الإسلامي من مفكر "أوروبي" لا يجيد العربية، يمكنه أن يحتفي بالطابع المطلق للدين كجزء من أشياء أخرى يتشاركها البشر، سلسلة نسب علي عزت الفكرية هي سلسلة نسب غربية بإمتياز، حيث يضع علي عزت الإسلام داخل خط فكري ينظر للحرية إبتدأ من كانت و إستمر حتى و إن كان بعيدا عن الفلسفات التي توصف بأنها إسلامية، و رؤيته الأساسية هي أن الدين الإسلامي يدخل المادة في صلب المعادلة، فالمادة موطن الحقيقة، و لا يمكن لأي فلسفة دينية أن تتجاوز الحقائق أو أن تسعى لذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق