إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 18 أبريل 2016

عن الفراق و الحب و الحرية

لا يمكن عدم ملاحظة العلاقة بين فكرة شوبنهاور "كل فراق تذكر للموت" و بين إحتفائه بالموسيقى على أنها أعلى درجات الفن. بالنسبة لشوبنهاور فإن حقيقة أن الموسيقى لا تستند على أي جذر فكري، على أنها تستند على العدم مباشرة، تخرج منه و تعود إليه، هي بالتحديد ما يجعل للموسيقى كل هذا الأثر على الإنسان.
بالمثل فإن الفراق، و هو مجرد حدث عارض، فإنه يذكر الإنسان بالأرضية التي يقف عليها، الموت. يمكن ملاحظة الأثر الغريب للفراق على الإنسان في إحساس الإنسان بالنوستالجيا تجاه الجوامد و ليس البشر فقط، أتذكر جيدا أنه هالني، و أنا أقرأ رواية لعبة الكريات الزجاجية، فكرة أن يوسف كينشت قد إشتاق للمباني و الأشجار أكثر من إفتقاده للبشر في كاستاليا. فالماضي و هو يطارد الإنسان لا يطارده كشيء موجود، و إنما تحديدا فإن حقيقة ذهاب الماضي للعدم هي ما تطارد الإنسان، يمكنك ألا تقابل شخصا لمدة طويلة بلا كبير إكتراث، لكن اللحظة التي يغيب فيها هذا الشخص في لحظة "فراق" ما فإنك ستتذكر الموت كما يقول شوبنهاور. في نهاية الرواية "لعبة الكريات الزجاجية" يوجد ملحق بأبيات شعر يفترض أن يوسف كينشت قد كتبها، أجمل القصائد تتحدث عن فكرة الحرية على أنها بالأساس إستعداد لتقبل تبعات هذا "الفراق"، و عدم التقيد بأي وطن، بالمعنى الأكثر شمولا للتعبير بالتأكيد.

في نفس الإتجاه، فإن الحب هو تعبير عن نقص، عن أن المساحة بين من تجمعهم علاقة حب هي مساحة غير مؤسسة على أي شيء. إذا كان بالإمكان إعادة توطين الإيمان كمفهوم يشير لفكرة الشك أكثر منه للتأكد الإعتباطي المتصلب، فإننا يمكن أن نفهم إريك فروم و هو يقول بأن القدرة على الحب هي القدرة على الإيمان. يحتفي فروم عموما بتعريف نيتشة للإنسان على هو أنه المخلوق القادر على الوعد. عندما تحب شخصا فإنك تتجاوز حقيقة أنك لا تعلم ما يدور في راسه و لا تستطيع أن تتنبأ بأفعاله لتبني شيئا فوق هذا العدم، لذلك فإن الحب أساسا فعل فردي ذاتي غير موضوعي، لا توجد أدله و لا تأكيدات في الحب، و بالتالي فهو لا ينتمي للمساحة المادية التقليدية حيث تعمل قوانين المنفعة، و لكنه ينتمي للمساحة المادية متى ما فهمنا أن المادية تعني تقبل وجود شيء "آخر جذري" خارج العقل المثالي. فلا يعتمد الحب على الفكرة السطحية بالطمأنينة للآخر و الإحساس بالأمان منه، بل بالعكس، فإن أكثر ما يقبله الإنسان في الحب هو الآخر كشيء خارج مجال السيطرة و التوقع، لذلك فهو مصدر متوقع للألم مثلما هو مصدر متوقع للسعادة، و مثل الموسيقى فإن الغياب الكامل للتأسيس، و خروج الحب من نقص جذري في الإنسان، هو ما يجعله فعلا حرا.

تقول الرؤية الدينية التقليدية بأن الإنسان و حال فقده للتوجيه الكامل للنصوص الدينية فإن سيتحول لمخلوق مخطيء بدون أي شعور بالمسؤولية، كأن يبدأ في شرب الخمر و التمرغ في حياة التفاهة بشكل عام. و على هذه الفكرة فإن الدين كقيد و كأيديولوجيا تغطي للإنسان كافة مناحي حياته قد تم الترويج له. أعتقد أن مفهوما جديدا للمسؤولية المبنية على الحرية، و على الأخلاق المبنية على هذه المسؤولية يمكن أن يتحدى مثل هذه التصورات. إذا أخذنا على سبيل المثال الفرد الداعشي، أو الإسلامي الأصولي عموما، فإننا يمكن أن نلاحظ بسهولة أن الغياب الكامل للأخلاق عند هذا الشخص هو النتيجة الحتمية لتخلصه من مسؤوليتة الفردية عن أفعاله و إلصاقها بالنص الديني، يمكننا أن نجادل بأن الإنسان لا يستطيع أن يقتل و يرتكب الفظائع بدون غطاء آيديولوجي ما يخلصه من لإحساس بالمسؤولية تجاه أفعاله، و أن الدين الأصولي، بإعطاءه سلطة مطلقه للنصوص قد وفر و بكفاءه هذا الغطاء، هذه الظاهرة اللادينية في إعطاء الأسبقية للنصوص على الأخلاق سماها سورين كيركغارد قديما: تجميد الأخلاق بواسطة التدين Religious suspension of the Ethical. تقول النظرية الدينية عموما أن الدين يستمد شرعيته كفكره من حقيقة وجود قانون أخلاقي ما، حيث يقوم الإنسان بوزن أفعاله على هذا القانون، ما يحدث في حالة الإسلام الأصولي هو أنه يتم رفع النص فوق هذه الفكرة، بحيث يتم تعطيل القانون الأخلاقي ذات نفسه.

في نطاق آخر تماما، فإننا يمكن أن نبدأ بالتعويل على الحرية، و هي تقبل الإنسان لوحدته في العالم، و غياب أي سند متجاوز له، حيث تصبح أفعاله هي أفعاله هو، و مبرراته هي مبرراته هو، يمكننا أن نعول على هذه الحرية الجذرية في محاولة إستعادة أي إحساس حقيقي بالأخلاق. مثل هذا التصور للحرية لا يمكن في ظل الأيديولوجيات التي تقوم على فكرة إلغاء هذه الحرية الفردية القاسية، على سبيل المثال، خلال فترة الحكم الشيوعي في الإتحاد السوفيتي كان هذا الغطاء الأيديولوجي يتمثل في مصطلح "الضرورة التاريخية" حيث تصبح تصرفات الكادر الشيوعي و جرائمه نتيجة لحتمية هذه الضرورة لا فعلا حرا يتحمل مسؤوليته. حتى في الحياة اليومية فإن عملية تجميد الآخلاق بمثل هذه الطرق يمكن ملاحظتها في تماهي الناس مع الطقوس الإجتماعية العادية حيث يتخلص الإنسان من مسؤوليته بإعتباره مجرد منفذ لما هو "عادي" أو تقليدي. هذه الحرية، و هي الوحدة حتى عن من نحب، الإعتراف و تقبل كونهم "آخر" أكثر بعدا عن نطاق إدراكنا و عن كل تصور ممكن لهذا البعد، هذا الأساس السلبي هو مصدر الأخلاق و الحب، و سيكون من الخطأ ربط هذه الفردانية الجذرية بالنزعات النيوليبرالية الحديثة في تحويل المجتمع لخليط من الأفراد المتباعدين، إن هذه الفردية هي مصدر المطلق، و عبرها ينشأ شيء أبعد ما يكون عن المجتمع الذي يقدم لنا هذه الأيام على أنه الخيار الوحيد المتاح. في مثل هذا التصور يمكننا أن نفهم العلاقة العضوية بين المثقف، أو بصورة أكثر تأسيسا بين الفن و الفكر، و بين الطبقات الإجتماعية القاعدية: كل فعل جماعي تحرري، كل فعل مبني على الدعوة للإخاء و المساواة، يرجع بجذوره لعملية التحرر الفردي في الفكر و الفن، و ليس له أي جذر آخر ممكن.

هناك تعليق واحد: