إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

قراءة نقدية لورقة المبادئ فوق الدستورية

قراءة نقدية  لورقة المبادئ فوق الدستورية 

بقلم: محمود المعتصم

يوليو ٢٠٢٠

 

(1)   الحزب و المثقف 

ما تزال ورقة عبد الله علي إبراهيم "المثقف و الحزب"، والتي أرسلها إلى المؤتمر السادس لحزبه الشيوعي السابق، ما تزال، في رأيي إجدى أفضل قطع الأدب السياسي السوداني، وهو أدب ثر. شرح عبد الله إبراهيم في الورقة وضعه المستضعف، كمثقف متفرغ، في حزب شيوعي منهك. إذ لا إستقلالية له ولا إحترام. وقد أدى المناخ الطارد إلى هجرة المثقف، في حالة إبراهيم، لخارج الحزب. تكمن أهمية الورقة في أنها قابلة للتعميم، ومن ثم يمكن للأحزاب كافة أن تتبنى حلولا لهذه المشكلة عبرها. إذ الأحزاب السياسية هي طلائع الإنتلجنسيا بشقيها الحركي والثقافي، لا تستقيم الواحدة بغير الأخرى. (أنا أقترح علاقة أكثر إشكالية وتعقيدا بين المثقف وحزبه، لا يتسع المجال لها هنا).

حالة الإفقار الثقافي في الأحزاب جعلت السياسة تتحول لتكتيك لا نهائي. نسميه سياسة رزق اليوم باليوم، بلا وجود للأسس النظرية الصلبة التي تشكل الإستراتيجية صعبة التغيير. هذه الحالة من التكتيك الرزق اليوم باليوم تفقد الحزب القدرة على الظهور كمؤسسة ذات رسوخ مبدئي. وهنا يتم الإستعاضة عن المبدئية الإستراتيجية بمبدئية هتافية و "لا تساوم و إن منحوك الذهب..." وما تعرف ايه. 

ظهرت حالة الإفقار الثقافي وغياب الإستراتيجية والتأسيس النظري في حزب المؤتمر السوداني ودعواه إلى العلمانية. جاءت الدعوى مشوشة ومتناقضة وغير واضحة. قادها الحركيون من البداية إلى النهاية. والحركي يسير في ليل الثورة وحيدا، ضائعا منفردا، وستأتيه تباشير الخريف، في تعبير الراحل أبوذكرى. 

في البداية خرجت الدعوى للعلمانية من خالد سلك، "العلمانية" ذكرها بالإسم. ثم قام الحزب بتقديم رؤيته السياسية لحسم القضايا المصيرية فذكر العلمانية معرفة بمضمونها (كما يرى الحزب) وهو "الفصل بين الدولة والمؤسسات الدينية". ثم قال نائب رئيس الحزب مستور أحمد محمد "وعليه يجب أن يتم إتخاذ قرار تاريخي بالنص على فصل الدين عن الدولة، إذا كان المقابل تقرير المصير" (بوست منشور في صفحة الحزب على فيسبوك بتاريخ 22 فبراير). 

وهنا تظهر ثلاث إشكالات. الأولى هي عن السؤال حول "الإسم"، النقاش بين موقف خالد سلك (يسمى في تعبيرات السياسة الطفولية بالمصادم)، وموقف الحزب المتواري. لماذا يمثل الإسم مشكلة؟ وما هو الحل؟ (يقترح كاتب المقال أن الموقف الإستراتيجي يجب أن يكون تسمية العلمانية بإسمها أيا كانت التبعات الآنية. لا يتسع المكان لشرح المسألة لكن ربما أقرب تحليل لهذه المشكلة هو تحليل ورطة الحزب الشيوعي في إسمه، وأحداث ما سمي لاحقا ب "نصيحة الرفاق السوفييت"، يمكن مراجهة مقالات عبد الله علي إبراهيم "عبد الخالق محجوب: ويولد الإنقلابي من الثوري"). 
الإشكالية الثانية هي إشكالية تعريف العلمانية. فالتعريف الذي جاء به الحزب متواريا يبدوا ركيكا لأبعد حد. تظهر خلفه ذات غير واعية بما تقول. وربما لا يتجاوز هذا التعريف ركاكة إلا تعريف آخر للعلمانية وجدته في موقع حزب المؤتمر السوداني نفسه على الإنترنت: 


"  العلمانية: بمعنى اعتماد نسبية المعايير على مستوى المعرفة والممارسة الاجتماعية، والقطيعة (بالمعنى العلمي/التاريخي/النسبي) مع البنى الفكرية الأسطورية والدينية الإطلاقية (أي جعلها مقيسة وليست مقياساً). ومن ثم رفض كل المشاريع التي تستند إلي أبعاد غيبية تكرس القهر والاضطهاد ونفي الآخر." 

وهنا يظهر واضحا سبب ركاكة التعريف المتواري. وهو أن التعريف الذي كان يفترض به التأسيس النظري للإستراتيجية كان غرائبيا تفوح منه سماجة فلسفية سطحية وفاقد لأي قيمة. 

الإشكالية الثالثة هي إشكالية تقديم التكتيك الدائم على الإستراتيجية. فمستور و هو إبن مدرسة الحركيين الطلابية التي أفرزت غالبية الكادر الحركي اليوم، قام بتحديد شديد الغرابة: "إذا كان المقابل تقرير المصير". وماذا إن لم يكن المقابل تقرير المصير؟ وما مشكلة تقرير المصير تحديدا؟ وهل سيكون التعامل معها "تفاوضيا" بهذا الشكل، كلما رفع كرت تقرير المصير ككرت تفاوضي برجوازي صغير رجعنا نتقهقر و نقابل المساومة غير المبدئية بمساومة غير مبدئية أخرى؟ 

 

لا يمكن حل المشاكل السياسية بهذه الأحزاب. حركية الشكل والمضمون. إنني أأمل، لمصلحة بلدنا، أن تبدأ الأحزاب في تكوين أفرع ثقافية، وعلاقات ثقافة مع أكاديميين ومفكرين من خارج الحزب، يتبنى الحزب رؤاءهم ويدربه كادره عليها. ولا يشترط بالمثقف أن يكون عضوا في الحزب ولا مؤيدا لسياساته قاطبة. هذا الانفتاح على الأفكار وتبنيها حزبيا سيمنح الأحزاب فرصة خلق مثقفين أساسيين له بدون الحاجة لأن يكونوا أعضاءا في الحزب ولا أن يكونوا أحياء حتى. في بلد يكتب فيه عبد الله النعيم وعبد الله علي إبراهيم عن العلمانية والإستراتيجية الحداثية التقدمية لها، برصانة شديدة، لا يصح أن تنخفض ممارستنا لنوع من الهرج التكتيكي. 

 

(2) سلامات وشالو: الوجه الآخر 

 

في المقابل، قامت الحركة الشعبية عبر تقديمها كتيب المحاميين متوكل سلامات و إدريس شالو، بوصفه جزءا تأسيسيا من خطة الحركة الشعبية جناح الحلو، قامت بوضع التراتبية الصحيحة للعمل السياسي. فالتكتيك تابع لتأسيس نظري واضح. وينشر هذا التأسيس للعلن ليتم تمحيصه ونقاشه أولا، وليتم التدرب عليه والتربي عبره ثانيا. ربما صقلت الحرب أحزابنا المسلحة بأكثر مما توفر لرصيفاتها السلمية التي حولت نفسها لآلات "أنتي كوز" ضعيفة. 

 

لكن هنالك مسائل بالنسبة لرؤية الحركة الشعبية تجعلها إشكالية لحد بعيد. فليس كل تأسيس استراتيجي صحيح. وربما تكون الإستراتيجية الخاطئة أكثر خطورة من التكتيك الخاطيء. لذلك أعيب على أستاذتنا متوكل سلامات وإدريس شالو أن ورقتهم لم تخل من تسرع وعدم وضوح. سأحدد نقدي بالنقاط التالية: 

 

1.      ما هي العلمانية؟ 

في رأيي لم تقدم الورقة توضيحا كافيا للعلمانية. خاصة وأنها ورقة "قانونية" ذات طابع تأسيس نظري للدستور. فلا يمكن هنا أن نكتفي بعموميات عن "التجارة بالدين" و "الإبادة الجماعية" وغيرها من لوازم اليسار الثقافي هذه الأيام. 

لقد قمنا نحن السودانيون عبر تاريخ طويل صلب، بتعريف العلمانية. بلا استيراد ومن لب واقعنا القاسي. حيث بدأت مسألة العلمانية عندنا عندما طرح الدستور الإسلامي إبان الجمعية التأسيسية بعد الإستقلال. وكان النواب الجنوبيون رأس الرمح وقتها في الدفاع عن حق المواطنة المتساوية وحياد الدولة تجاه الثقافات والأديان، يشرحون "العلمانية السودانية" بوضوح من على كراسي البرلمان (أذكر هنا مناظرة الترابي مع نتالي ألور بعد ثورة أكتوبر). ولم تكن تلك العلمانية نتيجة تأثر بالفكر الفرنسي أو الأمريكي، فقط، بل كانت مصطلحا نمى بيننا لندافع به، وبتعريفنا الفريد له، ضد فكرة الدستور الإسلامي التي طرحتها القوى الطائفية والإسلامية. وفي حين تعرف هذه العلمانية نفسها بأنها حياد الدولة الكامل تجاه الأديان، والإلتزام بحقوق المواطنية المتساوية بلا تمييز ديني، والإلتزام بالتقرير "العلماني" الذي هو تقرير الشعب الديمقراطي وليس سلطة نصوص الدين السماوية. حيث لا يشمل هذا التعريف منع الأحزاب ذات الخلفية الدينية بل يرى فرصة وجودها المشترك تحت ظل الدستور العلماني. في مقابل هذا فإنه هنالك تعريفات أخرى وجدت في التاريخ. رأت بأن العلمانية تشمل منع تدخل أي مؤسسة دينية في السياسة. بل هنالك خطوات أبعد، إذ قامت بعض العلمانيات الغربية والعربية بشمل التعليم العلماني (يعرف في هذا الاطار بالتعليم الإلحادي) إذ يشمل تعريف العلمانية هنا تطهير أذهان الناس من الخرافة وغيرها. عبر المدرسة.

في ظل هذا التباين لا يوجد في ورقة سلامات وشالو ذكر صريح لوضع المؤسسات الدينية (بما فيها الأحزاب) في دولتهم العلمانية. وهذا كذب بالفط lying by omission في عرف الثقافة. لا يحترم عقل القاريء. وأكثر من ذلك: يكتب سلامات وشالو في متن النص نوعا من الخطاب السياسي الصارم ضد الإسلام السياسي يجعل الواحد منا يشك أنهم أقرب للعلمانية الفرنسية من العلمانية السودانية (وفيه تسويف شديد في ورقة تقترح مباديء فوق دستورية جامعة و ليس خطابا عاطفيا ضد مخالف): 

"وفي الوقت ذاته يتردَّد ويتخوَّف الجُناة والمُتحالفين معهم من العيش في حرية وعدالة ومُساواة وفق تدابير مُحدَّدة تمنع فرض هويَّة إسلاموعروبية وتُجرِّم الرق والإسترقاق وتمنع الإضطهاد الديني والعنصري وتسييس الدين وغيره"

وكذلك نقرأ في الورقة: 

"فبالرغم من تخوُّف الأستاذ/ نبيل من الإسلام السياسي وبعض الفلسفات العلمانية إلا أنه لم يشر في بحثه المذكور إلى مبدأ العلمانية أو الفصل بين الدين والدولة كضرورة يفرضها إستغلال الدين الإسلامي في الصراع السياسي لعقود من الزمان"

 

كيف يقترح سلامات وشالو منع تسييس الدين؟ ومنع استغلال الدين في السياسة؟ عبر الدستور؟ (يجب التفريق هنا بين المنع القانوني و الادانة الأخلاقية. فقد يكون من المشروع ادانة استعمال الدين في السياسة، الرأي الذي أخالف إطلاقه هكذا، ولكنني أحترمه، أما المنع القانوني فهو في رأيي غير مشروع وضد الحرية التنظيمية وحرية العقيدة) في بلد إختلط فيه الدين بالسياسة لفترة طويلة جدا، يصعب معها تخيل تفريق "ديمقراطي" بين الدين والسياسة، بمعنى أن يترك للناس الأمر من تلقاء أنفسهم، ويثير الشك في رغبة القيام بهذا التفريق بالقوة. (من هي الجهة التي ستتولى المنع؟ وكم هو مقدار العنف المطلوب لتنفيذ ذلك؟ وبأي شرعية؟)

من جانب لا تقوم الورقة بإقتراح طرح واضح من مسألة "المؤسسات الدينية" و من جانب آخر تتحدث عن تدابير قانونية تبدوا لي "قاسية" لمنع "تسييس الدين". إن كانت الشموليات العلمانية في شكلها الماركسي قد بدأت بنوع من التنظير شديد الوضوح والقسوة. فإن ورقة سلامات وشالو ربما توضح إحدى الفروق الجوهرية بين الماركسية والفاشية، الأولى حتى في فشلها فهي نظرية واضحة، الأخرى هي عملية التحريك العنيف للناس ضد الوضوح تحديدا. (نعم، أنا أصف الكتابة هنا بأنها 
proto-fascist، إذ يتسنى لها أكثر من عنصر فاشي: السلاح والشعبوية والتأطير العرقي و"الآخر" الذي يمثل الشر المطلق "الإسلاميون أو الاسلاموعروبيين في هذه الحالة". وقد يكون المحضر للعنف الفاشي شحصا جيدا، ويبدو أن سلامات وشالو من هذا النوع، لكن عموما فإن شكل الإنتهاكات التي تم اتهام حركة عبد الواحد محمد نور بها من قبل الأمم المتحدة، و أشياء مثل أحداث أبو كرشولا يجب أن تجعلنا لا نغفل إمكانية التحول الفاشي في مسألة النضال من أجل المهمشين، مهما حسنت النوايا". 

 

2.      مسألة المفوضية الدستورية: 

البداية هنا يجب أن تكون الحديث عن الديمقراطية. كشفت ثورة ديسمبر وهي ثورة "ديمقراطية" شكلا ومضمونا. ثورة الحشود الأغلبية ضد الأقلية. بلا قوة سوى قوة الكثافة الديمقراطية نفسها، بلا سلاح وبلا سند خارجي. ثورة تكاد تكون خالية من فكرة سوى الديمقراطية وبعض الحديث الجانبي عن العدالة. تكتيكها ديمقراطي (التظاهر الطويل جدا المنهك للدولة) وهدفها الإستراتيجي في رأيي هو التحول الديمقراطي فقط. كشفت هذه الثورة بؤس رأي النخبة في الديمقراطية. 

ويظهر هذا البؤس في عدد من الطبقات: 

أولا، الرؤية الرومانسية للديمقراطية. في رأي النخبة فإن الديمقراطية ليست عملية واقعية تستند على فرضية أن حكم الشعب أفضل من أي سلطة أقلية. وبالتالي هي ليست أفضل شيء (أفلاطون قديما وضح اشكالية فكرة حكم الشعب، وهو محق تماما) بل شيء سيء ولكنه أفضل الموجود لدينا، في تعبير وينستون شيرشل. 

ثانيا، من هذا التصور الرومانسي، تسعى النخبة لتبرئة الديمقراطية من كل عيب. تحاول النخبة أن تجعل العملية الديمقراطية والنتائج شيئا واحدا. هي لا تقبل الإنفتاح الضروري في المسألة الديمقراطية، أن تقريرالشعب هو، ومن واقع أنه حر، تقرير لا يمكن فرض نتيجة مسبقة عليه. فرض النتيجة المسبقة مهما كانت هذه النتيجة جميلة يلغي تلقائيا العملية الديمقراطية. 

ثالثا، يغيب في نظر النخبة أهم بند في العملية الديمقراطية، وهو بند "فراغ موقع السلطة"، حدثت في التاريخ ديمقراطيات قررت أشياءا سيئة، ولكن مبدأ فراغ موقع السلطة يجعل تغيير السيء لشيء أفضل ممكنا. بينما حلول القائد أو الجيش أو الكنيسة أو رجل الدين أو المثقف، في موقع السلطة يمنع التغيير التدريجي ويقفل باب التطور التاريخي. لذلك تكون الأنظمة الشمولية أنظمة ذابلة مثل النظام الاستاليني، مهما كانت المباديء التي بنيت عليها جميلة، بينما تتطور الليبرالية الأمريكية تدريجيا ومن داخل النظام لتوسع أفق الحريات من أقلية إلى أخرى بصورة مستمرة. وبعد بند فراغ موقع السلطة تأتي بقية البنود، مثل الفصل بين السلطات والتبادل السلمي للسلطة وغيرها، بل هي من متطلباته. فموقع السلطة غير المحكوم بقوة ثابتة يطلب وجود كل الهياكل والأنظمة الديمقراطية بصرامة شديدة وإلا تحل الفوضى. 

رابعا، أن التأسيس الديمقراطي للمباديء الديمقراطية لا يلغي هذه المباديء بل هو الصانع الأوحد لها. إذ بينما تهتم الأقلية بمصالح مباشرة واضحة لها، وبالتالي حال إتفاقها على مباديء ما فإنها ستربطها بمصالحها الضيقة، فإن الأغلبية الديمقراطية، وهي عموم الشعب، تسعى دائما لمباديء عامة، إذ المصلحة هنا عامة. (سيحدث أن تمارس الأغلبية ضيق الأفق كذلك، لكن الأقلية المتسلطة يتوقع منها ذلك بصورة أكبر).

خامسا، يشيع عند اليسار السوداني هذه الأيام إنتقاد "ديكتاتورية الأغلبية" بإعتبارها خطرا. ويستند هذا اليسار على أغلبية الطائفيين والإسلاميين بعد ثورة اكتوبر التي طردت الشيوعيين وقامت بتجريد الجنوبيين من مواطنتهم الكاملة. ولكن هذا الإنتقاد هو قفز في الظلام. إذ يلوح في خلفية هذا الإنتقاد رغبة في تجريع الناس غصص السعادة من أعلى. أن تفرض على هذه الأغلبية الديكتاتورية الأمور الصحيحة، لمصلحتهم. وهذا الفرض، وتحديدا لأننا نتكلم عن الأغلبية هنا، سوف يكون ولابد مسنودا بسلطة سياسية قاهرة. هذه النظرية ولدت شموليات التقدميين الأفارقة والعرب بعد الإستقلال. وهي لم تؤدي لأفضل مما خرجت عليه. أقول أنا أن حل ديكتاتورية الأغلبية (الظالمة للأقلية والمنتهكة للمباديء الديمقراطية التي نتفق جميعا أنها المواطنة المتساوية والحرية وعلمانية الدستور) هو ليس في تنصيب أقلية ما كحاكم أعلى محدد لمباديء الشعب، بل في تجذير ديكتاتورية الأغلبية: أن تتحول هذه الأغلبية في وعيها إلى أغلبية ديمقراطية راغبة في الدولة الحديثة. لماذا أسمي هذه الأغلبية بالديكتاتورية؟ لأنني أود التذكير بأنه هنالك دائما، في الديمقراطية، أقلية (ضد-ديمقراطية) يتم قمع رأيها. فبدلا من تجريم الأغلبية علينا أن نرى أنها مصدر السند الحقيقي للمباديء الديمقراطية و أن مجال تغيير رأي الأغلبية هو ليس القوانين الفوقية ولا السلطة الجيدة، بل النقاش والحوار والعمل بين الناس. 
ومما يقفل مساحة الحوار هو "القنع" المبكر من الناس. إذ يؤدي ذلك لإستعدائهم و سلك سبل التغيير الفوقي الذي يعمل الهوة بين الطبقة السياسية التقدمية والشعب. وبذلك ندخل في حلقة مفرغة: الناس متهمون من النخبة بأنهم شموليون، وهذا الإتهام يؤدي لإبعاد الناس أكثر من النخبة. 

 

بسبب هذه المشاكل، يشيع عندنا ضيق الصدر بالعملية الديمقراطية ومحاولة الإلتفاف عليها. أود أولا أن أشيد بأن ورقة سلامات وشالو قد أقرت بمبدأ الإستفتاء كوسيلة لإجازة الدستور. وذلك ربما قطع الطريق على تيار بدأ يتشكل، يدعوا لدستور (أو مباديء دستورية) لا تجيزه الأغلبية "الديكتاتورية". ولكن هذا الإقرار جاء مرفوقا بعملية إلتفاف تبدو مثيرة للشك. تقول الورقة: 

"أننا نرى أن المفوضية الدستورية يجب أن يُتَّفق عليها شكلاً وموضوعاً (التكوين، والمهام) في المنبر التفاوضي ومن ثم تقوم بصياغة وتضمين نصوص الإتفاق في الإعلان الدستوري الذي سيحكم الفترة الإنتقالية التي سيتَّفق عليها في المنبر التفاوضي، و على أن يُشكِّل هذا الدستور الإنتقالي مشروع الدستور الدائم، وتقوم المفوضية بتصميم برامج وفق القانون لإنزال هذا الدستور للشعوب السودانية ومن ثم عرضه عليهم في إستفتاء شعبي بعد إنفاذ برامج العودة الطوعية والإحصاء السكاني وغيره من التدابير ذات الصلة و قبل نهاية الفترة الإنتقالية و إجراء أي إنتخابات"

 

يقترح سلامات وشالو إذن كتابة الدستور المؤقت في منبر التفاوض. فبدلا عن أن يكون منبر التفاوض مساحة حل مسألة رفع السلاح بإتفاق حد أدنى، يضمن حرية التنظيم والعمل للحركات التي تضع السلاح ويضمن إصلاح الإختلال المادي وتوفيق أوضاع اللاجئين وإستعادة حقوقهم قدر الإمكان (هذه أمور لا يبدو أن عليها خلاف). يريد سلامات وشالو لمنبر التفاوض بين قحت (وهي تحالف نرى نحن في الشمال أنه لا يمثلنا بالشكل الكافي) والحركة الشعبية (لا يدري أحد مقدار تمثيلها الديمقراطي لشعوب الهامش، إذ كل العملية الحالية هي لفتح المجال لهذا القياس الديمقراطي، يبدو من الغريب إدعاء شخص ما، مهما كانت تضحياته أنه ممثل للناس كافة ثم دخوله في عملية إنتخابية، إذا كنت ممثلا أصلا للناس فما داعي العملية؟)، يريدان للمنبر أن يكون مساحة حوار دستوري كامل، أو وسيلة التأسيس لهذا الحوار ووضع مهامه ومن ثم كتابة الدستور (وهو أتفاق حد أعلى طبعا) عبرهم. 
ويراد لهذا الدستور أن يحكم لعامين (أو أكثر). وتدير السلطة التي بنت الدستور وعبره تتكون وتكتسب مشروعيتها، عملية الحوار المجتمعي، ومن ثم تقوم نفس السلطة بعقد الاستفتاء عليه. وبعد ذلك تأتي الإنتخابات. 
كل ذلك وفي ظل انقسام عقدي صنعته قحت في الشمال، عبر عدم توسيع ماعونها ليشمل الإسلاميين. لا تبدو هذه الخطة قابلة للتطبيق بغير قوة دولة شديدة القمع. ولا تبدو قابلة للتأسيس لدستور عام مستدام يمثل كل الناس وتساهم كل التيارات في كتابته. هي دعوة لتجريع الشعب السوداني غصص السعادة من أعلى. ونحن، كشعب، شربنا تلك الغصص طويلا ونرغب في يوم ما أن نتقيئها. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق