إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 18 أبريل 2016

السجن - قصة قصيرة

قبل خمسة عشر عاما توفيت أختي الصغيرة نور في حادث سير، و أدى ذلك لأن يدخل أبي السجن و يموت فيه قبل عامين، إنني أجلس هنا في هذا المكان من الحافلة كلما كان ذلك متاحا لأنني على ما يبدو قد ألفت التكرار، اليوم ذكرتني إحداهن بأبي، كانت تقف مع شاب في طرف الشارع في إنتظار حافلتنا، و يبدو أنها كانت تحبه، فعندما توقف الإثنان عن التحدث مبتسمين و تحرك هو قبلها نحو الحافلة لم تتوقف عن النظر إليه و على وجهها إبتسامة طفل غاية في الرقة، قبل أن أنزل من الحافلة إلتفت نحوهما عدة مرات، فهما مثل كل العشاق كانا جميلين.



عندما دخل أبي السجن كنت في العاشرة من العمر، أمي كانت تقول دائما أن أبي إنسان طيب و أن علي أن أحبه رغم كل شيء، و بعكس ما يحدث في الأفلام فإنني لم أتلق أي مضايقات في المدرسة، بل كان الجميع يتعاطفون معي كطفل شبه يتيم، لكنني أتذكر أنني و لعدة سنوات بعدها كنت أفتقد البحر الذي تعود هو أن يذهب لرؤيته برفقتي.

من هو أبي؟ إن لهذا السؤال عدة إجابات، بعضها يتعارض مع البعض الآخر، و بعضها يتفق جزئيا، بالنسبة لأهل الحي، فقد كان أبي رجلا منعزلا كئيبا، و لكنهم يقولون أن من إحتاجوا إليه تفاجؤوا بأنه رجل خدوم، و قد قالت لي آمنة جارتنا بأنها وجدته أمامها ذات مرة فقررت إستغلال الرجل الصامت لتفريغ شكواها المكبوتة بخصوص إبنها المراهق فتفاجأت به بعد إنتهاء حديثها يقدم لها نصائح وصفتها بأنها كانت رائعة رغم أنها لا تذكرها الآن، و الغريب أن أهل الحي قد تقبلوا جريمته بصدر رحب، حتى أن الكثير منهم زاره في السجن في بداية فترته.
بالنسبة لحراس السجن فكان أبي يمثل السجين المثالي، و بحكم سنه و غرابته الواضحة فقد كانوا جميعا يحبون الحديث معه رغم أنه كان كثيرا ما ينهي الحديث بسرعة و بطريقة قد يراها البعض غير مهذبة، عموما فقد تمتع أبي و بصورة غريبة بالكثير من الإمتيازات في السجن نتيجة لعلاقته الجيدة مع الحرس، و أهم هذه الإمتيازات كان زجاجات الخمر التي كانوا يوفرونها له بمعدل مرتين في الأسبوع، و هو معدل كاف تماما بالنسبة لرجل تعلم هذه العادة السيئة منذ دخوله السجن فقط.

بالنسبة لحسام، الشاب المتهور الذي قتل أختي بعد دهسها بسيارته التي كان يقودها مخمورا، فإن أبي -على الأرجح- مجرد رجل فقد عقله نتيجة الصدمة و الحزن على إبنته، هل نقتل عندما نفقد عقولنا؟ .. حسنا لنفترض أن حسام هذا شاب ذكي، حينها سيقول بأن أبي فقد قلبه نتيجة الحزن و الصدمة، على العموم فإن أم حسام كانت تردد دائما كلما رأت أبي كلمة "مجنون .. مجنون .. مجنون" و كانت تبدو غير قادرة على التفوه بغيرها، أما أبوه و بقية أفراد الأسرة فقد كان يبدو عليهم الغضب أثناء سعيهم الحثيث لأن ينال أبي أقصى عقوبة ممكنة، و أذكر أنهم كانوا يهنون بعضهم بعد صدور الحكم بالسجن المؤبد.
بالنسة لأمي، فأبي كان حب حياتها و مصدر السعادة و الشقاء، كانت دائما تقول بأنها عرفت العالم بشكل جديد معه، و لكنها أيضا كانت تشتكي من كونها لم تفهم يوم ماذا يريد؟ ، لقد إلتقيا داخل باص، وقتها كان كلاهما قادما للعاصمة حيث يدرسان الجامعة، و تتذكر أنه بعد أن جلس بجوارها أخذ نفسا عميقا و حدق في الكرسي الذي أمامه لوهلة، ثم إلتفت إليها و قال بسرعة شديدة: "عذرا على الإزعاج، و لكنني لن أتمكن من التمتع بمنظر هدوء الريف و عيناك تقفان في طريقي"، أمي كانت تضحك دائما بعد أن تروي هذه الحادثة و تقول أنها إستمرت عشرات السنين يعذبها الخجل من كونها لم تفهم حينها من تلك العبارة شيئا، بعد الزواج واجهت أمي مشاكل تتعلق بالحمل لذلك تأخر قدومي 10 سنوات، و في ذلك تقول أمي بأن اللحظة التي قدمت فيها للحياة كانت إحدى اللحظات التي رأت فيها أبي مختلفا.

أما بالنسبة لي، فإنني أعتقد أنني أكثر من فهم أبي، و لكنني لم أستطع أبدا أن أفهم كيف كان السجن بالنسبة له مكانا جيدا، لقد كانت زياراتي له في آخر سنواته تمثل تلك اللحظات التي كنت أجلس فيها مع أبي كاملا و سعيدا، و رغم الفارق بيننا في العمر و المعرفة فقد كان يتحدث معي بكل جدية، و أحيانا عندما كنت أقول له بأنني لم أفهمه كان يقول لي بأنه يثق بأنني سأفهمه يوما ما، كنت عندما أجلس معه في تلك الطاولة و حولنا رجال الشرطة أشعر بأنني في مكان جيد و أقضي وقتا ممتعا، و هو كان يبدو أنه قد توسعت روحه و شاخت، و لا أستطيع أن أشرح ذلك إلا أنني كنت أجده مرتاحا دائما و مستعدا للرحيل، كل ذلك جعلني أتلقى نبأ إنتحاره بصدر رحب، و إختلط علي الحزن بالفرح و أنا أقرأ رسالته.

( إن النظرة التي إرتسمت في عيني ذالك الشاب قبل أن يموت لم تفارق ذاكرتي أبدا، إن الإنسان حتى عندما يكون منغمسا في التفاهة فإنه يستمر في التطلع نحو الحياة بحب كبير، خاصة أمام الموت، إنني أرى في ذلك التطلع أمرا بديعا، و يكفي أن تشاهد طفلا يتعلم المشي، حتى تعلم أن ذلك الطفل لن يرغب حتما في الموت، أليس هذا الأمر جميلا؟ إنني أراه كذلك. هل إستحق ذلك الشاب أن أقتله مقابل قتله لإبنتي؟ لا لم يستحق ذلك، و لا يستحق إنسان أن يقتل مهما فعل، كيف يعقل أن يقتل إنسان عقوبة لأنه قتل؟! رغم ذلك فإنني سامحت نفسي، و لن أرهق نفسي بشرح ذلك، فالخاطؤون يفهمون بعضهم البعض بلا كلمات، و الصالحون لا يجدي معهم شرح تلك الموهبة التي تسمى المغفرة.

ماذا يوجد في الخارج؟ يوجد كل شيء، إلا نحن، ما هو السجن إذن؟ هو أن تبقى داخل حجرة صغيرة أغلب اليوم رغما عن إرادتك، و أن ترضى بتبادل الحديث مع أناس لا يروقون لك، و أن ترتدي ملابس بشعة، و تأكل طعاما مكررا، و تستيقظ وقت يريد أناس آخرون لك ذلك، إن السجن هو المكان الذي تفقد فيه حياتك، و تبدأ فيه بالعيش في حياة السجين، ماذا يوجد هنا؟ لا شيء، مجرمون و حراس، و أيام تكرر نفسها، لا عمل مفيد، و لا أمل، لا شيء، هنا وجدت أنا، ما هو السجن؟ إن السجن هو أكثر مكان يمكنك أن تجد فيه اللاشيء، هو أكثر مكان يمكن فيه أن تكون.

عندما كنت شابا كنت أحلم بلحظة أكون فيها أمام المحيط، أنا و المحيط و لا شيء سوانا، و بدى لي ذلك ممكنا، و لكنني بعد ذلك بدأت في العيش في الدنيا، هناك في الخارج حيث يوجد كل شيء، أحببت الفتيات، و ملأت قلبي بالأمل، تزوجت و أنجبت، و بدأت أجنيغ المال، و أبحث عن سعادة أفراد أسرتي، و أبحث عن مكان لي بين الجميع، الذكريات و الحنين و الحزن و السعادة، بعد عشرات السنين هناك في الدنيا تحس أنك بين كل شيء، و بالفعل.

ماذا يمكنني أن أفعل؟ فقط أن أواصل المسير، بعد عشر سنوات معها لم أعد أستطيع أن أقول لها أحبك، كيف أحب و أنا لم أعد حرا؟ لم أعد شابا سخيفا، و لم تعد هي الأميرة التي في الغالب سترفضني، ماذا يمكنني أن أفعل في كل دقيقة؟ شيء واحد، لم يعد المحيط ممكنا، بل كل ما أجد نفسي أمامه هو شيء واحد في كل لحظة، كل شيء موجود، و لكنني لم أعد موجودا، لقد إشتقت لها، أذكر أنني و قبل أن أخبرها أول مرة، شعرت بشوق غريب لرؤيتها، ألقيت عليها نظرة طويلة و أشجار بلا ورق كانت تظهر خلفها عبر النافذة، شعرت وقتها بأنني ربما سأتوقف عن عيش هذا الحلم التافه بعد قليل فتلك المصادفة كانت ستنتهي عندما نصل، إن تجارب الموت أثناء الحياة كثيرة، اليوم عاودني نفس الإحساس، و لكنه اليوم بلا شعور الشك الممتع. في الخارج توجد هي و لكن أين يوجد الحب؟
لا أستطيع حتى أن أتمنى لك أن تجد ذلك المحيط و لا أن تجد نفسك، من أنت؟ أنت إبني و إبن أمك، أنت عملك، و أنت أمانيك، إن أردت يا بني، أن تكون أنت أنت، فليس أمامك إلا أن تقتل أحدهم، ثم يقودك هذا المسكين إلى هنا، حيث تستيقظ عندما يريد لك الآخرون ذلك، و تأكل عندما يريد لك الآخرون، و تبقى في حجرتك أغلب اليوم بلا أي هم، و لا أي واجب، أشعر برغبة في الضحك، لأنهم -بالطبع ليسوا مثلي!- و سيشعرون بالفخر من أنهم قوم يحبون تحمل مسؤولياتهم!، دعنا منهم، هنا تستطيع أن تفكر طول اليوم في شيء واحد، و تستطيع أن تتوقف عن التفكير فيه متى شئت، هنا سيتكفل عدد كبير من البشر بضمان أن تبقى كل أحلامك أحلاما، و لكنك ستحظى ببهجة و حرية الحلم، لقد وجدت فرصتي لقتل أحدهم، وفعلت، و غفرت لنفسي، و لأني أعلم أنك لا تحتاج لذلك فلن أستهلك هذه الدقائق الأخيرة الرائعة التي تبقت لي من هذه الليلة الباردة في توضيح خطأ ما سيعتقدونه عني من دناءة.

عندما سيدخلون للغرفة سيجدون بقايا سجائر، و سيجدون أنني وضعت زجاجات الخمر حولي بصورة هندسية، سوف أقوم بكتابة إسمي على الأرض بدمي، و سوف أجعل موتي موتا شعائريا، إنني سعيد بموتي الذي لم أخفه، و ذلك بفضل السجن، تماما مثلما بفضل السجن تمكنت من الحياة، إن هذه الدقائق الباقية لي هي بمثابة دقائق من السعادة الخالصة، إن الموت هو المحيط الذي طالما حلمت به، و أمام الموت لا يمكنني إلا أن أوجد وحدي، أشعر بأنني تمكنت من تحقيق حلمي بأن أموت، و إنني أتمنى أن يحقق إبني ذلك بدون الحاجة إلى السجن)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق