إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 18 أبريل 2016

سينما تحررية

اكثر ما يميز سلافوي جيجاك هو تورطه الحقيقي في الثقافة كمنهج حياة، يظهر ذلك ربما و بصورة لطيفة في كونه يجسد باساليبة المثيرة للسخرية نظرية جاك لاكان التي يحبذ سلافوي نفسه ان يتطرق اليها دائما: لا يملك الانسان المتحرر من تقيدات الانا العليا، او في مصطلح لاكان "The big Other"، لا يملك عصا ليتكئ عليها في اثناء مسيرة الحياة، و اذ يتجلى ذلك حتما كنوع من التراجيديا، فان الاهم هو مسحة السخرية الاصيلة للغاية التي تصبح ملازمة لذلك الانسان، مهما كان ما يقوم به مهما.
يمكن القول ان هذه الظاهرة تحديدا هي التي جعلت توم هانكس مناسبا جدا لدور البطولة في فلم Saving Private Rayan، فبالنسبة لي على الاقل، فانه مهما كان الدور الذي يؤديه هانكس فان الجزء منه الذي يدخل على الشخصية يجعل لها طابعا خفيفا يوحي بلااهمية لا يمكن تجاوزها، يمكن ان نستطرد هنا لنقول ان هذا النوع من المتلازمات الثابتة التي يتميز بها امثال توم هانكس و جاك نيكلسون و براد بيت، هو ما يجعلهم اكثر حتى من ممثلين عظماء.

لكن في حالة رائعة الحرب المذكورة، فان غياب ال Big Other في حالة دور هانكس لا تظهر جلية الا في ظل الدور الاروع في الفلم للضابط المتدين، هنا تكمن المقارنة الرائعة و والودية بين اسمى درجات التحرر الديني، و بين التحرر، الضابط هو قناص بارع، يخوض الحرب بثبات و رباطة جأش منقطعة النظير، و تحفل المشاهد التي تصوره و هو يردد ادعية انجيلية قبل ان يطلق تصويباته الناجحة بشيء سامي لا تستطيع الا ان تشعر أمامه بالعظمة الفريدة لفكرة التضحية، الشهادة. سيكون من الممكن فهم اهمية الرمز في دور توم هانكس فقط في حال تمكنا من فهم الطاقة التحررية الواسعة جدا التي اظهرها الضابط، و يكون السؤال هنا: ما الذي يجعل دور توم هانكس مؤهلا اكثر لدور البطولة في فلم يمثل ملحمة حرب من اعلى طراز؟

بالنسبة لي فإن أفضل مخرجي الجيل الجديد هو بول توماس أندرسون، Magnolia مثلا يمثل قمة متفردة في سينما الألفية الجديدة  رفقة Requiem for a dream، فلم الكوميديا الحديثة السوداء الآخر. اما بول نفسه فيعتقد أنه لن يستطيع تجاوز Boggy nights إطلاقا، لكن وفاة فيل سيمور هوفمان مؤخرا ألقت الضوء على فلم أخر أعتقد أنا أنه أفضل أفلام بول توماس حتى الآن، و فيل بالمناسبة فنان بافضل ما لهذه الكلمة من معنى، رجل يخلق الشخصية الخيالية داخل نفسه بكل سهولة، ما حدث هو أنه و في غمرة الإحتفاء بالرجل و تأبينه تم إعطاءه لقب The Master و هو عنوان الفلم، ربما لأنه في هذا الفلم تحديدا صعد فيل لقمة أداءه و هو يجسد شخصية مؤسس لمجموعة هامشية، لكنها أصيلة و تبدو خطيرة، دكتور لانكلاستر ، صاحب النظريات المتطرفة في علم النفس قام بتأسيس مجموعة تحاول أن تعالج المشاكل التي تبدو أنها بغير علاج مثل الإكتئاب أو اللوكيميا، عن طريق البحث في الماضي السحيق للإنسان، بدون الإهتمام كثيرا بحدود العلم النظري، معادل حديث للدين يحاول دكتور لانكلاستر تأسيسه بدون الإلتفات كثيرا للتناقضات و الإستحالة الواضحة، لكن المفاجأة هي أن الدكتور ممسك تماما بزمام الفوضى، يتحرك داخلها بكفاءة سحرية، و هنا تكمن عظمة فيل سيمور هوفمان، من غيره كان يمكن أن يمتص شخصية بكل هذا التعقيد ليظهره "كشخص عادي"؟ في مثل هذه الحالات يقوم الممثلون متوسطوا الإمكانات بالمبالغة في الغرائبية ليخفوا عجزهم عن السيطرة على الفوضى، يمكننا أن نشير لدور جايك غلينهال في الفلم الذي صدر مؤخرا Night crawler، كمثال لهذا النوع من التمثيل غير الجيد، على العكس من ذلك، فيل سيمور هوفمان كان بإمكانه ك Master حقيقي أن يجسد الشخصية بدون الهروب من تعقيداتها لا للوراء و لا للأمام.

قمة الفيلم تتمثل في مشهد "المواجهة" كما أطلق عليه لاحقا، خلال جلسة تحليل نفسي كان خلالها دكتور لانكلاستر يستجوب كمحلل نفسي أحدى النساء المنضمين لجماعته، و يسألها حول ماضيها قبل أن تولد بكثير، قاطعه أحدهم و يبدو أنه كان طبيبا حقيقيا، بعد محاولات جاهدة لدكتور لانكلاستر لتجاهل صوت الطبيب الاخر المزعج و هو يردد كلمة "عن إذنك"، يلتفت إليه أخيرا، يبدأ بينهما سجال حاد، يسخر الطبيب من أساليب دكتور لانكلاستر مستندا على أساسيات العلم و المنطق، ما يحدث هو أن دكتور لانكلاستر يدخل في نوبة غضب عارمة، و ببراعة يستخدم عبارات عامة غامضة فضفاضة من شاكلة "إذا كنت لا ترى الفيل خلف الزاوية هل يعني ذلك أن الفيل ليس موجودا؟" و لكنه مع ذلك يظهر و كانه يتقدم في الحوار بصورة حاسمة، و في وسط إنسيابية المحاضرة القصيرة التي ألقاها دكتور لانكلاستر  يظهر وجه زوجته "إيمي أدامز" الغاضب، هذا كان إبداع بول توماس أندرسون الأول، في نقل الفكرة المعقدة للإيمان By Proxy من النظرية مباشرة إلى الشاشة، ما يحدث هو أن دكتور فريدي ينهي خطبته بكلمات نابية، و يبدو أن الطبيب الحقيقي قد سحق تماما و ان المعركة قد حسمت في مستوى اعلى حتى من مستوى النقاش، المشهد القمة في الفلم قد تم إنجازه بنجاح؛ هنا يتدخل بول توماس أندرسون للمرة الثانية: أحدهم و هو فريدي كويل شبه المعتوه و المهووس جنسيا الذي إنضم حديثا لمجموعة دكتور لانكاستر يقوم برمي تفاحة على الطبيب الدخيل. فريدي الذي يتمحور الفيلم حول لا قابليته للخضوع لأي نوع من القيادة يتجاوز المعلم و يظهر بصورة مضحكة مرة أخرى، هذا النزول للقاع تحديدا هو لعبة بول توماس المفضلة، يظهر دائما الفرق بين خيال الانا العليا و بين الواقع.

الفيلم له علاقة بنقطة محورية اخرى في فكر سلافوي جيجاك، و هي فكرة وجود ال Master نفسها، يعتقد سلافوي أنه و في خلال تطور الحركات السياسية فإن احدى اهم المراحل هي مرحلة تكون القيادة التي تتجاوز الكفاءة و الإنضباط و التنظيم لترتقي لمرتبة أعلى، الشخص الذي لا يمثل الناس فقط و ينفذ ما يريدون حرفيا، بل يمثل في شخصه ما يريده الناس، عن طريقه هو The Master، يعرف الناس ماذا يريدون أساسا؟. يطور سلافوي هذه الفكرة في مقابل الفكرة الشائعة مؤخرا لوجود إمكانية لأن يقوم جهاز الدولة تلقائيا بتحويل واقع الناس ثوريا، بدون قيادات تتحول لاحقا لرموز ديكتاتورية مثل جمال عبد الناصر أو لينين مثلا، ما يحاول سلافوي هنا أن يقوم به هو أن يهرب كعادته للأمام، حتى نتجاوز لينين أو غاندي و نيلسون مانديلا (و حسن الترابي كذلك) يجب أن نحفظ من أرثهم "ما يستحق الحفظ" و نتبنى حرفيا هذا الإرث، و لن يكون من الممكن أن ينجز التحرر بقيادات يتم تدريبها ميكانيكيا حول "أساليب القيادة"، كما تحاول الأكديميا الغربية أن تفعل، لأننا هنا نتحدث عن شخصيات تولد داخل عملية تغيير ثوري فتكتسب أشياء تبدو غير قابلة للتعلم، ذلك الشيء الإضافي في شخصية غاندي مثلا بعد إنتهاء كل تحليل منطقي لشخصيته، يشير جيجاك في مكان ما الى ان أحد تلك الأشياء التي تميز هذه الرموز هو أنهم "! Idiots like us" هذه الخاصية تميزهم عن "الخبراء" و متخصصي علوم المنطق اللذين "يرتقون" لمستويات "لاانسانية" احيانا، الأمر الآخر، هو إستعدادهم للموت، مرت قبل أيام ذكرى وفاة محمود محمد طه، و هو -رفقة عبد الخالق محجوب- يمثل طاقة التحرر التي نقف فوقها، ذلك الحب للحياة الذي يجعل الإنسان يرفض أن يعيشها بدون أن يعيشها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق