إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الثلاثاء، 14 أبريل 2020

روبيسبيير أو (العنف المقدس) للإرهاب / ترجمة مقال لسلافوي جيجاك


مقدمة المترجم:
إذا كانت اللغة هي فعلا "بيت الوجود"، فإن الواقع، و في أكثر أشكاله قسوة، يجبرنا أن نتخذ الخطوة شديدة الصعوبة: تقبل لغة جديدة تماما، تحقيق تغير جذري في الوجود ذات نفسه. عندما ظهر سلافوي جيجاك على الساحة الثقافية العالمية أول مرة، في بداية التسعينات، بكتابه "موضوع الأيديولوجيا السامي" The Sublime Object of Ideology، ظهر كمثقف مضاد للأيديولوجيا، و لكننا يمكن أن نزعم اليوم أنه يمثل أكثر من ذلك، ففي الوقت الذي كان فيه الآخرون يضعون لمساتهم الثقافية النهائية على التاريخ بإعلانهم الإنتصار النهائي لليبرالية الديمقراطية، فأن جيجاك كان يقوم بالمناورة الفكرية السياسية الأكثر صعوبة، العودة للفكرة البسيطة "أن نبدأ من نقطة البداية"، هذه العودة أخذت شكلها الوحيد الممكن: العودة للنظرية Theory، كأداة، كسلاح.
و إن كان ياسين الحاج صالح، في أحد مقالاته في موقع مجموعة الجمهورية مؤخرا، قد دعى و بشكل شبه تراجيدي بطولي "للتحديق في وجه القبيح"، للتحديق في وجه قبيح الثورة السورية، فإنه هنالك مقابل ما لهذه الفكرة، أعتقد أن سلافوي جيجاك يقترحه هنا، فكرة مقابلة لفكرة قبول "الغنى السلبي للواقع"، فكرة ترفع النظرية لمكانها الصحيح فوق الواقع. ما يدعونا له سلافوي جيجاك، هو التحديق في وجه الفكرة، مجردة كما هي و خالية من غنى الواقع، قبيحة (أو جميلة) و مهمة كما هي بلا أي "صور". ربما لا يفوق دعوى ياسين صعوبة و أهمية اليوم إلا النزعة الفكرية الجيجاكية بإمتياز: التحديق في وجه فكرة العنف/الإرهاب "كمنهج و كنظرية سياسية".
أما عن الترجمة، عندما حاولت أول مرة ترجمة هذا المقال، متقيدا بقواعد الترجمة التقليدية، واجهت صعوبة بالغة، فالمقال صعب على عدة درجات: الأولى هي الصعوبة التاريخية، من يعرف فعلا تاريخ الثورة الفرنسية اليوم؟ أليس من الجنون الكتابة للقارئ العربي عن تلك الفترة القصيرة تاريخيا و المتكدسة بأحداث ثورية بالغة التعقيد؟ ثانيا هنالك الصعوبة النظرية، سلافوي جيجاك يكتب عادة بصورة بسيطة و لكن هنالك دائما خلفية فكرية سميكة تتحرك بصورة جادة بين هيغل/لاكان و بينهما ماركس. ثالثا هنالك حاجز اللغة، الأفكار لا تنتقل بسلاسة بين اللغات المختلفة، الأفكار هي أسيرة الفرد/الكاتب، أنت تتعرف على الأفكار عبر فهمك لكاتب ما، و لذلك فنقل الفكرة عبر اللغات يتطلب كاتبا آخر. أجد نفسي أمام مهمة أكثر صعوبة، المهمة التي نظر لها وولتر بينجامين (و طبقها ربما فيمن أعرف آلان باديو، في ترجمته "الفائقة" لجمهورية أفلاطون)، و لكنها مهمة أكثر إثارة و إمتاعا: إعادة كتابة المقال بالعربية. أليست مهمتنا كماركسيين جدد، كما قال عبد الخالق محجوب يوم، أن ننقل التجربة الشيوعية الأوروبية إلى بلادنا بصورة خلاقة؟
توجد النسخة الإنجليزية للمقال، و الذي نشر في مجلة Lacanian Ink، في الرابط التالي:
http://www.lacan.com/zizrobes.htm

المقال: 

في عام 1953، عندما كان رئيس الوزراء الصيني شو إن تاي في زيارة تفاوضية لجنيف، في إطار مباحثات السلام لإيقاف الحرب الكورية، سأله أحد الصحفيين الفرنسيين بخصوص الثورة الفرنسية، عن رأيه بشأنها، أجابه شو: "لعله من المبكر فعلا الحديث بهذا الشأن". شو معه حق: مع تفكك "الديمقراطيات الشعبية" في نهاية الثمانينات، فإن الصراع حول المكانة التاريخية للثورة الفرنسية قد طفى مجددا إلى السطح. حاول الليبراليون "التصحيحيون" أن يقولوا بأن إنحلال الشيوعية عام 1989 حدث في الوقت المناسب تماما: لقد وضع هذا السقوط حدا لحقبة بدأت في 1789، بصفته الفشل النهائي لنموذج الدولة الثورية، النموذج الذي دخل المشهد أول مرة مع "اليعاقبة"[1].
تحمل المقولة "كل تاريخ هو تاريخ الحاضر" أكثر من مجرد الحقيقة عندما يكون الحديث عن الثورة الفرنسية: كل تصور تاريخي لها هو إنعكاس مباشر لنتائج الصراع السياسي الحالي. يمكن تعريف المحافظين دائما برفضهم المطلق لها: لقد كانت الثورة الفرنسية كارثة منذ البداية، هي نتاج للعقل الحديث الرافض للإله، هي عقوبة الرب للأساليب المنحرفة التي إتخذها الإنسان الحديث، لذلك فإنه يجب مسح أثارها بالكامل. الليبرالي التقليدي يأخذ موقفا أكثر تحديدا: الوصفة التي يقدمها هي "1789 بلا 1793." بإختصار، ما يريده الليبراليون ذووا الحساسية المفرطة هو ثورة منزوعة الكافيين، ثورة ليس لها رائحة الثورة. فرانسوا فيوريت و غيره إذن يحاولون أن ينزعوا عن الثورة الفرنسية صفتها بأنها الحدث المؤسس للديمقراطية الحديثة، فهي عندهم ليست إلا خللا في التاريخ: لقد كان هنالك فعلا ضرورة تاريخية للتأكيد على أسس الحرية الفردية .. إلخ، و لكن، و كما وضح عبر المثال الإنجليزي، فإن هذه المنجزات كان يمكن الوصول لها و بفعالية أكبر عبر وسائل أكثر سلمية... الراديكاليون، بالمقابل، مسكونون بما يسميه آلان باديو " الشغف بال "حقيقي/Real": إذا كنت تريد أن تقول: أ: (مساواة، حقوق إنسان، حريه) – فيجب آلا تتردد من العواقب، و أن تتحلى بالشجاعة لتقول ب: (أن إرهابا/عنفا) سيكون ضروريا للدفاع عن و التأكيد على ال "أ".

على كل، فإن من فرط التبسيط القول بأن على يسار اليوم المواصلة في هذا الإتجاه. شيء ما، نوع ما من القطيعة التاريخية قد حدث فعلا في 1990: الجميع، بما فيهم "يسار اليوم الراديكالي"، يشعرون بنوع من الخجل من إرث اليعاقبة المتعلق بالإرهاب/العنف الثوري بطبيعته المتعلقة بالدولة المركزية، لذلك فإن الشعار الشائع الآن هو أنه على اليسار، و في حال أراد إستعادة الفعالية السياسية، عليه أن يقوم بإعادة إنتاج نفسه كليا، عليه أن يتخلى أخيرا عن ما يوصف عادة  ب"البارادايم اليعقوبي." في حقبتنا الما بعد حداثية، حقبة ال"تولّد الذاتي"، التفاعل الإعباطي بين ذوات متعددة، التفاعل الحر بدلا عن التراتبيات المركزية، حقبة الآراء المتعددة بعدلا عن ال"حقيقة"، فإن ديكتاتورية اليعاقبة هي و بصورة جوهرية "لا تتوافق مع ذوقنا العام" ( يجب تحميل المصطلح "ذوق" كل قيمته التاريخية، هو الإسم الذي يشير لنزعة أيديولوجية في شكلها الأساسي.) هل يمكن أن يتخيل أحدنا شيئا أكثر غرابة على عالم حرية الرأي، تنافسية السوق، عالم التفاعلات الجماعية المتنقلة.. إلخ، شيئا أكثر غربة من روبيسيير و سياسات "الحقيقة"، (ال-حقيقة بألف و لام التريف، الحقيقة كمفردة وحيدة)، و الذي كان هدفها المعلن "إعادة الحرية، إعادة المصير النهائي للحرية، ليدي الحقيقة"؟ "حقيقة" كهذه لا يمكن إلا أن تفرض عبر العنف:

[ إذا كان الباعث الرئيس لعمل الحكومة الشعبية في زمن السلم هو مصلحة الشعب، فإنه في وقت الثورة فإن هذا الباعث يكون المصلحة و الإرهاب معا: المصلحة بلا إرهاب تولد ميتة، الإرهاب بلا مصلحة يكون عديم الفعالية. إن الإرهاب/العنف ليس في الحقيقة إلا التنفيذ الآني و الحازم للعدالة؛ و هو بالتالي تحقيق للمصلحة. الأرهاب هو إذن ليس مبدأ بل مجرد تبعة للمبدأ العام للديمقراطية، حال تطبيقها نحو تحقيق أحتياجات بلادنا الأكثر إلحاحا. ]
 
يصل هذا المنطق الروبيسييري لمنتهاه في التأكيد، و بكامل المفارقة، على المتضادات: إن الإرهاب الثوري "يرفع/يلغي[2]" التضاد بين العقوبة و الرأفة – إن العقوبة العادلة و القاسية بحق الأعداء هي أعلى أشكال الرأفة، ففيها، تلتقي الصرامة مع الإحسان:
 
[ أن تعاقب متضهد الإنسانية لهي، بالحق، رأفة؛ أن تعفوا عنهم هي البربرية. إن صرامة/قسوة المستبد إنما تنتج فقط نتيجة لمبدأ ما؛ أما قسوة حكومة الجمهورية فإنها تأتي من إحسان.]
 
ماذا يتوجب، إذا، على أولئك الذين بقوا وفيين لإرث اليسار الراديكالي أن يفعلوا بكل هذا؟ شيئان، على الأقل. أولا، إن ماضي الإرهاب هذا يجب أن يتم قبوله على أنه "يخصنا"، حتى و إن تم نقده بشدة و رفضه، أو بدقة أكثر تحديدا لأنه تم نقده و رفضه. إن البديل الوحيد للموقف المتوسط، الشعور بالذنب أمام نقّادنا من الليبراليين و في اليمين هو أن نقوم بالعملية النقدية أفضل من خصومنا. و أكثر من ذلك: لا يجب أن ندع لخصومنا تحديد مساحة و موضوع الصراع. بعبارة أخرى، فإن النقد شديد الصرامة يجب أن يسير متوافقا خطوة بخطوة مع القبول، بلا أي خوف، لما يمكن وصفه، بإعادة صياغة لنقد ماركس لدياليكتيك هيغل، ب "بذرة العقلانية" في جوهر الإرهاب اليعقوبي: (الدياليكتيك المادي يعتبر، بلا كثير بهجة، أنه حتى الآن، لم يتمكن أي فاعل سياسي من الوصول لكامل الحقيقية التي كان يهدف لها بلا لحظات من العنف. فكما تساءل ساينت-جست[3]: "ماذا يريد أؤلئك الذين لا يريدون لا المصلحة و لا الإرهاب؟" إجابته معروفة: يريدون الفساد – الإسم الآخر لهزيمة الفرد/الذات)[4]. 

أو كما وضعها ساينت-جست بصورة واضحة: "ذالك الذي ينتج المصلحة العامة، لهو دائما رهيب"، هذه الكلمات لا يجب أن تفسر كتحذير ضد إغراء إنزال المصلحة العامة على المجتمع بالقوة، بل على العكس، على أنها حقيقة مرة يجب قبولها بالكامل. النقطة المهمة الأخرى التي يجب أخذها في الحسبان هي، بالنسبة لروبسبيير، فإن العنف الثوري هو الشيء المعاكس تماما للحرب: روبيسبيير كان داعيا للسلام، لا بدافع النفاق أو الحساسية الإنسانية، و لكن لأنه كان واعيا تماما لحقيقة أن الحرب بين الأمم تعمل دائما، و كقاعدة، كعامل تعتيم على الصراع الثوري داخل كل أمة على حدة. خطاب روبيسبيير "عن الحرب" له أهمية خاصة في عالمنا اليوم: هو يظهره كداعية سلام حقيقي، يرفض بشكل كامل كل دعوات الحرب التي تطلقها النزعات القومية. فحتى و إن كانت الحرب تقدم على أنها دفاع عن الثورة، فإن روبيسبيير يرفضها بوصفها محاولة أولئك الذين يريدون "ثورة بدون ثورة" لتحويل المسار الراديكالي للعملية الثورية. رؤيته إذن مختلفة بل متعارضة مع أولئك الذين يريدون الحرب لعسكرة المجتمع و تكوين سلطتهم الديكتاتورية عليه. و هذا هو السبب وراء رفض روبيسبيير فكرة تصدير الثورة للبلدان الأخرى، و "تحريرها" بالقوة: "الشعب الفرنسي لم يصب بجنون يجعله يرغب في جعل كل الأمم سعيدة و حرة ضد رغبتها. فليضمحل كل الملوك، أو يموتوا بلا عقوبة، فوق عروشهم الملطخة بالدم، في حال قبلوا حقيقة إستقلال الشعب الفرنسي."
في بعض الأحيان فإن عنف اليعاقبة الثوري يحظى بنصف تبرير بصفته "الجريمة التأسيسية" لعالم القانون و النظام البرجوازي، و الذي فيه يكون للمواطنين أن يواصلوا متابعة إهتماماتهم اليومية في سلام. على المرأ أن يرفض هذا الزعم على صعيدين. ليس فقط لأنه زعم مخطء حسب إثباتات الواقع (كثير من المحافظين كانوا محقين في الإشارة لأن النظام و القانون البرجوازي يمكن الوصول إليه من دون الحاجة للإرهاب الإضافي، مثلما هو الحال في بريطانيا العظمى – على الرغم من أنه هنالك كروم ويل[5]...)؛ الشيء الأكثر أهمية بكثير هو أن العنف الثوري بين عامي 17921794 لم يكن حالة لما يسميه وولتر بينجامين و غيره (العنف المؤسس للدولة)، بل حالة من "العنف المقدس." ليس واضحا بالنسبة لمفسري بينجامين ماذا يمكن للمصطلح "العنف المقدس" أن يعني فعلا – هل هو نوع آخر من الحلم اليساري بحدث "نقي" و الذي لا يحدث في الحقيقة إطلاقا؟ يجب على المرأ أن يتذكر هنا أسترجاع فريدريك إنجلز لمشايعة باريس كمثال لديكتاتورية البروليتاريا:

[ لقد عاد الإشتراكيون الديمقراطيون في تفاهاتهم ليمتلؤوا رعبا من الكلمات: ديكتاتورية البروليتاريا. حسنا، أيها السادة، هل تريدون أن تعرفوا كيف تبدوا ديكتاتورية البروليتاريا؟ يمكنكم إلقاء نظرة على مشايعة باريس. هذه هي ديكتاتورية البروليتاريا. ]

على المرأ أن يعيد ذلك حرفيا، محدثا بعض التعديلات الطفيفطة، عند الحديث عن العنف: "حسنا، حضرات السادة من أنصار النظرية النقدية[6]، هل تريدون ان تعرفوا كيف سيبدوا هذا الشيء الذي ندعوه العنف المقدس؟ إنظروا إلى الإرهاب الثوري بين عامي 1792-1794. ذلك كان عنفا مقدسا." (و يمكن أن نمد السلسلة : العنف الأحمر عام 1919 ...) ذلك أن على المرا أن يعرّف العنف المقدس كظاهرة موجودة حقيقة، و بالتالي يتجنب و بالكامل تحويل هذه الظاهرة لمجرد خرافة. عندما يضرب أولئك الذين تركوا كلية في هامش الحيز الإجتماعي "بشكل أعمى،" مطالبين (و) منفذين آنيا للعدالة/الإنتقام، ذلك "عنف مقدس" – تذكر، قبل نحو عقد مضى، الذعر في ريو دي جانيرو عندما نزلت الحشود من ال"فافيلاس" على الأجزاء الغنية من المدينة، و بدأت تخرب و تحرق المحلات – "ذلك" كان "عنفا مقدسا" ... مثل الجراد (في الثقافة الدينية/الإنجيلية)، العقاب المقدس لأسوب الحياة المخطئ، يخرج من العدم، وسيلة بلا هدف – أو، كما وضعها روبيسبيير في خطابه الذي طالب فيه بإعدام لويس السادس عشر: "الناس لا يحاكِمون كما تحاكم محاكم القانون؛ إنهم لا يقرؤون العقوبات، بل ينزلون الصواعق؛ إنهم لا يدينون الملوك، بل يعيدونهم مرة أخرى إلى جوف العدم؛ و هذه العدالة لها نفس قيمة عدالة المحاكم."
إن عنف وولتر بينجامين المقدس، إذا، يجب أن يفهم على أنه مقدس و بشكل محدد حسب ما يشير إليه الشعار اللاتيني vox populi, vox dei "صوت الشعب هو صوت الله": (ليس) في الشكل المنحرف "نحن نقوم به كمجرد أدوات في يد إرادة الشعب،" بل كقبول نبيل للوحدة في القرار المستقل. إنه قرار (أن تقتُل، أن تخاطر ب أو أن تفقد حياتك) أخذ في حالة وحدة كاملة، بلا أي حماية من ال "الآخر الكبير"[7]. إن كان بإمكاننا وصف العنف المقدس بأنه "ما بعد أخلاقي"، فإنه ليس "غير أخلاقيا"، إنه لا يعطي المرأ الحرية ليقتل بغطاء من نوع ما من البراءة الملائكية. إن شعار العنف المقدس هو "أن تأخذ العدالة مجراها": هو نقطة اللا فرق بين العدالة و الثأر، التي فيها يقوم "الناس" (الكيان غير المعروف، الجزء الذي لا ينتمي لأي جزء ) بإجراء الإرهاب و يجعلون بقية الأجزاء تدفع الثمن – إنه يوم الحساب لتاريخ طويل من القهر، الإستغلال، المعاناة – أو، كما وضعها روبيسبيير نفسه بطريقة ملهبة للمشاعر:

[ ماذا تريدون، أنتم اللذين تريدون أن تروا الحقيقة و هي عديمة الحيلة، مغلوبة على أمرها، على شفاه ممثلي الشعب الفرنسي؟ للحقيقة، بالقطع، قوة خاصة بها، لها غضب، و لها نوع خاص من الإستبداد؛ إن لها صوتا مؤثرا، و آخر رهيبا، إن للحقيقة صوتا يتردد بقوة في القلوب النقية كما في الضمائر المذنبة، و التي لا تسطيع الكذبة أن تقلدها إلا كما يمكن ل"سالومي" أن تقلد صوت الصواقع القادمة من الجنة؛ بإمكانكم أن تلوموا طبيعة الأشياء، أو أن تلوموا الناس، الذين يريدونها و يحبونها. ]

و هذا ما يرمي إليه روبيسبيير في صلب إتهامه للمعتدلين بأن ما يريدونه هو "الثورة بدون ثورة": ما يريدونه هو ثورة تنزع عنها تبعتها التي تلتقي فيها الديمقراطية مع الإرهاب، يريدون ثورة تحترم القواعد الإجتماعية، تلتزم بالطبيعي الذي كان موجودا قبلها، ثورة ينزع فيها عن العنف جانبه "المقدس" و ينزل بالتالي لمرتبة التدخل الإستراتيجي الذي يخدم أهداف محددة:

[ أيها المواطنون، هل تريدون ثورة منزوع عنها جانبها الثوري؟ ما روح الإضطهاد هذه التي جاءت تراجع، إن صح التعبير، ذلك الذي كسر قيودنا أول مرة؟ أي حكم جازم يستطيع المرأ أن يعطي للآثار التي ستتبع تلك الهزات و الإضطرابات السياسية؟ من يستطيع، بعد وقوع الحدث، أن يحدد اللحظة المعينة التي إشتعلت فيها نيران التمرد الشعبي؟ أن يحدد الثمن الذي يستطيع به أي شعب أن يهز أركان الإستبداد؟ إن أي أمة كبيرة لا تستطيع أن تهب دفعة واحدة في شكل حركة جماعية، بالإمكان فقط ضرب المستبد من قبل المواطنين الذين لهم مسافة قريبة منه، لكن كيف سيجرؤ هؤلاء المواطنون على مهاجمته، إن كان بإنتظارهم بعد الإنتصار، حساب من قبل تلك القطاعات البعيدة الأخرى، من قبل الوفود من أطراف البلاد، على مدة العنف و الإضراب السياسي، ذلك الذي أنقذ الوطن من البداية؟ إنه لا بد من قبول كون ذلك العنف مبررا ضمنيا، و من بُعد، من قبل المجتمع كافة. إن الفرنسيين، أنصار الحرية، و بإلتقاءهم في باريس أغسطس الماضي، قاموا بكل ما فعلوه بإسم كافة الأقاليم. يمكننا أن نحي الجميع أو أن ندين الجميع. لكن أن نجعلهم مذنبين وحدهم في قيامهم ببعض التجاوزات الواضحة و الحقيقية، التي لا يمكن فصلها عن سياق أي هزة عملاقة، هو أن نعاقبهم على إخلاصهم. ] 

إن المنطق الثوري الأصيل هنا، يمكن ملاحظته حتى على مستوى جزئيات الخطاب، عندما يحبذ روبيسبيير أن يقوم بالإلتفاف على العملية التقليدية و التي تقضي بالبدء أولا بالحديث عن ما يبدوا ظاهريا على أنه موقف واقعي ثم توضيح أن ليس أكثر من مجرد خيال: يبدأ روبيسبيير كثيرا بتقديم موقف أو وصف لحالة على أنها مجرد مبالغة عبثية، خيال، ثم يذهب بعد ذلك ليذكرنا بأن ما لا يستطيع في أول الأمر إلا أن يظهر في شكل خيال، هو في الواقع الحقيقة ذات نفسها: "لكن ما الذي أقوله الآن؟ إن ما قد قدمته الآن على أنه مجرد فرضية عبثية هو في الواقع حقيقة مؤكدة." إنها تلك النزعة الثورية الراديكالية التي تسمح كذلك لروبيسبيير برفض الإهتمام "الإنساني" بضحايا "العنف الثوري المقدس": "إن حساسية، يتدثر بها و بشكل حصري أعداء الحرية منتحبين، تبدوا مشبوهة بالنسبة لي. توقفوا عن التلويح بقميص الطاغية ملطخا بالدم امام عيني أو سأؤمن بأنكم تحلمون بوضع روما في القيود مرة أخرى." إن التحليل النقدي و القبول بالإرث التاريخي لليعاقبة يلتقي في السؤال المحوري الذي يجب طرحه: هل يدفعنا التحقق الواقعي للعنف الثوري (و الذي يكون في كثير من الأحيان باعثا على الأسى)، هل يدفعنا ذلك لرفض فكرة العنف ذات نفسها، أم أن هنالك طريق (لإعادتها) في فضاء اليوم التاريخي المختلف، أن نحرر مكونها الخيالي من تحققها في الواقع؟ إنه (بالإمكان) و (من الواجب) أن نقوم بهذه العملية، و إن الوصفة الأكثر إختصارا لإعادة ذلك الحدث تحمل الإسم "روبيسبيير". علينا أن: نعبر من عنف (روبيسبيير) الإنساني، لعنف آخر ضد-إنساني (أو، قل، لا-إنساني).
في كتابه "القرن"، أخذ آلان باديو، و كعلامة على الإنتكاسة السياسية التي حدثت في نهايات القرن العشرين، التحويل من (الإنسانوية (و) العنف) لـ (الإنسانوية (أو) العنف). عام 1946، كتب موريس مارلو-بونتي كتابه "الإنسانوية و العنف"، دفاعه عن الشيوعية السوفيتية على إعتبار أنها نوع من الرهان الباسكالي التي أعلن من خلالها عن ما سماه بيرنارد ويليامس لاحقا "الحظ الأخلاقي": إن العنف الحالي سوف يبرر نفسه لاحقا، و بصورة إرتجاعية، إذا كان المجتمع الناتج عنه إنسانيا فعلا؛ اليوم، ربط كهذا بين الإنسانوية و العنف هو في الغالب مما لا يمكن تقبل فكرته، النظرة الليبرالية السائدة تستبدل ال(و) بـ (أو): إما الإنسانوية أو العنف ... بصورة محددة أكثر، هنالك أربعة تنويعات لهذا المنطق: (الإنسانوية)، (العنف)، (و)، (أو)، و كل منهما إما ماخوذا إما "إيجابا" أو "سلبا".

١/ أولا هنالك الإنسانوية و العنف، حيث الإنسانوية المفهومة إيجابا هي تفسير العنف المفهوم سلبا: ما قام مارلو-بونتي بشرحه، تفسر الستالينية (الإنتاج القسري و العنيف لل"الرجل الجديد")، و هي النزعة التي يمكن ملاحظتها، و بوضوح، مسبقا في الثورة الفرنسية، في شكل توحيد روبيسبيير للمصلحة و العنف. هذه التنويعة (الإنسانوية و العنف في شكلها الإيجابي) يمكن عكسها بطريقين:
٢/ يمكن أن نأخذ الإختيار (الإنسانوية أو العنف)، حيث يفهم العنف سلبيا بأنه شيء مضاد للإنسانية: "الإنسانوية" (المشروع الإنساني الليبرالي بكل أنواعه، من إنسانية المنشقين عن الستالينية، إلى الهابرماسيين الجدد في يومنا هذا لوك فيري و آلان رينولت في فرنسا و بقية المدافعين عن حقوق الإنسان) /ضد/ "العنف" (عنف الشموليين، و الأصوليين).
٣/ أو أن نحافظ على التنويعة (الإنسانوية و العنف) و لكن بإعتبار كلا جانبين سلبيا، العنف هو تحقق وحشية الإنسانية: كل تلك الإتجاهات الفلسفية و الأيديولوجية، من هايدجر و المحافظين المسيحيين إلى مناصري الروحانية الشرقية و الطبيعة، الذين يأخذون العنف/الإرهاب على أنه الحقيقة – النتيجة النهائية – للمشروع الإنساني ذات نفسه، النتاج الحتمي لغطرسة المشروع الإنساني.

لكنه هنالك، بطبيعة الحال، تنويعة رابعة، تترك جانبا في العادة: الإختيار (الإنسانوية و العنف)، لكن بـ "العنف" (وليس) الإنسانوية، مأخوذا بصورة إيجابية. بينما تؤخذ الإنسانية بصورة سلبية. ذلك هو الموقف الراديكالي الذي يصعب أخذه، و لكنه، ربما، أملنا الوحيد: إنه لا يشير للجنون المنحرف (أخذ إتجاه سياسي "غير إنساني إرهابي" صراحة) بل هو شيء أكثر صعوبة على الإدراك. في عالم أفكار اليوم ال"ما بعد تفكيكي" (إذا كان بإمكان المرء أن يخاطر بمثل هذا التعبير الذي لا يمكن إلا أن يبدو كتهكم ضد نفسه)، المصطلح لا-إنساني inhuman أخذ أهمية جديدة، خاصة في أعمال آغامبن و باديو. أفضل طريقة لفهمه هو عبر عدم رغبة فرويد لقبول الأمر المسيحي "أحب جارك! Love thy neighbor![8]" – الإغراء الذي يجب مقاومته هنا هو التطبيع الأخلاقي للجار – مثلا، كما فعل إيمانويل لافيناس، في فكرته عن "الجار" كنطقة "هاوية abyss" و التي منها ينبع النداء الأخلاقي للمسؤولية. ما قام لافيناس هنا بتغبيشه هو توحش "الجار"، توحش على أساسه أطلق لاكان على الجار مصطلح "الشيء" (Thing/ das Ding)، و الذي إستعمله فرويد لتعريف الموضوع النهائي لرغباتنا في شكله الغير قابل للتحمل و الذي لا يمكن إدراكه. على المرأ أن يسمع في هذا المصطلح كل تضمينات قصص الرعب: الجار هو الشيء (الشرير) الذي يحتمل أن يرزح خلف كل وجه إنساني مطمئن. فقط تذكر رواية إستيفان كينغ "الوميض Shining"، و التي فيها الأب، كاتب متوسط الإمكانيات فاشل، يتحول بصورة تدريجية لوحش قاتل، و الذي، و بإبتسامة مخيفة، يقوم بذبح عائلته. في مفارقة ديالكتيكية حقيقية، ما فشل لافيناس في أخذه في الحسبان، و بكل إحتفائيته بال"أخروية" the Otherness، ليس نوع من ال"تشابه" الأساسي بين كل البشر و لكن الأخروية الراديكالية "اللا-إنسانية" ذات نفسها: أخروية البشري عندما ينزل لمرتبة اللا-إنساني، الأخروية المتمثلة في الشكل المرعب لل Muselmann[9]، الشخص الميت الحي في معسكرات الإعتقال النازية. في مستوى آخر، فإن الأمر نفسه ينطبق على الشيوعية الستالينية. في السردية الستالينية التقليدية، حتى معسكرات الإعتقال النازية كانت تمثل حلبة للصراع ضد الفاشية حيث كان المعتقلون الشيوعيون ينظمون شبكات للمقاومة الباسلة – في عالم كهذا، بالطبع، لا يوجد هنالك مكان للتجربة المحدودة لل Muselmann، للشخص الذي يحيى كميت منزوعا منه كل قابلية لأي إرتباط إنساني – لا عجب أن الشيوعيين الستالينيين كانوا متحمسين جدا ل"تطبيع" معسكرات الإعتقال لتصبح مجرد مكان آخر للصراع ضد الفاشية، متجاهلين ال Muselmann، الإنسان الذي يحيى كميت، على أنه ببساطة يمثل كل من كان ضعيفا غير قادر على تحمل تبعات النضال.

على هذه الخلفية يمكننا أن نفهم لماذا تحدث لاكان عن الجوهر غير الإنساني للجار. في الستينات، حقبة البنوية، أسس لويس ألتوسير للوصفة المعروفة "المعاداة النظرية للإنسانوية،" متيحا المجال، بل و مطالبا، بأن تتعزز النظرية بتوجه عملي إنسانوي. في الممارسة علينا أن نتحرك كإنسانويين، علينا أن نحترم الآخرين، أن نعاملهم كأفراد أحرار لهم كامل الكرامة. و لكن في النظرية علينا أن نفهم دائما أن الإنسانوية هي مجرد أيديولوجيا مع ذلك، هي الطريقة التي ندرك بها تلقائيا ورطتنا، ما علينا أن نفهمه هو أنه في المعرفة الحقيقية بالبشر و تاريخهم علينا أن ندرك الأفراد ليس كذوات مستقلة حرة، بل كأجزاء في بنية كلية تتبع منطقها الكلي الخاص. على العكس من ذلك، لاكان أتم عملية الإنتقال من ضد-الإنسانوية النظرية إلى تمثلها العملي، بمعنى، إلى المُثُل التي تتجاوز البعد الذي وصفه نيتشة ب "الإنسان، المبالغ في الإنسانية،" لتواجه الجوهر غير الإنساني للإنسانية. هذا لا يعني فقط نوع من الأخلاق و المُثٌل التي لم تعد تنكر، بل و التي تأخذ في الإعتبار و بلا مواربة، الوحشية المصاحبة لكون المرأ إنسانا، البعد الشرير الذي يتفجر في ظواهر يمكن أن ترى في الإسم/المصطلح "أوشويتز"، هذه الأخلاق ستكون ممكنة بعد أوشويتز، إن صح تعبير أدورنو. هذا البعد اللا-إنساني هو بالنسبة للاكان، و في نفس الوقت، الداعم المطلق للمُثُل.

 بإستعمال المصطلح الفلسفي، البعد اللا-إنساني يمكن تعريفه بالذات المنزوعة من كل أشكال الفردانية و الشخصية الإنسانية (لذلك في الثقافة الشعبية اليوم، فإن أهم أمثلة الذوات الخالصة هو الغير إنسان، الفضائي، السايبورغ، الذي يُظهر وفاءا أكثر للمهمة، للكرامة و الحرية، من معادلية من البشر. من شخصيات شوارزينغر في Terminator إلى روتغر-هوير أندرويد في Blade Runner). تذكر حلم هوسريل القاتم، في "تأملات ديكارتية"، الذي فيه سيبقى الكوغيتو غير متأثرا بالطاعون الذي سيبيد الإنسانية قاطبة: من السهل هنا أن يسجل الواحد منا نقطة رخيصة حول كيف أن فكرة الذات المتعالية/المثالية تدمر نفسها ذاتيا، و كيف أن هوسريل جانب الصواب حول ما أسماه فوكو "المضاعفة المثالية-الإمبيريقية"، في كتابه "الكلمات و الأشياء،" و التي تشير إلى الصلة التي تربط دائما الإيغو المثالي بالإيغو في الواقع، حيث أي إلغاء للثاني يلغي تلقائيا الأول. مع ذلك، ماذا لو أقر الواحد منا بهذه الطبيعة للأشياء (ليس أكثر من ذلك، فقط بصفتها طبيعة بليدة للأشياء) و مع ذلك قرر أن يصر على ضدها، حقيقة أن الذات هي شيء منفصل عن الفرد الواقعي بصفته شيء حي؟ ألا يظهر هذا الإنفصال في أعلى صوره في مخاطرة الواحد منا بحياته، في إستعداده للتخلي عن وجوده؟ على خلفية فكرة الاستعداد المستقل لتقبل الموت هذه علينا أن نعيد قراءة الإنعطافة الخطابية لروبيسبيير و التي قُرِئت دائما بصقتها الدليل على غسيل المخ الشمولي الذي مارسه روبيسبيير على جماهيره[10]. المنعطف الذي إتخذه روبيسبيير خلال مخاطبته للجمعية العمومية في نهايات مارس ١٧٩٤؛ في الليلة السابقة دانتون، دوسمولينس و آخرون تم إعتقالهم، الأمر الذي أثار مخاوف العديد من أعضاء الجمعية العمومية أن الدور سيأتي عليهم. روبيسبيير إعتبرها لحظة تاريخية فارقة: "أيها المواطنون، لقد حانت لحظة قول الحقيقة." و تابع بعدها باعثا الخوف الذي كان يطوف بالمكان:

[ يريد الواحد أن يجعلكم تخافون من سوء إستعمال القوة، قوة الدولة التي تمتلكونها ... يريد الواحد أن يجعلنا نخاف من أن يقع الشعب ضحية للجمعية ... يخاف الواحد أن المساجين قد تعرضوا للقمع ]

التعارض هنا هو بين "الواحد" غير الشخصي (مثير الخوف هو ليس شخص بعينه) و لذلك فإن الحضور قد وضعوا تحت ضغط ما، و الخطاب للحضور هنا يتحول بصورة خفية بين خطاب الآخرين "أنتم" إلى خطاب الكل "نحن" (يضم روبيسبيير نفسه بشجاعة للمجموع). و تضيف المعادلة النهائية إنقلابا طاغيا: لم يعد الخطاب عاديا "يريد الواحد أن يجعلكم/يجعلنا نخاف" بل "يخاف الواحد"، ما يعني أن الشبح مثير الخوف لم يعد خارج "أنتم/نحن"، لم يعد خارج أعضاء الجمعية، بل بات موجودا بينهم/ بيننا/ بينكم أعضاء الجمعية العمومية، يقطع إتحادنا من الداخل. في هذه اللحظة، و في هذه الحظة بالذات، و بضربة قيادية حقيقية، يسترجع روبيسبيير ذاتيته بالكامل.. ينتظر قليلا حتى يأخذ الأثر الطاغي لكلماته مكانه، ثم يواصل في صيغة المتكلم:

[ أريد أن أقول بأن أي شخص تساوره مخاوف في هذه اللحظة هو مذنب؛ لأن البريء لا يخاف أبدا من التحقيق العام. ]

هل هنالك شيء أكثر "شمولية" من هذه الحلقة المغلقة "تحديدا خوفك من أن تكون مذنبا، يجعل منك مذنبا،" نسخة غريبة من العبارة "الشيء الوحيد الذي يجب أن تخاف منه هو الخوف نفسه"؟ علينا مع ذلك أن ننظر أبعد من إعتبار إستراتيجية روبيسبيير مجرد إستراتيجية إرهابية إتهامية، و أن نرى لحظة الحقيقة فيها: ليس هنالك متفرجون بريؤون في لحظة القرار الثوري المحوري، لأنه في تلك اللحظات فإن البراءة نفسها، أن تعفي نفسك من إتخاذ القرار، أن تواصل حياتك و كأن الصراع الذي تشهده لا يعنيك، هو أعلى أشكال الخيانة. بمعنى أن خوفك من أن تتهم بالخيانة هو عين الخيانة، حتى و إن لم أقم "بفعل أي شيء ضد الثورة،" فإن هذا الخوف، الخوف الذي ظهر في شكل دفاعي عن نفسي "أنا لم أقم بأي شيء ضد الثورة"، يوضح أن موقفي الذاتي هو خارج الثورة، و أنني أختبر الثورة بصفتها قوة خارجية تهددني.

 و ما يتبع في هذا الخطاب يوضح أكثر من ذلك: سيتطرق روبيسبيير للتساؤل الحساس الذي لا بد و أنه طرأ لعقول مستمعيه، كيف يمكن لروبيسبيير أن يستثني نفسه من أن يكون المتهم التالي؟ هو ليس السيد الإستثناء عن جماعته، ال "أنا" خارج ال "نحن"، هو بدوره كان بالطبع مقربا من دانتون، أحد أقوى قادة الثورة الذي تم إعتقاله، ماذا لو تم غدا إستعمال صلته بدانتون ضده؟ بإختصار كيف يمكن لروبيسبيير أن يطمئن لأن العملية التي أطلق عنانها لن تبتلعه؟ هنا أخذ موقف روبيسبيير شكلا ساميا، في أقراره بأن الخطر الذي يتهدد دانتون اليوم سوف يتهدده غدا. و السبب الذي يجعله هادئا، الذي يجعله لا يخاف من ذلك المصير، هو ليس أن دانتون خائن بينما هو، روبيسبيير، نقي، القائد الذي يمثل مباشرة إرادة الشعب، بل بأنه، روبيسبيير، "ليس خائفا من أن يموت"، موته اللاحق لا يمثل أكثر من حدث طارئ لا يهم:

[ ما الذي يعنيه الخطر لي؟ حياتي هي في الوطن؛ قلبي خالي من الخوف؛ و إن كنت سأموت، فإنني سأفعل ذلك بلا عار، و بلا شعور بالذل. ]

يتبع ذلك، و عندما يكون الحديث عن لحظة تحول ال "نحن" إلى ال "أنا"، لحظة سقوط القناع الديمقراطي حيث يقر روبيسبيير بشكل معلن بأنه "سيد/قائد" (حتى هذه اللحظة نحن نتبع تحليل ليفورت)، فإن علينا أن نعطي المصطلح "سيد" ثقله الهيغلي الكامل: السيد هو رمز الإستقلالية، ذلك الذي لا يخاف من الموت، المستعد للمخاطرة بكل شيء. بكلمات أخرى، فإن المعنى النهائي لصيغة المتكلم "أنا" في خطاب روبيسبيير هي: أنا ليست خائفا من أن أموت. ما يعطيه المصداقية هو ذلك فقط، و ليس أي صلة مع "الآخر الكبير"، بمعنى أنه لا يزعم بأن له صلة مباشرة من "إرادة الشعب" التي تتحدث عبره. هكذا عبر باماموتو جاكو، راهب الزن البوذي، عن الموقف المناسب للمحارب: (على الواحد أن يعتبر أنه قد مات سلفا كل يوم. تقول الحكمة القديمة "حال خروجك من باب بيتك أنت رجل ميت. غادر البوابة و أنت تعلم أن العدو في الإنتظار"، لا يقال ذلك تعبيرا عن فكرة الحذر، بل ليعتبر الواحد منا نفسه ميتا مقدما.) و لذلك و بحسب هيليس لوري، فإن العديد من الجنود اليابانيين خلال الحرب العالمية الثانية كانوا يحضرون جنازتهم قبل الذهاب لأرض المعركة:
 
] العديد من الجنود في هذه الحرب يظهرون إستعدادا للموت في أرض المعركة، حتى أن أكثرهم قد أقام جنازته قبل المغادرة للجبهة. هذا الأمر لا يؤخذ كمزحة بالنسبة لليابانيين. على العكس، يلاقي الفعل إحترامهم كتعبير عن روح الساموراي الذي يدخل لقلب المعركة بدون أي نية للعودة[
  
هذا الانتحار التلقائي، إلغاء الذات من إطار الحياة، يحول الجندي، بلا شك، إلى شيء سام. بدلا عن إعتبار هذه النزعة تمثلا لنوع من الفاشية العسكرية، علينا أن نؤكد أنها يمكن كذلك أن تكون جزءا تأسيسيا في الموقف الثوري الجذري: هنالك خط مباشر يربط هذه النزعة لتقبل الفناء بردة فعل ماو تسي تونغ على التهديد النووي في ١٩٥٥، في منشوره (ليس من الممكن تركيع الشعب الصيني عبر القنبلة النووية):

] لا يمكن للولايات المتحدة أن تبيد الأمة الصينية بترسانتها المحدودة من القنابل النووية. لكن حتى و إن كانت قنبلة الولايات المتحدة من القوة بحيث أنها، عندما تلقى فوق الصين، سوف تخترق الأرض إلى الجهة الأخرى، أو حتى سوف تفجر الأرض، فإن ذلك سيكاد أن لا يعني شيئا بالنسبة للكون ككل، ربما سيكون ذلك حدثا صغيرا بالنسبة للنظام الشمسي. [

من المؤكد أنه هنالك و بوضوح "جنون لا-إنساني" في هذا المنطق: أليس من الواضح أن التبرير "زوال الإنسانية لن يعني شيئا للكون ككل" لن يكون عزاءا مناسبا للإنسانية المنقرضة؟ يعمل هذا المنطق فقط إذا إفترض الواحد منا وجود ذات مثالية متاعلية - على طريقة إيمانويل كانت- لن تتأثر بالكارثة. ذات، رغم أنها غير موجودة في الواقع، إلا أنها فعالة مع ذلك كنقطة مرجعية. كل ثوري أصيل عليه أن يلتزم بهذه الممارسة: عليه أن ينفصل كليا عن، و أن يحتقر حتى، وجوده الشخصي البليد المباشر، أو كما وضعها ساينت جست ببراعة، معبرا عن ما أسماه وولتر بينجامين "مجرد الحياة": "إنني لأحتقر كومة التراب التي هي أنا، و التي تتحدث إليكم".[11] لامس شي جيفارا نفس الفكرة عندما دعى، خلال أحداث أزمة الصواريخ النووية الخانقة، إلى المخاطرة و عدم الخوف من التسبب في إندلاع حرب عالمية جديدة، الحرب التي ستؤدي (على الأقل) إلى الفناء الكامل للشعب الكوبي، معبرا عن إعجابه بإستعداد الشعب الكوبي لهذه التضحية.
بعد آخر للثنائية "اللا-إنسانية" المصلحة العامة/الإرهاب مارسه روبيسبيير هو رفضه للعادات (بمعنى القيام بالمساومات الواقعية). كل نظام قانوني، (أو كل نمط طبيعي ظاهريا) يعتمد على حلقة معقدة من الأوامر غير المعلنة التي توجهنا للتصرف حيال القوانين المعلنة، كيف علينا أن نطبقها: إلى أي مدى علينا أن نأخذ القوانين حرفيا، متى يمكننا أن نتجاهلها، أو حتى متى يجب علينا تجاهلها.. إلخ. هذا هي وظيفة العادات. أن تعرف عادات مجتمع ما هو أن تعرف القوانين الضمنية لذلك المجتمع و التي عبرها يطبق الأفراد القوانين المعلنة: متى يلتزمون بها و متى لا يلتزمون بها، متى يكون على الواحد أن يقوم بشيء و أن يتظاهر بأنه يقوم به بدافع الرغبة الذاتية (خذ مثلا "الواجب" في مناسبات الزفاف أو العزاء عندنا). تذكر مثلا عرض العزومة الذي يفترض ضمنيا أن على الواحد رفضه: هي "عادة" أن يرفض الواحد ذلك العرض، و الشخص الذي سيقبل العرض سوف يرتكب أمرا مثيرا للخجل و ربما الإزدراء. نفس الأمر ينطبق على الكثير من المواقف السياسية، حيث يقدم لنا الخيار و لكن بشرط أن نختار الخيار الصحيح: يتم تذكيرنا أن بإمكاننا أن نقول "لا"، و لكن يُتوقع منا أن نرفض ذلك الخيار و أن نقول بحماسة "نعم". كذلك الأمر بالنسبة للكثير من النواهي الجنسية، و لكن في الإتجاه المعاكس: الأمر المعلن "لا" تعمل فعليا كحث ضمني "إفعلها و لكن في السر!". قياسا على هذه الخلفية، فإن الرموز التحررية الثورية من روبيسبيير إلى جيمس براون هم، ربما، شخصيات بلا عادات: هم يرفضون أن يأخذوا في الإعتبار العادات التي تحكم سير القوانين العامة:

] فقط كنتيجة لحكم العادة، فإننا نلجأ لأكثر التصورات إعتباطية، وأحيانا لأكثر المؤسسات فسادا، بإعتبارها المحدد لما هو صواب و ما هو خطأ، لما هو عادل أو غير عادل. نحن لا نستطيع أن نتخيل كيف أن أكثرنا ما زال مرتبطا بالتصورات المسبقة التي ربتنا عليها الحكومة الظالمة. لقد رزحنا لمدة طويلة مستعبدين لها حتى أننا نواجه صعوبة في الصعود بأنفسنا نحو المباديء الخالدة للعقل؛ كل ما يشير لمصدر أعلى التشريعات يبدو لكنا و كأن له طبيعة غير قانونية، و حتى أرسخ قوانين الطبيعة تبدو لنا و كأنها فوضى. الحركة المجيدة للشعوب العظيمة، و التأجج السامي للمصلحة العامة، تبدو لأعيننا المترددة كشيء مثل تفجر بركان أو كتدمير للمجتمع السياسي؛ و هذا بلا شك ليس أقل المشاكل التي تواجهنا، إنه تعارض بين ضعفنا الأخلاقي، فقرنا العقلي، و بين نقاء مبادئ و دافع الحكومة الحرة. الحكومة التي تشجعنا لنعلن رغبتنا فيها. [

أن تكسر إستعباد العادة يعني: إن كان كل الناس متساوون، فهذا يعني أن يعامل كل الناس حالا كمتساويين؛ إن كان السوود بشرا أيضا، فهذا يعني أن يعاملوا كبشر حالا. تذكر الحلقات المبكرة للنضال ضد العبودية في الولايات المتحدة، حيث و حتى قبل الحرب الأهلية، تأججت عبر المواجهة بين أنصار التحرر التدريجي من الليبراليين و الشخصية الرمزية الفريدة جيمس براون:

] كان السوود ككاريكاتورات للبشر، حيث تم وصفهم كمهرجين، كانوا نكتة المجتمع الأمريكي. و حتى الداعون لإلغاء العبودية، رغم معارضتهم للعبودية إلا أن أغلبهم لم ير السوود كمكافئ لهم. أغلبهم، و هو الأمر الذي إشتكى منه السوود كثيرا، كان مستعدا لإنهاء العبودية في الجنوب و لكن مع المحافظة على التفرقة العنصرية في الشمال. /.../ جون براون لم يكن كذلك. بالنسبة له فإن ممارسة المساواة كانت الخطوة الأولى في إنهاء العبودية. و السوود الذين إلتقوا به علموا ذلك فورا. براون جعلها واضحة أنه لا يرى أي فرق، و هو لم يوضح ذلك بالقول، بل بما فعله. [12][

و لذلك فجون براون هو الرمزية المحورية في تاريخ الولايات المتحدة: في حماسه المسيحي "الإلغاء الجذري للعبودية"، إقترب براون من إدخال المنطق الجذري اليعقوبي في السياسة الأمريكية. حتى اليوم، و بعد سنوات من إلغاء العبودية، مازال براون الرمز المقسم للذاكرة الجمعية الأمريكية؛ أولئك البيض الذين ساندوا براون لهم قيمة عالية، بينهم، و للمفارقة، دايفد هينري ثورو، المعادي المعروف للعنف: ضد الحط المعروف من براون بصفته متعطشا للدم، rغبيا، و مجنونا، قام ثورو بوصف براون بإعتباره شخصا لا مثيل له، و أن إلتزامه بالقضية لم يضاهيه فيه أحد. بل و ذهب ثورو لتشبيه إعدام براون (ثورو قال بأنه كان يرى براون ميتا حتى قبل موته) بمقتل المسيح. و رد ثورو مشمئزا على أولئك الذين رفضوا براون و عافوا طريقته: لن يستطيع هؤلاء الناس فهم جيمس براون، و ذلك بسبب بؤس موقفهم و "الموت" الذي يعرف وجودهم، هم لم يعيشوا فعلا، فقط حفنة من الرجال قد عاشت بالفعل.
مع ذلك، فإن هذه التحررية المتسقة نفسها هي في نفس الوقت ترسم حدود و نواقص السياسات الجذرية لليعاقبة. تذكر إستبصار ماركس الأساسي حول مشكلة البرجوازيين في منطقهم حول المساواة: اللامساواة الرأسمالية (الإستغلال) هي ليست "في تخليهم المبدئي عن مباديء المساواة،" بل هي جزء أصيل في مبدأ المساواة، هي التبعة المعاكسة لتحققها العملي. الفكرة التي تجول بذهني هنا هي ليست فقط الفكرة القديمة المملة عن كيف أن التبادل التجاري في السوق يتضمن إقرارا مسبقا بعلاقة متساوية شكلا/قانونا بين الأفراد؛ اللحظة المهمة في نقد ماركس للإشتراكيين "البرجوازيين" هي أن الاستغلال الرأسمالي لا يتضمن أي نوع من اللامساواة بين العامل و الرأسمالي – هذه العلاقة هي علاقة متساوية و "عادلة،" بصورة مثالية و من حيث المبدأ، فإن العامل يلاقي الأجر الكامل للبضاعة التي يبيعها (طاقة العمل). بالطبع فإن البرجوازيين الثوريين الراديكاليين على علم بحدود تصورهم؛ و لكن الطريقة التي يحاولون بها تتطويعه هي عبر التدخل القسري المباشر، عبر فرض قواعد مساواة جديدة (مساواة في الأجور، مساواة في الخدمة الصحية.. إلخ)، و التي بدورها لا يمكن أن تفرض إلا عبر شكل جديد من اللامساواة (عبر الطرق المتعددة التي يتم بها توفير معاملة تفضيلية للطبقات المحرومة). بإختصار، فإن مبدأ "المساواة" سيكون دائما إما غير كاف (بصفته مجرد الشكل لمضمون من اللامساواة) أو أكثر مما يجب (بصفته الفرض القسري "الأرهابي" للمساواة) – هو تصور شكلي تماما بالمعنى الجدلي الهيغلي، بمعنى، ما يقوضه هو تحديدا أن الشكل هو غير واقعي بما يكفي، ليس له مضمون واضح، هو مجرد حامل محايد لمضمون لا يستطيع الشكل أن يحيط به.

المشكلة هنا هي ليست العنف في نفسه – واجبنا اليوم هو تحديدا أن نعيد إختراع العنف التحرري. المشكلة هي في مكان آخر: "التطرف" السياسي التحرري، أو الجذرية الزايدة، يجب أن ترى دائما بصفتها ظاهرة تعبر عن تموقع إيديولوجي-سياسي خاطيء، بصفتها مؤشرا على عكسها، على محدودية، على رفض عملي للذهاب "إلى النهاية". ماذا كان لجوء اليعاقبة إلى العنف الجذري إن لم يكن شكلا من الفعل الهيستيري، الفعل الذي يشير إلى عدم قدرتهم على زعزعة القواعد السميكة للنظام الاقتصادي (الملكية الفردية..إلخ)؟ أيضا ألا ينطبق نفس القول على المبالغة في ما يسمى اليوم "قاعدة السلامة السياسية" Political Correctness؟ ألا توضح هذه الظاهرة بدورها تراجعا عن زعزعة الأسس المادية الصلبة لأشياء كالعنصرية و ظلم المرأة؟ مما يعني أنه، ربما، حان الوقت لوضع الفهم السائد تحت التساؤل، الفهم الذي تتشاركه عمليا كل مجموعات اليسار "ما بعد الحديث"، الفهم القائل بأن "الشمولية" السياسية تنتج بشكل ما عن هيمنة الإنتاج المادي، و التكنولوجيا، على الإتصال بين الذوات و/أو ممارساتهم الرمزية، و كأن مصدر العنف السياسي هو في أن "مبدأ" المنطق العملي، المؤدي إلى السيطرة و الإستغلال التكنولوجي للطبيعة، قد إمتد إلى المجتمع، و أصبح الناس نفسهم يعاملون كمادة خام يجب تحويلها إلى "الرجل الجديد".[13] ماذا لو كان العكس هو الصحيح؟ ماذا إن كان العنف السياسي تعبيرا عن تجاهل للمجال "المادي" مجال الإنتاج، تجاهل لمنطقه المنفصل، و عن إتباعه جزافا بالمنطق السياسي؟ ألم يفترض هذا العنف السياسي، من اليعاقبة إلى ثورة ماو الثقافية، ألم يفترض أن الإنتاج الفعلي هو شيء هامشي، و تم  إختزاله في مجال المعركة السياسية؟ بكلمات أخرى، إن ما تعنيه "الفعالية" هو ليس أقل من التجاهل الكامل لفكرة ماركس المفتاحية القائلة بأن الصراع السياسي هو مشهد/دراما، و حتى نراه فعلا، فعلينا أن نلجأ لمجال الاقتصاد. أما عن الجذور الفلسفية لمحدودية العنف التحرري، فإنه من السهل نسبيا رؤية أرضية مشكلة العنف اليعقوبي في جان جاك روسو الذي كان مستعدا للسير مع مشكلة "الإرادة العامة" إلى نهاياتها الإستالينية:

] بعيدا عن العقد الأولي، إن تصويت الأغلبية هو دائما حاكم للبقية. هذا يتبع من التعاقد نفسه. هنا يظهر التساؤل، كيف للفرد أن يكون في نفس الوقت حرا و مجبورا على الإقرار بالإرادة التي ليست إرادته. كيف للمعارضين أن يكونوا أحرار و محكومين بقوانين هم لم يوافقوا عليها؟ أنا أريد بأن هذا السؤال قد وضع بشكل خاطئ. يقر المواطن في تعاقده بكل القوانين، و ذلك يتضمن تلك التي تم تمريرها رغم معارضته، و هو بالمحصلة يقر حتى بالقوانين التي تعاقبه حال تجرؤه لخرق أي منها. الإرادة النافذة لكل أفراد الدولة هي الإرادة العامة؛ و بفضلها هم مواطنون و أحرار. عندما، في الجمعيات العمومية، يتم إقتراح قانون ما، فإن السؤال للشعب هو ليس إن كانوا يوافقون أو يرفضون المقترح، بل إن كان المقترح متوافقا مع الإرادة العامة، التي هي إرادتهم. كل فرد، عبر تصويته، يوضح رأيه في الموضوع، رأيه حول ما هي الإرادة العامة؛ و الإرادة العامة هي نتيجة عد الأصوات. يتبع من ذلك أنه عندما ينتصر الرأي الآخر، فإن ذلك يثبت أنني كنت مخطئا، ليس أكثر من ذلك و لا أقل، و أن ما ظننت أنه الإرادة العامة لم يكن كذلك. و إذا ما تم إقرار رأيي في ذلك اليوم فإن ذلك سيعني أنني حققت عكس إرادتي؛ و في هذه الحالة فإنني لم أكن حرا. [[14]    
المفارقة "الشمولية" هنا هي في الدائرة المغلقة بين "المؤسس" و "العملي": عبر رؤية عملية التصويت ليس كإجراء تقرير عملي، بل كإجراء تأسيس، كإجراء تعبير عن رأينا في ما هي الإرادة العامة (أو توقعها)، و التي بدورها تتحول لشيء (سابق لعملية التصويت)، فإنه يتفادى الورطة المتمثلة في حقوق أولئك الذين يمثلون الأقلية (عليهم أن ينصاعوا لقرار الأغلبية، لأنهم بفضل عملية التصويت قد أدركوا ما هي فعليا الإرادة العامة). بكلمات أخرى، إن الأقلية هي ليست مجرد أقلية: في معرفتهم بنتائج التصويت (التي تسير في عكس تصويتهم الفردي)، هم لم يعرفوا فقط أنهم أقلية – ما عرفوه هو أنهم كانوا "مخطئين" حول ما هي الإرادة العامة.
التشابه بين هذا التشيئ للإرادة العامة و بين الفكرة الدينية حول "الحتمية" لا يمكن أن تخطئه العين: في حالة الحتمية، فإن القدر يتم تشيئه بصفته قرارا يسبق العملية نفسها، بحيث أن فعل الأفراد لن يكون إتخاذ القرار العملي الذي يحدد قدرهم، بل هو مجرد إكتشاف (أو توقع) قدر الواحد المحدد مسبقا. ما يتم تغبيشه في كلا الحالتين هو التحرك الجدلي في الإتجاه المعاكس، عندما يتحول العارض إلى ضرورة/إلزام؛ بمعنى، كيف أن منتج العملية العارضة (أو قل العملية غير المحددة سلفا) هو الشكل الذي تظهر عبره الضرورة: الأشياء بشكل إرتجاعي "كانت سوف تكون  - Will Have Been" ضرورية. هذا الإنعكاس شرحه جان بيير دوبوي:

] الحدث الكارثي هو شيء متضمن في المستقبل كقدر، بالتأكيد، و لكن أيضا كحادث عارض: كان يمكنه أن لا يقع، حتى و إن، في المستقبل، ظهر كضرورة. /.../ إذا وقع حدث عظيم، كارثة مثلا، فإنه ليس من الممكن القول بأنه كان يمكن أن لا يقع؛ و لكن، و بينما هو لم يقع فعلا، فإنه ليس غير قابل للتفادي. هذا يعني أن تحقق الحدث – حقيقة أن الحدث قد وقع فعلا – هو ما يصنع إرتجاعيا ضرورته. [[15]

يضرب دوبوي مثالا بالانتخابات الرئاسية الفرنسية في ١٩٩٥؛ لنقرأ ما كتب في يناير حول نتائج أقتراعات الرأي قبل الانتخابات: "إذا، في الثامن من مايو، تم إنتخاب السيد بالادور، سيكون من الممكن للواحد القول بأن الانتخابات كانت قد حسمت حتى قبل أن تفتتح صناديق الإقتراع." إذا وقع – عرضا- حدث ما، فإنه يكون إرتجاعيا سلسلة الأسباب التي تجعله يبدو حتميا: "هذا"، و ليس الفكرة الشائعة حول أن الضرورة هي الأرضية التي تعبر عن نفسها في في الأحداث العارضة ظاهريا، هو بإختصار الجدل الهيغلي للعارض و الضرورة. نفس الأمر ينطبق على ثورة أكتوبر ( حالما إنتصر البلشفيون و إستقر لهم الأمر، ظهر إنتصارهم كنتجة و تعبير عن ضرورة تاريخية عميقة)، حتى إنتصار جورج بوش (الذي حدث بعد لغط إنتخابي كبير حسم عبر أصوات ولاية فلوريدا) ظهر إرتجاعيا كتعبير عن توجه سياسي أمريكي عميق. بهذا المعنى، فإننا حتى و إن كنا محكومين بالقدر، فإننا أحرار لنختار ذلك القدر. و ذلك، بالنسبة لدوبوي، يجب أن يكون مسلكنا في رؤية مسألة البيئة: ليس عبر الأخذ "الواقعي" للكارثة كإحتمال، بل عبر قبولها "كقدر" بالمعنى الهيغلي للكلمة: مثل إنتخاب بالادور، "إذا تحققت الكارثة، فإنه بإمكان الواحد القول بأن تحققها قد حسم قبل أن تحدث." القدر و الفعل الحر (حتى نتخلص من ال "إذا") هما إذن رفيقان يسيران كتفا بكتف: الحرية بمعناها الأكثر جذرية، هي حرية الفرد في تغيير قدره[16]. هذا يعيدنا مجددا للسؤال الرئيسي: كيف ستبدو السياسات اليعقوبية التي تأخذ في الإعتبار هذا الظهور الإستجاعي-العارض للمطلق؟ كيف سيمكننا أن نعيد اختراع الإرهاب اليعقوبي؟
مُثل التحليل النفسي[17]، تسمي "منظور الحكم الأخير"، المنظور الذي يمكن رؤيته، و بوضوح أكبر، في أحد أهم مصطلحات الخطاب الاستاليني، "الذنب الموضوعي" و "المعنى الموضوعي" لأفعالك: بينما يمكن أن تكون شخصا شريفا تصرف حسب نوايا حسنة، أنت، مع ذلك، "مذنب موضوعيا،" إن كانت أفعالك ستخدم القوى الرجعية – و بالطبع فإن "الحزب" هو صاحب الحق في تحديد ماذا تعني أفعالك "موضوعيا." هنا نحن لا نجد فقط منظور "الحكم الأخير" (الذي يرسم المعنى الموضوعي للأفعال)، بل أيضا الفاعل الذي يمتلك القدرة الفريدة على الحكم على الأحداث و الأفعال من هذا المنظور[18].

نستطيع الآن أن نرى كيف أن الشعار اللاكاني "ليس هنالك آخر كبير" يوصلنا إلى منتهى المشكلة الأخلاقية: ما يمنعه الشعار هو تحديدا منظور "الحكم الأخير،" الفكرة القائلة بأنه في مكان ما – حتى و إن كان في نقطة مرجعية خيالية تماما، حتى و إن كنا نعترف أنه ليس بإمكاننا أن نرى الواقع من تلك النقطة فعليا – يجب أن يكون هنالك مرجعية تتيح لنا أن نقيس أفعالنا عليها و أن نسمي "معناها الحقيقي،" موقفها الأخلاقي النهائي. حتى فكرة جاك دريدا عن ال "التفكيك كعدالة" تبدو و كأنها تعتمد على أمل يوتوبي مبني على طيف ال "العدالة اللانهائية،" المتأجلة دائما، تأخذ دائما وضع ما سيأتي يوما، و لكنها مع ذلك موجودة هنا بصفتها الأفق النهائي لأفعالنا. لاكان نفسه أشار إلى المخرج من هذه الورطة عبر إستعماله لفلسفة كانت بصفتها المصدر الأهم لمُثُل التحليل النفسي. في ذاتها، تشتمل فلسفة كانت على إمكانية "إرهابية" – فرضية كانت المعروفة - القائلة بأن المنطق بلا بديهة مفرغ، بينما البديهة بلا منطق عمياء - يمكن أن تشير في هذاالإتجاه: أليس مقابلها السياسي هو شعار روبيبيير، المصلحة بلا عنف عاجزة، بينما العنف بلا مصلحة مدمر، يضرب بلا بصيرة؟

حسب النقد الشائع، فإن ما يعيب المُثُل الكانتوية المطلقة و التي يمثلها "الأمر العام Categorical Imperative" (الأمر غير المشروط القائل بأن علي أن أقوم بواجبي) ما يعيبها هو أن هذا الأمر هو أمر مفرغ: القانون الأخلاقي لا يخبرني ما هو واجبي، هو يخبرني فقط أن علي أن أنجز واجبي، و بذلك يفتح المجال أمام تطوعي بملأ الفراغ (أي كان ما سأختار أن يكون واجبي، هو واجبي). و لكن بدلا من أن يعيب ذلك المنطق الكانتوي فإنه بالعكس يقودنا إلى جوهر المُثُل الكانتية في إستقلاليتها: من المستحيل أن أستنتج الفعل الطبيعي – الفعل الصحيح الذي يتوجب علي إتباعه في موقف معين- من القانون الأخلاقي نفسه؛ ما يعني أن على الفرد نفسه أن يتقبل مسؤولية تحويل الأمر المجرد للقانون الأخلاقي إلى سلسلة من الإلتزامات العملية. القبول الكامل بهذه المفارقة يجبرنا على رفض أي إعتبار للواجب نفسه كتبرير: "أعلم أنه شيء ثقيل و قد يكون مؤلما، و لكن ما بيدي حيلة، إنه واجبي..،" أخلاق كانت، أخلاق الواجب غير المشروط، تفهم أحيانا كتبرير لمثل هذا المنطق – لا عجب أن أدولف أيكمان نفسه أشار إلى الأخلاق الكانتية عندما حاول تبرير دوره في التخطيط و تنفيذ مذبحة الهولوكوست: هو كان يؤدي واجبه فقط و يطيع أوامر هتلر. و لكن هدف كانت من تركيزه على الاستقلالية الأخلاقية الكاملة للذات، و على مسؤوليتها، هو تحديدا ليمنع أي مناورة كهذه تهدف لوضع اللوم على أحد أشكال "الآخر الكبير."
الشعار الأخلاقي التقليدي هو: "ليس هنالك مبرر لعدم أداء الواحد منا للواجب!" على الرغم من أن شعار كانت المعروف، "تستطيع أن تنجز الفعل، لأنه عليك أن تنجزه!" قد يبدو و كأنه تنويعة أخرى لنفس الشعار، إلا أن كانت يرفقه، ضمنيا، بالنسخة الأكثر غرابة منه: "ليس هنالك مبرر لأداء الواحد منا لواجبه!" ذكر الواجب نفسه كتبرير لفعلي لواجبي يجب أن يرفض كنوع من النفاق. تذكر مثلا الأستاذ السادي القاسي، الذي يعرض تلاميذه لصرامته بلا رحمة؛ تبريره لنفسه و للآخرين هو: " أنا نفسي أجد صعوبة في تعريض تلاميذي المساكين لهذه الضغوط، لكن ما باليد حيلة – إنه واجبي!" هذا ما تمنعه مُثُل التحليل النفسي جملة و تفصيلا: في هذه المُثُل، فأنا مسؤول بالكامل على أداء واجبي، و لكن أكثر من ذلك فأنا مسؤول عن تقرير "ما هو" واجبي.
في نفس السياق، فإن لينين، في كتاباته عام ١٩١٧، إحتفظ بأكثر تهكمه حدة ليوجهه نحو أولئك الذين كانوا يبحثون بشكل لا نهائي عن نوع من "المرجعية/الضمانة" للثورة؛ هذه المرجعية تأخذ شكلين: إما فكرة الحتمية الاجتماعية في شكلها المتصلب (علينا أن لا نخاطر بالثورة قبل ميعادها، علينا أن ننتظر اللحظة المناسبة، عندما "تنضج" الظروف الاجتماعية و تتحقق شروط التقدم التاريخية: "إنه من المبكر القيام بثورة إشتراكية، الطبقة العاملة لم يشتد عودها بعد") أو الشرعية الإعتديادية "الديمقراطية" ("غالبية الشعب ليست إلى جانبنا، و عليه فإن الثورة لن تكون ديمقراطية فعلا") – كما قال لينين مرارا، فإنه و لكأن الأمر هو أننا، و قبل أن نخاطر بإنتزاع سلطة الدولة، فعلينا أن نحصل على موافقة أحد أشكال "الآخر الكبير" (تنظيم إستفتاء نضمن من خلاله أن الأغلبية مع الثورة). بالنسبة للينين، مثلما هو بالنسبة للاكان، فإن الثورة "تمنح الشرعية لنفسها بنفسها": على الواحد أن يقبل أن "فعله" الثوري غير مغطى بشرعية الآخر الكبير – إن الخوف من الوصول للسلطة "قبل الميعاد،" إن البحث عن ضمانة ما و عن شرعية ما، هو الخوف من حقيقة أن "الفعل" في الحقيقة ليس له سند، "الفعل" يقف دائما على عدم سحيق.

وحده موقف راديكالي كهذا سيسمح لنا بأن نخترق و نغير نمط السياسة المطروح اليوم بصفته النمط الوحيد الممكن، و هو نمط ما-بعد-السياسة، أو ما أسماه فوكو بالبايو-بوليتكس Bio-Politics، و التي هي سياسة الخوف، تكونت كنوع من الدفاع عن الوقوع في موقف الضحية. و عليه فهنا يقع الخط الفاصل بين سياسات التحرر الراديكالية و نمط السياسة -سياسة الحفاظ على الواقع الراهن- السائد: الفرق هو ليس بين رويئتين إيجابيتين، مجموعتين من المسلمات، بل هو بين السياسة التي تستند على مجموعة صلبة من المسلمات/المبادئ و سياسة تنكر أهم أبعاد السياسة نفسها، حيث أنها تلجأ للخوف بصفته المبدأ المحرك لها: الخوف من المهاجرين، الخوف من الجريمة، الخوف من التمرغ اللاديني في اللذة، الخوف من التدخل الزائد للدولة نفسها (بضرائبها العالية)، الخوف من الكوارث البيئية – هذه السياسة (أو ما بعد السياسة) ستعتمد دائما على الحشود المخيفة، للرجال الخائفين. و لذلك فإن الحدث المهم، و ليس في أوروبا وحدها، كان في بدايات عام ٢٠٠٦، عندما تحولت سياسات معاداة المهاجرين إلى النمط الرئيسي Mainstream: تم أخيرا فصل الحبل السري الذي يربط هذه السياسات باليمين المتطرف. من ألمانيا إلى فرنسا، مرورا بهولندا و النمسا، فإن الروح الجديدة الممتلئة بروح الفخر بالهوية القومية، أصبحت التوجه العام للأحزاب الرئيسية، حيث يبدو مقبولا التركيز على أن المهاجرين هم ضيوف، و بالتالي عليهم أن يتأقلموا مع المعايير الثقافية التي يمليها المجتمع المضيف – "إنها بلادنا، Love it or Leave it!."

كيف يمكننا إتمام القطيعة مع هذا ال "ما بعد" سياسة، المبنية على الخوف؟ إن الإدارة البايو-سياسية (التي تهدف إلى تنظيم الفرد، تنظيم حياته، في شكلها البايولوجي) هي المضمون الحقيقي لليبرالية الديمقراطية، و هذا يجعلنا نرى الشد/التناقض بين الشكل الديمقراطي و المضمون التنظيمي-الضابط. ما هي، إذن، السياسة المعاكسة للبايو-سياسة؟ ماذا إن قررنا المخاطرة بنبش المصطلح القديم، "ديكتاتورية البروليتاريا،" من قبره المجيد، بصفته الطريق الوحيد المفضي للقطيعة مع البايو-سياسة؟ ذلك لا يمكن له إلا أن يبدو مضحكا اليوم، المصطلحان لا يمكن إلا أن يظهرا كشيئين غير متوافقين ينتميان لحقلين متباينين، بلا منطقة وسط: الأخير قادم من "تحليلات القوة" الما بعد حداثية، ضد شيء منتمي لميثولوجيا الشيوعية التي تم دحضها منذ فترة طويلة... لكن عذرا: هذا هو الخيار الوحيد الحقيقي اليوم. التعبير "ديكتاتورية البروليتارية" يستمر في وضع يده على المشكلة المفتاحية.

اعتراض شائع يظهر هنا: لماذا ديكتاتورية؟ لماذا لا نقول الديمقراطية الحقيقية، أو ببساطة قوة البروليتاريا؟ "ديكتاتورية" لا تعني ضد الديمقراطية، بل تعني الديمقراطية في جوهرها، الشكل الأساسي التي تعمل به الديمقراطية – منذ البداية، كانت الفرضية حول "ديكتاتورية البروليتاريا" تتضمن فكرة أنها الضد من شكل آخر من "أشكال" الديكتاتورية، بما أن كل مجال القوة السياسية هو مجال ديكتاتوري. عندما عبر لينين عن الديمقراطية الليبرالية بصفتها شكلا من ديكتاتورية البرجوازية، فإنه لم يعن الفكرة التبسيطية القائلة بأنه فيها يتم التلاعب فعليا بالديمقراطية، تحويلها لمجرد قناع، و حال ما تشعر الجهة السرية التي تسيطر فعلا على مجرى الأمور، بخطر فقدان القوة في انتخابات عامة، فإنها ستظهر وجهها الحقيقي و ستلجأ للسيطرة على الدولة بشكل مباشر. ما عناه لينين هو أن "شكل" الدولة الديمقراطية-البرجوازية نفسه، السيادة الفعلية لقوتها في صورة سيادة إفتراضاتها الأيديولوجية-السياسة، ذلك "الشكل" يجسد المنطق البرجوازي.
على الواحد إذن أن يستعمل المصطلح "ديكتاتورية" بالمعنى الدقيق المشير إلى أن الديمقراطية نفسها هي نوع من الديكتاتورية، بمعنى، بصفته المحدد الهيكلي (ما يعنيه جيجاك هنا هو أن المضمون الديمقراطي، للديمقراطية-الليبرالية، يحكمه شكل خارجي ديكتاتوري، في الدول الديمقراطية هنالك دائما قوانين خارجية تحكم اللعبة الديمقراطية نفسها، و في تلك القوانين الخارجية تضمن البرجوازية أن الديمقراطية لن تؤدي لإلغاء حق الملكية الفردية مثلا، أو لن تؤدي لتوسع التنظيمات العمالية بحيث يفقد رأس المال قدرته على إخضاعهم لمنطق السوق..إلخ. المترجم). يريد الواحد هنا أن يلاحظ كيف أن التساؤل الذاتي هو جزء أصيل من الديمقراطية، كيف تسمح الديمقراطية، بل و تشجع، على التساؤل و الشك حول خصائصها. مع ذلك، هذا التحقيق الذاتي يجب أن يتوقف في لحظة ما: حتى أكثر الانتخابات "نزاهة" لا يمكنها أن تضع كمحل تساؤل القوانين التي تنظم و تعطي شرعية لعملية الإقتراع، أو لآلة الدولة التي تضمن (بالقوة، إن تطلب الأمر) عملية الإقتراع.. إلخ. "الدولة" في شكلها المؤسساتي هي وجود طاغ لا يمكن التعبير عنه بمقاييس التمثيل، لصالح أي فئة من الفئات المتصارحة إنتخابيا تعمل الدولة "حتى في حيادها الكامل"؟ – الوهم الديمقراطي هو في تخيل أن ذلك التعبير ممكن. باديو نظّر لهذا الزائد في الحضور التلقائي للدولة (وجودها كحقيقة مادية بغض النظر عن إنحيازها أو محايدتها)، بصفته الشيء الذي يظهر كزيادة من عملية "تمثيل" الدولة لأولئك الذين "تمثلهم"؛ يمكن للواحد أن يضعها أيضا بمصطلحات بينجامين: بينما يمكن للديمقراطية أن تلغي إلى حد ما العنف الدائم، إلا أنها مع ذلك تعتمد بشكل دائم على العنف المُؤسِس. (يعتمد جيجاك هنا على كتابات وولتر بينجامين، الذي يميز بين العنف المستمر، القائم Constituted، الذي يميز المجتمعات البدائية، أو مجتمعات ما قبل الدولة، و بين العنف المُؤسِس للدولة نفسها، و هو عنف أشد حدة بكثير من الأول، و لذلك فهو يلغي المقاومة و لا يحتاج لأن يظهر بشكل مستمر، فكر فقط كيف أن النظام الدولي في إستقراره قد بني على عنف غير معقول هو القنبلة النووية. أو حتى فكر في العنف الداخلي المؤسس للدولة و الذي يظهر في قدرة الشرطة و الجيش و البوليس السري على تدمير عدد لا نهائي من الحيوات، حالما تجرأت على تهديد القانون. هذا العنف يعمل فقط في حال كان من القوة بحيث لا يجرب الكثير من المواطنين على وضعه تحت الإختبار. هو عنف تأسيسي بمعنى أن يعمل فقط عندما لا يكون هنالك حاجة له. غالبا هو يظهر مرة واحدة، في البداية السحيقة، فكر في قنبلتي هيروشيما و نجازاكي، أو في العنف السياسي الأولي في لحظة إنقلاب هاشم العطا و إنقلاب نميري المضاد، ربما تلك كانت لحظة إعادة تشكل الدولة السودانية "شبه البرجوازية" بعد زعزعة ثورة أكتوبر لها، ع ع إبراهيم لديه فرضية قائلة بأن السودان هو صنيعة شيوعية، ربما يمكن فهم فرضيته في هذا السياق).

تذكر الدرس الهيغلي عن "المطلق الواقعي – Concrete Universality" – تخيل تناظرا فلسفيا بين أحد التفكيكيين، الهيرمانوطيقيين، و أحد الفلاسفة التحليليين. ما سيكتشفه كلاهما، عاجلا أم آجلا، هو أنهما لا يشغلان موقعين داخل مساحة واحدة مشتركة تسمى "فلسفة": ما يفرقهما هو تعريفهما للفلسفة في ذاتها، بمعنى، ما يحدث هو أن الفيلسوف التحليلي يدرك المجال العام للفلسفة و الإختلافات الممكنة بين الفاعلين داخله بشكل مختلف عن محاوره  التفكيكي: ما هو مختلف بينهم هو الإختلاف نفسه، و هو ما يجعل الإختلافات الحقيقية بينهما غير مرئية في أول الأمر – منطق الفصل التدريجي "هذا ما نتشاركه، و هنا تبدأ أختلافاتنا" سينهار في هذه الحالة. بالنسبة للفيلسوف التحليلي، المختص في علوم العقل Cognitive Sciences - العلوم التي أحدثت نقلة معينة – فإن الفلسفة قد وصلت أخيرا إلى النضج الذي يتيح فرصة التفكير الجاد، و يترك خلفة التخمينات الميتافيزيقية. بالنسبة للتفكيكي، على الجانب الآخر، فإن الفلسفة التحليلية هي نهاية الفلسفة، هي الفقد الأخير للموقف الفلسفي الحقيقي، هي تحول الفلسفة إلى مجرد علم إيجابي آخر. و عليه فإنه عندما يصل المتحاوران إلى نهاية الطريق المسدود، النهاية التي تفرضها الفجوة التأسيسية التي تفصلهما، فإنهما سيواجهان لحظة من "الديكتاتورية". و، بشكل مماثل، فإن نفس الأمر ينطبق على الديمقراطية السياسية: بعدها الديكتاتوري يصبح ملموسا عندما يتحول الصراع إلى صراع حول مجال الصراع نفسه.

ماذا عن البروليتاري إذن؟ طالما كان البروليتاري، في داخل مجال إجتماعي ما، هو الجزء "المنفلت من عقاله"، المكون الذي، و بينما هو جزء هيكلي من المجال، إلا أن ليس له أي مكان محدد بداخله، هو "جزء اللا-جزء part of no part" الذي يمثل المطلق، "ديكتاتورية البروليتاريا" تعني: التمكين المباشر للمطلق، بحيث أن أولئك الجزء الذي لا مكان له، الفصيل خارج الفصائل، the part of no part، سيحدد الرتم. البروليتاري هو تحرري، إيغاليتاري، كوني/حامل للمطلق Universalist لأسباب هيكلية/شكلية تماما: بصفته في نفس الوقت جزءا من المجتمع و لكن بلا موقع محدد، هو يفتقد للصفات التي كان لها أن تعطيه شرعية شغل موقع بعينه في الجسد الاجتماعي – هو ينتمي لمجموعة المجتمع (حسب التعبير الرياضي) بدون الإنتماء لأي مجموعة تابعة sub-set؛ و لذلك، فإن إنتماءه هو إنتماء كوني، مطلق. هنا، فإن منطق تمثيل المصالح الجزئية المختلفة و الوصول الجدلي إلى مساومة بينها يصل إلى حدوده؛ كل ديكتاتورية هي قطيعة مع منطق التمثيل هذا (و لذلك فإن التعريف التبسيطي للفاشية على أنها ديكتاتورية القطاعات صاحبة الرأسمال النقدي هو تعريف خاطيء: عرِف ماركس سابقا أن نابليون الثالث، ذلك الفاشي، قد مارس كذلك القطيعة مع هذا المنطق التمثيلي). على الواحد إذن أن يزيل الغبش تماما عن "البقرة المقدسة" التي هي "ديكتاتورية البروليتاريا": في شكلها الأكثر بساطة، هي تشير إلى لحظة البأس عندما تتجمد الحلقات المعقدة للتمثيل السياسي نتيجة لإقتحام المطلق للمجال السياسي مباشرة. عندما يتعلق الأمر بالثورة الفرنسية، فإنه تجدر الإشارة إلى أن دانتون، "و ليس" روبيسبيير، هو من أوجد الوصفة الأكثر إختصارا للتحول الخفي من "ديكتاتورية البروليتاريا" إلى عنف الدولة، أو، بتعبيرات بينجامين، من العنف المقدس إلى العنف الوثني: "دعونا نكون فظيعين، حتى لا يحتاج الشعب لأن يكون فظيعا." بالنسبة لدانتون، فإن عنف اليعقوبيين الثوري هو نوع من الضربة الإستباقية، التي تهدف ليس للإنتقام من الأعداء، بل لأن تمنع العنف المقدس للسان كالوتيس[19]، أو للشعب ذات نفسه. بمعنى أخر، دعنا ننجز المهمة التي يطالبنا الشعب بها، يريدنا الشعب أن نفعلها حتى لا يضطر هو لفعلها بنفسه...

بإستصحاب الأغريق القدماء، فإنه لدينا إسم محدد لمثل هذا الإقتحام: الديمقراطية. هذا كأن نقول، ما هي الديمقراطية في أقصى بساطتها؟ هي ظاهرة، حدثت لأول مرة، في اليونان القديمة حيث قام أفراد الديموس (أولئك الذين ليس لهم موقع محدد في التراتبية الاجتماعية) ليس فقط بالمطالبة بأن يسمع صوتهم ضد أصحاب القوة. هم لم يحتجوا فقط على الظلم الذي تعرضوا له و أرادوا لأصواتهم أن تحترم و أن يتم إعتبارها داخل الإطار العام، على قدم المساواة مع الحكام من الأوليغارية و الأرستقراطية؛ بل أكثر من ذلك، هم، المبعدون، أولئك الذين ليس لهم موقع ثابت داخل الفضاء الاجتماعي، مثلوا نفسهم بصفتهم التجسيد للمجتمع بأكمله، التجسيد للمطلق للحق: (نحن – اللاشيء، غير المحسوبون و الذين لا إعتبار لنا في داخل المنظومة – نحن الشعب، نحن "الكل" ضد "الأخرين" الذين يمثلون فقط مصالحهم المحددة الضيقة). السجال السياسي الحقيقي يظهر التوتر بين الهيكل الاجتماعي المنظم، حيث لكل مكانه، و بين "جزء اللا-جزء" الذي يخلخل ذلك الهيكل عبر المبدأ المفرغ للمطلق، المبدأ الذي سماه إيتين باليبار ال Egaliberte، المساواة المبدئية لجميع البشر بصفتهم كائنات ناطقة – يصل هذا الطريق إلى ال ليومانغ، "السفاحون/قطاع الطرق"، في الصين اليوم، أولئك المشردون، الذين يجولون بصورة عشوائية، بلا عمل أو مسكن، و بلا هوية (أو إحصاء و تسجيل رسمي) ثقافية و لا جنسية.

(تعقيب من المترجم: ماذا إن تحولت رؤيتنا للشماسة من "الشفقة" و هي مجال الحساسية النرجسية، إلى الرؤية الوحشية النظرية، حيث يمثل الشماسي في النظرية أكثر ما يمثله في الواقع من مجرد البؤس، في النظرية يمثل الشماسي التجسد العملي لموقع ثوري معين تبنى على أساسية رؤية كاملة للمجتمع. هذه الرؤية تحرر الشماسي، تجعله شيئا أكثر من مجرد متلقي للرحمة، و لكنها أيضا تخيف البرجوازية الصغيرة، من هذا المنظور فإن الحقيقة ذات نفسها تصبح قابلة للرؤية، حقيقة المجتمع، و بالتالي فإنه في خلال صراع على هذه الأسس (العنف بين الكتلة الديمقراطية و شبكات المصلحة الضيقة التي تشغلها البرجوازية) ستتحول البرجوازية الصغيرة من الشفقة على / إلى العنف ضد الشماسي نفسه، العنف الذي يمنح الشماسي من الإنسانية أكثر مما تمنحه الشفقة، فعليا في هذا الإطار فقط يسترد الشماسي إنتسانيته. نفس الأمر بالنسبة "لأطفال المايقوما" من موقعهم كجزء اللاجزء هم يمثلون حقيقة إجتماعية معينة، حقيقة "الشيء المقرف" في قاع الصورة المتدينة للمجتمع. هذه الفئات هي ليس محل الشفقة، و ليست بالضرورة الطبقة التي ستقود الثورة، هم مجرد بشر عاديون قد يكونوا مع الثورة أو ضدها، قيمتهم النظرية هي في موقعهم ذات نفسه، من موقعهم يمكنك أن ترى الجميع، أصحاب المكانة و المال ..إلخ، كمواضيع للشفقة. الشفقة التي هي بتعبيرات روبيسبيير، في نفس الوقت، العنف. إنتهى).

هذا التعريف للجزء من المجتمع، الذي ليس له مكان محدد بداخل المجتمع (أو الذي يرفض أن يوضع كتابع في أي مكان)، بصفته "كل شيء" هو الإجراء الأساسي لعملية التسييس، العملية التي يمكن أن ترى في كل الأحداث الديمقراطية العظيمة من الثورة الفرنسية ( التي خلالها أعلنت "الدولة الثالثة" أنها هي "الأمة" ذات نفسها، ضد الأرستقراطية و رجال الدين) إلى أن نصل إلى إضمحلال الإشتراكية في أوروبا الشرقية (و التي قامت خلالها جمعيات المنشقين بإعلان نفسها ممثلة لكامل المجتمع ضد "الحزب" و لجانه المركزية). بهذا المعنى تحديدا، فإن السياسة و الديمقراطية هما إسمان لنفس الشيء: الهدف الأساسي للسياسات غير الديمقراطية هو دائما و بالتعريف أن تمنع التسييس، مطلبها هو "يجب أن تعود الأشياء إلى طبيعتها،" حيث يلتزم كل فرد بوظيفته المحددة. و هذا يأتي بنا إلى النتيجة المفارقة التي لا يمكن تجنبها: "ديكتاتورية البروليتاريا" هو الأسم الآخر لعنف التفجر الديمقراطي نفسه. "ديكتاتورية البروليتاريا" هي إذن مستوى الصفر الذي فيه يُرفع/يختفي الفرق بين عنف الدولة المشروع و غير المشروع، بمعنى، الذي فيه فإن عنف الدولة "في ذاته" يكون غير مشروعا. ساينت جست في نوفمبر ١٧٩٢ قال: "كل ملك هو متمرد و مغصب غير مشروع للعرش" هذه الجملة هي حجر زاوية بالنسبة للسياسات التحررية: ليس هنالك ملك "شرعي" هو عكس المغتصب للعرش، أن تكون ملكا هو في حد ذاته إغتصاب للعرش، بنفس المعنى الذي جعل الملكية الفردية نفسها، بالنسبة للسياسي الأناركي الفرنسي برودون، سرقة. ما بين يدينا هنا هو "سالب السالب Negation of the Negation" الهيغلي، العبور من السالب المباشر البسيط ("هذا الملك ليس شرعيا، هو معتصب للعرش") إلى السلبية-الذاتية المتضمنة في الشيء نفسه ("الملك الشرعي" هو مصطلح متناقض، أن تكون ملكا "هو" أن تكون مغتصبا للعرش). و لذلك فإنه، بالنسبة لروبيسبيير، فمحاكمة الملك هي ليس محاكمة إطلاقا:

] ليس هنالك محاكمة لتقام هنا. لويس ليس متهما. أنتم لستم قضاة. بالتأكيد لستم، ليس بإمكانكم أن تكونوا سوى رجال دولة و ممثلين للشعب. ليس لكم أي حكم، مع أو ضد الرجل، لتلقوه، إلا أن يكون إجراءا للخلاص العام لتجروه، نوعا من العناية بالأمة ستقوموا به. /.../ لويس كان ملكا، و الجمهورية تأسست: إن السؤال الشهير الذي تفكرون فيه قد حسم بهذه الكلمات وحدها. لقد تم تجريد لويس من عرشه و ذلك عبر جرائمه؛ إعتبر لويس أن الشعب الفرنسي متمرد؛ و ليعاقبه، دعى أصدقائه من الطغاة لرفع السلاح في وجهه؛ النصر و الشعب قررا أنه هو المتمرد: لذلك لويس لا يمكن محاكمته؛ إما أن يدان هو و إلا فالثورة هي المدانة. إقتراح محاكمة لويس، بأي وسيلة كانت، سوف يعيدنا إلى نوع من الطغيان الملكي أو الدستوري؛ إنها فكرة ثورية مضادة، لأنها تعني وضع الثورة نفسها في محل التساؤل. في الحقيقة، إن كان يمكن محاكمة لويس، يتبع من ذلك أنه يمكن تبرئته؛ من الممكن أن يكون بريئا؛ ما الذي أقوله! هو بريء حتى تثبت إدانته. و لكن إن تمت تبرئة لويس، إن كان من الممكن إعتباره بريئا، ما ستكونه الثورة حينها؟ [

هذا الترابط الغريب بين الديمقراطية و الديكتاتورية مبني على التوتر الذي يقطع داخل فكرة الديمقراطية في ذاتها. ما أسماه شانتال موفي "تناقض الديمقراطية" يعكس بشكل شبه كامل التناقض الأساسي للفاشية التسلطية: إذا كان رهان الديمقراطية (المؤسسية) هو في لم شمل الصراع بين الأضداد نفسه في داخل المجال المؤسسي، تحويلها إلى علاقة سلمية منضبطة، فإن الفاشية تتحرك في الإتجاه المضاد. بينما تجلب الفاشية، في شكل حركتها، المنطق الضدّي إلى نهايته المتطرفة (الحديث عن "الصراع حتى الموت" بينهم و أعداءهم، و الحفاظ الدائم – إن لم يكن تنفيذ – على حد أدنى من التهديد بالعنف خارج المؤسسية، على نوع من "الضغط المباشر من قبل الشعب" الذي لا يلتزم بالقنوات القانونية المعقدة)، إلا أنها تضع كهدف سياسي عكس ذلك تماما، هدفها هو التنظيم التراتبي الصارم للجسد الاجتماعي (لا عجب أن الفاشية تلجأ دائما للمجاز البايولوجي العضوي أو من مجال إدارة الشركات). هذا التناقض يمكن أن يوضّح بصورة جيدة بتعبيرات المواجهة اللاكانية بين "ذات الناطق Subject of enunciation " و "ذات المنطوق (أو المضمون) The Subject of the enunciated": بينما تعترف الديمقراطية بالصراع بين الأضداد كهدف لها (بتعبيرات لاكان: بصفته منطوقها، مضمونها)، حيث يتم تقنين و تنظيم هذه العملية؛ فإن الفاشية، على الجانب الآخر، تحاول أن تفرض هدفها، و هو المجتمع التراتبي المنسجم، عبر وسيلة المعاداة مطلوقة العنان.

بالمثل، إن الالتباس في ما يخص الطبقة الوسطى، ذك التجسيد للتناقض (كما وضعها ماركس سابقا عند تعليقه على برودون)، يظهر بشكل واضح في شكل تعاملها مع السياسة: من جانب، الطبقة الوسطى تقف ضد التسييس – يريد أفرادها أن يحافظوا على أسلوب حياتهم فقط، أن يتركوا ليعملوا و يعيشوا حياتهم في سلام ( و لذلك تميل هذه الطبقة لتأييد الإنقلابات العسكرية التي تعد بإنهاء خطل الحراك السياسي، بحيث يعود كل إلى عمله). أما على الجانب الآخر، فهي – و بصفتها الممثلة للأغلبية الأخلاقية، الأغلبية التي تنتج و تعمل بجد و هي لذلك مهددة – المصدر الرئيسي للحراك القاعدي (في شكل الحراك اليميني الشعبوي – مثلا، في فرنسا اليوم، فإن القوة الوحيدة التي تزتزع الإدارة ما-بعد-السياسية، التكنوقراطية، المتمحورة حول حقوق الإنسان، هي جبهة لو بين الوطنية).

هنالك جانبان أساسيان للديمقراطية لا يمكن اختزالهما: الفرض العنيف للمساواة من قبل أولئك "الزيادة،" جزء اللا-جزء، الذين، و بينما هم جزء من المجال الاجتماعي هيكليا، إلا أنه ليس لهم مكان محدد فيه؛ و عملية الأختيار العام، المقننة نوعا ما، و التي عبرها يتم تحديد من سيقوم بالسيطرة على موقع القوة. كيف يرتبط الجانبان ببعضهما؟ ماذا إن كانت الديمقراطية في معناها الثاني (العملية المقننة لتسجيل "صوت الشعب") هي، في نهاية المدى، دفاع ضد نفسها، ضد الديمقراطية في معنى الدخول العنيف للمنطق التحرري/الإيغاليتاري الذي يزعزع فاعلية التراتبية الاجتماعية، لتحولها إلى جزء من السيرورة الطبيعية للأمور؟
إن الإشكالية إذن هي: كيف يمكن تقنين/مأسسة الإندفاع الديمقراطي الإيغاليتاري العنيف نفسه، كيف نمنعه من الغرق في ديمقراطية المعنى الثاني (العملية المقننة)؟ إن كان لا وسيلة لفعل ذلك، عندها فإن الديمقراطية "الأصيلة" ستبقى لحظة من التفجر اليوتوبي، يليها، اليوم التالي المعروف، اليوم الذي تعود فيه الأمور لطبيعتها.[20]
 الفرضية الأورويلية (نسبة لجورج أورويل) "الديمقراطية هي الرعب" هي إذا "الحكم اللانهائي Infinite Judgement" للديمقراطية، هويتها "التفكّرية/التأملية Speculative" النهائية (الإشارة هنا للمصطلح الهيغلي Speculative Identity، و كما هو الحال مع هيغل فإن اللغة تبدو عاجزة عن إيصال المعنى، يجب كسر عنق اللغة نفسها حتى توصل المعنى الهيغلي الذي هو، في أصالته، لم يكن موجودا فعلا قبل هيغل. ترجمة الكلمة Speculative هي "التخمينية،" و ليس من الغريب أن هذه الترجمة الحرفية، على غرابتها، فيها شيء كثير من الحقيقة، مع ذلك لا يمكن إستعمالها بشكل مباشر. المترجم). هذا البعد يُفقد في فهم كلود ليفورت للديمقراطية بإعتبارها موقع القوة مفرغا من أي محتوى، الفراغ التأسيسي الذي يفصل موقع القوة عن كل من سيحل فيه، بصورة مؤقتة، كمجرد عرض غير دائم. تكمن المفارقة في أن المقدمة الأولية للديمقراطية هي ليس فقط أنه ليس هنالك فاعل له "حق طبيعي" لشغل موقع القوة، و لكن، و بصورة أكثر جذرية، أن "الشعب" نفسه، المصدر الأعلى للسيادة في الديمقراطية، هو في الحقيقة غير موجود ككيان فعلي. بالمعنى الكانتوي، فإننا عندما نقول كلمة "الشعب" في المعنى الديمقراطي، فإننا لا نقصد إلا المصطلح ذي الوظيفة السلبية، وظيفة المصطلح هي فقط أن يوضح حدا معينا: هو يمنع أي فاعل معين من أن يحكم بسيادة كاملة. (الوقت الوحيد الذي "يوجد فيه الشعب فعلا" فهو خلال الانتخابات، و التي هي تحديدا لحظة تخلخل الفضاء الاجتماعي بأكمله – في الانتخابات فإن "الشعب" يتحول مُختزلا إلى تجمع ميكانيكي من الأفراد.) الادعاء بأن "الشعب موجود فعلا" هو المسلمة الأساسية للشمولية، و خطأ الشمولية يتطابق مع الإستعمال الكانتوي المخطئ للمنطق السياسي: "الشعب موجود فعلا" عبر الفاعل السياسي المحدد و الذي بدوره يتحرك و كأنه التجسيد المباشر (و ليس بإعتباره ممثلا فقط) للشعب، لإرادة الشعب (إرادة الحزب الشمولي، و زعيمه، هي إرادة الشعب)، ما يعنيه هذا هو أنه، و بإستعمال "النقد المفارق/المتعالي Transcendental Critique)، فإن هذا الفاعل هو الظاهرة في شكل تجسيدها المباشر "للشيء في ذاته" أو الشعب... التشابه الظاهر بين هذا المعنى للديمقراطية و الفكرة اللاكانية القائلة بلا-إتساق الآخر الكبير تم توضيحه من قبل جاك آلان ميلير، ضمن آخرين:

] هل الديمقراطية نوع من "الدال الأساسي Master Signifier"؟ نعم، بلا أي شك. هي الدال الأساسي الذي يقول بأنه ليس هنالك دال أساسي، على الأقل ليس هنالك دال أساس بمقدوره الوقوف لوحده، كل دال أساسي عليه أن يقرر بحكمة أن يقف ضمن بقية. الديمقراطية هي رمز لاكان Capital S الذي يقف بجانب ال Barred Capital A، ليقول: أنا الدال المشير إلى أن "الآخر Other" به فجوة، أو أنه غير موجودا[ (إنني أعتذر للقاريء غير الملم بتفاصيل التعبير اللاكاني الرياضية، و لكن، إن كان هنالك عزاء في ذلك، فيمكنني أن أحيل القاريء المهتم بفهم مثل هذه التعبيرات إلى محاضرة سلافوي جيجاك في يوتيوب Markets without Substance. المترجم).

بالطبع فإن ميلر مدرك إلى أن "كل" دال أساسي هو في ذاته إقرار بحقيقة أنه ليس هنالك دال أساسي، ليس هنالك آخر بالنسبة ل "الآخر"، ذلك أن نقول أن الآخر هو ناقض دائما، إلخ – الفراغ بين S1 و S2 يحدث بسبب هذا النقص (مثلما هو الأمر بالنسبة للرب عند إسبينوزا، الدال الأساسي هو بالتعريف يملأ الفراغ في داخل السلسلة العادية من الدوال). الفرق هو، في حالة الديمقراطية، فإن هذا النقض هو متضمن بصورة مباشرة في الواقع الاجتماعي، هو مؤسس في شكل مجموعة من الإجراءات و القوانين – لا عجب إذن، أن ميلير يقتبس موافقا من مارسيل غوشيت (الفيلسوف التفكيكي المعروف) قوله بأنه، في الديمقراطية، فإن الحقيقة تطرح نفسها "في داخل التقسيم و التحلل" (و لا يستطيع الواحد إلا أن يشير متهكما إلى أن ستالين و ماو قد دعما نفس الادعاء، و إن كان بلفّة "شمولية": في السياسة، فإن الحقيقة تنبثق فقط عبر الشروخ العنيفة التي يولدها الصراع الطبقي...).

(بإختصار، فإن الدال الأساسي اللاكاني، و هو بالحق أحد أهم التعبيرات التي تجعل الإمساك بالصاع الأيديولوجي أمرا ممكنا، هو الفكرة القائلة بأنه داخل كل سلسة مترابطة من التعبيرات، داخل كل فكرة عامة، فإنه هنالك فراغ ما يجب ملؤه، و هذا الفراغ يملأ عبر "كلمة مفرغة" تربط المجال الأيديولوجي و تجعل الدخول فيه، و الوقوع تحت تأثيره، أمرا ممكنا... خذ مثلا أيديولوجيا المعاداة "للعلمانية" التي روج لها، و بنجاح منقطع النظير، الإسلاميون: ما يعطي هذه الأيديولوجيا فعاليتها ليس سلسلة الأفكار التي تشير إليها (مثلا أن العلمانية سوف تؤدي لمسح الدين من المجتمع، أو أن العلمانية هي كفر حسب القراءة الدقيقة للقرآن و السنة، أو أن العلمانية سوف تؤدي لإنتشار الخلاعة.. إلخ) كل ذلك يمكن مناقشته و توضيح خلله بسهولة.. ما يعطي الأيديولوجيا فعاليتها هو كلمة "العلمانية" نفسها. يمكنك أن تقوم بمحاورة السوداني البسيط و إقناعه بأنك مع حياد الدولة، أو مدنيتها، و أن ذلك لن يؤدي لمنع الدين لأن الدولة المحايدة لن تقف ضد الدين، بل سيؤدي لمنع تسلط رجال الدين (الذين يوافق السوداني على إنتشار النفاق بينهم، أو بين سياسييهم على الأقل).. نفس هذا الشخص و بعد إقتناعه بكلامك، سوف يعود هلعا للعداء معك حالما تخبره بأنك "علماني". في الحقيقة فإن الصراع الأيديولوجي لا يمكنه أن يتجاوز الدال الأساسي إلى تفاصيله، الصراع يبدأ و ينتهي عبر المواجهة مع الدال الأساسي. و لكن ما يشير جيجاك، و ميلر، له هنا هو حقيقة أن الدال الأساسي و حتى يكون فعالا، فهو و لا بد، يجب أن يكون "مفرغا"، كلمة معينة تشرح نفسها بنفسها، هي تشير إلى أنه في الحقيقة ليس هنالك "دال أساسي" و لذلك تحديدا فهي سلة على الفهم، أنت لا تحتاج أن تفهم شيئا معينا حتى تفهمها. المترجم).

من السهل الإشارة إلى أنه، من داخل هذا الفضاء الكانتوي للديمقراطية، فإن الجانب "الإرهابي" للديمقراطية – الفرض الإيغاليتاري العنيف من قبل أولئك "بلا إسم/الزوائد"، جزء اللا-جزء – يمكنه فقط أن يظهر في شكل إنحرافها "الشمولي"، الأمر الذي يعني أن الحد الذي يفصل التفجر الأصيل للعنف الديمقراطي الثوري عن نظام دولة الحزب الشمولي (أو، لنضعها بالمصطلح الرجعي، فإن الحد الذي يفصل "حكم الرعاع المسحوقين" عن القمع العنيف لدولة الحزب "للرعاع") سيختفي. (يمكن المجادلة، بالطبع، بأن الحكم المباشر للرعاع هو بالتعريف غير مستقر، و بالتالي فهو لا محالة متحول إلى عكسه، إلى الإستبداد الموجه نحو الرعاع نفسهم؛ لكن مع ذلك، فإن هذا الإنعكاس لا يغير إطلاقا حقيقة أننا نتعامل مع تحول ما، إنقلاب حذري.) تطرق مشيل فوكو إلى هذا التحول في كتاباته عن الثورة الإيرانية، عندما أجرى المقابلة بين الواقع التاريخي للأحداث الإجتماعية المعقدة، الثقافية منها و السياسية-الاقتصادية.. إلخ، و الحدث السحري للإحتجاج الذي بشكل ما يعطل  الشبكة المعقدة للأسباب التاريخية، و هو بالتالي غير مختزل فيها:

] الفرد في الثورة هو في نهاية الأمر شيء لا يمكن التعبير عنه. لا بد أنه هنالك إفتراق ما يخلخل سيرورة التاريخ و سلسلتها الطويلة من الأسباب. لماذا، بالنسبة للفرد، فإن تفضيلا "حقيقيا" للمخاطرة بالموت يظهر في مواجهة فرصة المواصلة داخل حتمية الطاعة. [

على الواحد أن ينتبه للدلالة الضمنية الكانتوية في هذه الإقتراحات: العمل الثوري هو فعل حر، و هو بطبيعته يعطل وقتيا منظومة السببية التاريخية، و هذا يعني، أنه في الثورة، فإن بُعد "الشيء في ذاته/الحدسي Noumenal" يظهر. المفارقة، بالطبع، هي أن هذا البُعد يلتقي مع عكسه، مع السطح البسيط للظاهرة (جيجاك هنا يشير للفكرة الكانتوية الرئيسية: هيكل الإدراك الإنساني هو عملية إدراك الوعي للظاهرة. نحن لا نستطيع أن نرى الأشياء في ذاتها، ذلك "الحدسي" خلف الظاهرة، نحن "نفترض" وجود ذلك الشيء في خارج إدراكنا، عندما ترى بابا أو طاولة، فإنك لا ترى الطاولة في ذاتها، أنت ترى الظاهرة التي هي الألوان و الأشكال التي يستطيع وعينا أن يراها، الشيء في ذاته هو "الحقيقة" التي لا يرى الوعي فيها إلا الظاهرة، السطح. المترجم): الشيء في ذاته لا يظهر فقط، الشيء في ذاته هو، في ظاهريته، شيء لا يمكن إختزاله في سلسلة الأسباب الواقعية التي أنتجت الظاهرة – بإختصار، الشيء في ذاته هو الظاهرة كظاهرة. (ما يعنيه جيجاك هنا هو أن النمط الذي يظهر عبره الشيء في ذاته هو "ظاهرة" إختفاءه خلف الظاهرة، عندما تتعامل مع شخص مثلا، فإنك تراه أمامك، قل عندما تتعامل مع حبيبتك، فإنه هنالك شيء متبقي خلف "القناع" الذي تراه أنت، ذلك "الفراغ" الذي يظهر، مثلا عندما تتساءل "ما الذي تريده هي فعلا؟ أو ما الذي تفكر فيه هي فعلا"، ذلك الفراغ هو الشيء في ذاته عندما يظهر كظاهرة مجردة. المترجم). هنالك إرتباط واضح بين هذه الصفة التي لا يمكن إخترازلها للظاهرة و فكرة دولوز عن "الحدث" بصفته تدفقا لعملية التكون Becoming، بصفته إنبثاقا على مستوى السطح لا يمكن إختزاله في "جسد" الأسباب. رده على نقاده من المحافظين، الذين إستنكروا التنائج البائسة، و حتى الفظيعة، للإنفجار الثوري، هو أنهم ما زالوا في حالة عمى عن بعد التكون Becoming:
] إن الموضة الشائعة اليوم هي إدانة فظائع الثورة. ذلك ليس بجديد؛ نفذت الرومانتيكية الإنجليزية عبر تحليلاتها ل "كروم ويل" بمثل تحليلات اليوم حول ستالين. هم يقولون أن الثورة تتحول لشيء سيء. و لكنهم في ذلك يخلطون و بإستمرار بين شيئين مختلفين، المنتج التاريخي للثورة و "تكوّن" الشعب في الثورة. إنهما ينتميان إلى مجموعتين مختلفتين من البشر. إن أمل الناس الوحيد هو في التكوّن الثوري: هو وسيلتهم الوحيدة إلى الإنعتاق من الشعور بالذل أو الرد على ما لا يمكن تحمله.[[21]

فوكو هنا هو ديلوزوي عمليا: ما يهمه هو ليس الأحداث في إيران على مستوى تحققها الإجتماعي و تفاعلاتها في الواقع، بل شكلها "المشابه للحدث" في سطحه، الشكل التخيلي ل "شعلة الحياة" في نقائه، و الذي يعبر فقط عن فرادة "الحدث". ما حدث في إيران، خلال التفاعل الذي وقع بين عهدين متباينين من الواقع الاجتماعي، لم يكن إنفجار "الشعب" كوحدة حقيقية لها مجموعة واضحة من الخصائص، بل حدث ظهور "الشعب في تكوّنه". ما يهم هنا إذن، ليس النقلة في علاقات القوة و الهيمنة بين الفاعلين في الواقع، إعادة توزيع السطوة الاجتماعية.. إلخ، بل عملية التعالي/الإفتراق – أو، قل، الإلغاء اللحظي – عن البعد الذي تحدث فيه مثل هذه النقلات، و ذلك عبر ظهور مجال مختلف تماما و هو مجال "الإرادة الجماعية" كحدث نقي يخترق كل الإختلافات، و يحولها لشيء غير ذي قيمة. حدث كهذا ليس جديدا فقط بالنسبة لما سبقه، هو جديد "في ذاته" و بالتالي فهو سيظل جديدا دائما.

على مثل هذه الحلفية يمكن للواحد أن يشكّل نقده ضد "الجماليات السياسية" لجاك رانسيير، لفكرته حول البعد الجمالي للفعل السياسي الحقيقي: التفجر الديمقراطي يعيد تشكيل التراتبية "البوليسية" التي تنظم المساحة الاجتماعية، هي تظهر مسرحيا شكل تنظيم مختلف، شكلا مختلفا من التقسيم للمساحة العامة[22]. في مجتمع اليوم "المسرحي بطبعه،" فإن نوعا كهذا من إعادة التشكيل الجمالي قد فقد قدرته على الهدم، بمعنى أنه سيكون من السهل إعادة تدويره ليصبح جزءا من المنظومة القديمة. المهمة الحقيقية هي ليست في إحداث التفجر الثوري اللحظي الذي يقوّض المنظومة "البوليسية" القائمة، بل في المجال الذي وصفه باديو بأنه "الوفاء" ل "الحدث": كيف يمكن ترجمة/تضمين التفجر الثوري إلى المنظومة "البوليسية"، كيف يمكن فرض منظومة "جديدة" راسخة على الواقع الاجتماعي. "هذا" هي البعد "الإرهابي" الحقيقي لكل تفجر ديمقراطي أصيل: الفرض الصارم للمنظومة الجديدة. و هذا هو السبب وراء المفارقة، حيث يحب الجميع الإحتجاجات الديمقراطية، التفجرات في شكل مشاهد كارنيفالية للإرادة الشعبية، بينما يصاب الكل بالقلق عندما تريد هذه الإرادة أن تبقى، أن تحول نفسها إلى مؤسسات – و كلما كانت الإحتجاجات أصيلة، كلما كانت عملية مأسستها أكثر "إرهابا". إنه في هذا المستوى يجب البحث عن اللحظة الفارقة في العملية الثورية: مثلا، في حالة ثورة أكتوبر، ليس في تفجر عام ١٩١٧- ١٩١٨، و ليس حتى في في الحرب الأهلية التي تلته، بل في التجارب المكثفة في بداية العشرينات، المحاولات (البائسة و أحيانا المضحكة) لإختراع عادات جديدة للحياة اليومية: بماذا يجب إستبدال مراسيم الزواج و الدفن قبل-الثورية؟ كيف يمكن تنظيم العلاقات اليومية في المصنع أو في المباني السكنية؟ إنه على هذا المستوى، مستوى ما يشعر الواحد، خلافا لل"العنف المجرد" للثورات السياسية الكبرى،  بالرغبة لتسميته ب"العنف الحقيقي Concrete Terror"، عملية فرض نظام جديد على الحياة اليومية، على هذا المستوى فإن اليعاقبة، و أيضا الثورة السوفيتية و الصينية، قد فشلوا في المحصلة النهائية – ليس لنقص في المحاولة في هذا الإتجاه، بالتأكيد. كان اليعاقبة في أعلى لحظاتهم ليس في مسرح الإرهاب، بل في التفجرات اليوتوبية للخيال السياسي في ما تعلق بإعادة تنظيم الحياة اليومية: كل شيء حدث حينها، واضحا في فترة النشاط المحموم المتكدسة في عدد قليل من السنين، من عملية التنظيم الذاتي للنساء إلى البيوت العامة التي فتحت لكبار السن ليقضوا فيها أيامهم الأخيرة في سلام و كرامة. (ماذا بالنسبة لمحاولة روبيسبيير، المضحكة، لفرض دين مدني جديد يحتفي ب "المخلوق الأسمى"؟ روبيسبيير نفسه عبر بإقتضاب عن السبب الرئيسي لرفضه للإلحاد: "الإلحاد أرستقراطي."[23] الإلحاد، بالنسبة له، هو إيديولوجيا الأرستقراطيين التهكميين، المتمرغين في التفاهة، الذين فقدوا أي أحساس بالمهمة التاريخية.)
التبعة، غير المريحة، التي علينا أن نقبلها هنا، هي أن أن هذا "الزائد" من الديمقراطية الإيغاليتارية، الزائد على العملية الديمقراطية العادية، يمكن فقط أن يُمأسس نفسه في شكل ضده، في شكل العنف الديمقراطي-الثوري. إذن، مرة أخرى، كيف يمكن إعادة إختراع العنف اليوم؟ في كتابه "منطق العوالم"، فصّل آلان باديو في توضيحه أن لسياسات العدالة الثورية فكرة خالدة، من الصينيين القدماء "ال Legists" عبر اليعاقبة، و إلى لينين و ماو – هي تتكون من أربع لحظات: التطوعية (الإيمان بأنه بإمكان الواحد أن "يحرك الجبال،" متجاهلا "الموضوعات Objects" القوانين، و العوائق)، العنف (الإرادة الصارمة و القاضية بسحق أعداء الشعب)، العدالة الإيغاليتارية (تطبيقها الآني و الصارم، بلا أي إعتبار لل "الظروف المعقدة" و التي يُزعم أنها تجبرنا على التطبيق التدريجي)، و أخيرا و ليس آخرا، الثقة في الناس (يكفي أن نذكر مثالين هنا، أولا هنالك روبيسبيير نفسه، "حقيقته الكبرى": "خاصية الحكومة الشعبية هي في أن تثق في الناس و أن تكون قاسية على نفسها"،  و ثانيا، يمكننا أن نذكر نقد ماو لكتابات ستالين "المشاكل الاقتصادية للإشتراكية في الإتحاد السوفيتي"، و التي يعتبر فيها أن موقف ستالين "إنه موقف يكاد يكون خاطئا بالكامل. الخطأ الأساسي هو عدم الثقة في المزارعين".)[24] الآن، أليس الطريق الوحيد الذي يمكننا من مجابهة خطر الكارثة البيئية التي تلوح في الأفق هو تحديدا خليط من هذه اللحظات الأربع؟ المتطلب فعله هو:

-       العدالة الإيغاليتارية الصارمة (على كل الشعوب أن تدفع نفس الثمن في التنازلات القادمة، بمعنى أنه، علينا أن نفرض نفس القواعد على كامل الكوكب فيما يخص معدلات إستهلاك الفرد الواحد للطاقة، و معدلات إنتاج غاز ثاني أكسيد الكربون، إلخ؛ لا يمكن السماح للأمم المتقدمة بتلويث البيئة بالمعدل الحالي، فيما يتم لوم الدول النامية في العالم الثالث من البرازيل إلى الصين، على تدميرها لمساحة البيئة التي نتشاركها، عبر معدلات تنميتها العالية)؛
-       العنف (العقاب الصارم لكل أولئك الذين سيتجاوزون وسائل الحماية التي تم فرضها، بما يتضمن الحد القاسي من "حرياتهم" الليبرالية، و السيطرة التكنولوجية على خارقي القانون)؛
-       التطوعية (الطريق الوحيد لمواجهة خطر الكارثة البيئية هو عبر القرارات الجماعية على نطاق واسع و التي ستتحرك في الإتجاه المعاكس من المنطق التلقائي لنمط التنمية الرأسمالي الراهن – إن المسألة هنا ليست في دعم الضرورة التاريخية لأن تحقق نفسها، بل في العمل "لإيقاف قطار" التاريخ الذي يسير بثقة نحو الكارثة العالمية؛
-       و، أخيرا، كل ذلك مرفقا مع الثقة في الشعب (الرهان على أن الغالبية الساحقة من الناس سوف تدعم هذه الإجراءات القاسية، أن الغالبية سوف تراها بإعتبارها قرارها الشخصي، و هي مستعدة للمشاركة في عملية فرضها). على الواحد أن لا يخشى من الإقرار، كمزج بين العنف و الثقة في الشعب، بالرغبة في إستعادة أحد رموز العنف الثوري-الإيغاليتاري الشامل، "المخبر"، الذي يشيء بالمتهمين للسلطات. (حدث ذلك في حالة فضيحة "إينرون Enron"، كانت النيويورك تايمز على حق في إحتفاءها "بالمصدر" الذي سرب المعلومات للسلطات بإعتباره بطلا قوميا). [25]

سابقا في بدايات القرن السابع عشر، بعد تأسيس نظام الشوغان، قامت اليابان بإتخاذ القرار الجماعي الفريد المفضي إلى عزلها لنفسها عن الثقافات الأجنبية و السير في طريقها المتواضع الخاص نحو الإنتاجية المتوازنة، تم التركيز نحو تجويد الثقافة، و تجنب التوسع المحموم. هل كانت هذه الفترة التي إمتدت إلى أواسط القرن التاسع عشر حقيقة مجرد حلم إنعزالي إستيقظت منه اليابان عبر "الكومودر بيري" خلال الحرب الأمريكية؟ ماذا لو كان الحلم هو أننا يمكننا أن نمضي إلى نهاية في توسعنا؟ ماذا إن كان كل ما نحتاج إليه هو أن نعيد، حذو االنعل بالنعل، القرار الياباني، و أن نقرر جماعيا أن نتدخل في مسار تنميتنا شبه الطبيعية، أن نغير مسارها؟ التراجيديا اليوم هي في أن فكرة القرار الجماعي نفسها هي فكرة غير مقبولة. عندما يتعلق الأمر بتفكك "إشتراكية الدولة" في العقدين الماضيين، علينا أن لا ننسى أنه، و في نفس الوقت تقريبا، فإن أيديولوجيا دولة الرعاية للإشتراكية الدمقراطية كانت قد تلقت ضربة قاسية هي الأخرى، هي بدورها فقدت القدرة على التعبير عن الخيال القادر خلق رغبة جماعية. إن الإعتقاد بإن زمن دولة الرعاية قد إنتهى هو اليوم قطعة من الحكمة المقبولة على نطاق واسع. ما تتشاركه هاتين الأيديولوجيتين المهزومتين هو فكرة أن الأنسانية، كذات جماعية، لديها القدرة على الحد، بطريقة ما، من النمو الاجتماعي-التاريخي المدفوع بشيء غير شخصي و غير معروف، لديها القدرة على توجيهه في الإتجاه الذي تريد.

اليوم، فكرة كهذه سوف ترفض بسرعة بوصفها "أيديولوجيا" و/أو "شمولية": العملية الاجتماعية تم إدراكها مجددا كشيء محكوم ب "قدر" غير معروف، خارج نطاق السيطرة الاجتماعية. يقدم صعود العولمة الرأسمالية لنا بإعتباره شكلا من هذا "القدر"، القدر الذي لا يستطيع الواحد منا مواجهته – على الواحد أن يأقلم نفسه عليه، أو سيسقط الواحد في خارج التاريخ، و سيتم سحقه. ما يمكننا أن نفعله هو فقط أن نجعل العولمة الرأسمالية إنسانية بأكبر قدر ممكن، أن نقاتل من أجل "عولمة رأسمالية بوجه إنساني" (هذا هو، في النهاية، "الطريق الثالث"، أو بالأصح "ما كانه يوما"). سيكون من المطلوب كسر جدار الصوت هنا، المخاطرة بالوقوف خلف فكرة القرار الجماعي الكبير يجب أن تتخذ – هذا، ربما، هو إرث روبيسبيير و رفاقه بالنسبة لنا اليوم.

قبل لحظات من موت روبيسبيير، لاحظ السياف بأن رأسه لن يستقر على المقصلة بالصورة المطلوبة، لأنه كان ملفوفا برباط كان يغطي الجروح على فكه، و لذلك قام السياف بنزع الرباط بصورة سريعة و قاسية؛ من حلق روبيسبيير المهشم خرجت صرخة  حادة مروّعة، الصرخة إنقطعت فقط لأن حد المقصلة وقع على رقبته. موقع هذه الصرخة الأخيرة كان أسطوريا: نتجت عنها سلسلة كاملة من التفسيرات، غالبا داخل إطار فكرة الصرخة اللا-إنسانية (أو قل الشيطانية)، الصرير الذي تصدره الأرواح الشريرة التي تشير لضعفها، و إحتجاجها الفاشل، خلال لحظات مفارقتها للجسد الإنساني الذي كانت تسكنه – و كأنه، في هذه اللحظة الأخيرة، قام روبيسبيير بإستعادة إنسانيته مجددا، متخلصا من شخصية "المصلحة الثورية" التي كانت تسكنه، خارجا في شكل البشري الخائف البائس.
الصورة الشعبية لروبيسبيير هي من نوع "الرجل الفيل Elephant man" و لكن في شكل معكوس: بينما للأخير جسد مشوه مخيف يخفي روحا رقيقة و عبقرية، كان لروبيسبيير شخصية رقيقة و لبقة تخفي التوحش البارد الذي تظهره عيناه ذات اللون الأخضر. و لذلك فإن روبيسبيير يناسب بصورة مثالية الرؤية الليبرالية المعادية للشمولية، هم لم يعودوا يحتاجون إلى تصويره في شكل الوحش صاحب الإبتسامة الشريرة الساخرة، كما كان الحال بالنسبة لرجعيي القرن التاسع عشر: الكل مستعد لملاحظة إتساقه الأخلاقي و تفانيه في خدمة قضيته الثورية، لأن نقاءه ذاته يدرك بإعتباره مصدر المشكلة، مصدر كل المتاعب، هذا ما يشير إليه عنوان أخر بايوغرافي كتبت عن الرجل، كتاب روث سكور "النقاء القاتل"[26]. عناوين بعض التعليقات على الكتاب واضحة: "الإرهاب مرتديا معطفا أخضرا كلون البحر،" "الإرهابي الجيد،" "شيطان المصلحة، و سيافها،" و متفوقا عليهم جميها، مقال غراهام روب "أخضر كلون البحر، معتوه كسمكة". و حتى لا يخطأ أحد الفكرة، قامت أنتونيا فريزر، في تعليقها، بتوضيح "الدرس القاسي لنا اليوم": روبيسبيير كان شخصا صادقا و مخلصا، و لكن، إراقة الدم التي جلبها هذا "الصدق" عليها حتما أن تحذرنا من مغبة الإيمان بأننا على الجانب الصحيح، الإيمان لحد إستثناء كل آخر، يمكن أن يكون بنفس خطورة الدافع التهكمي للطاغية المدرك لطغيانه." يا لسعادتنا، نحن الذين نعيش داخل عالم التلاعب التهكمي بالرأي العام، و ليس تحت حكم الإسلاميين الأصوليين الصادقين، المستعدين للإستهلاك الكامل لشخوصهم داخل مشروعهم .. ياله من إثبات على البؤس الأخلاقي-السياسي لعصرنا أن محركه الأقصى هو عدم الثقة في المصلحة! أليس علينا أن نؤكد، ضد مثل هؤلاء الأنتهازيين الواقعيين، على الإيمان البسيط بالفكرة الخالدة، الحرية، التي ستبقى حية رغم كل الهزائم، و التي بدونها، كما كان واضحا بالنسبة لروبيسبيير، فإن الثورة "هي مجرد جريمة، مجرد جريمة مخلوطة بضوضاء، تدمر جريمة أخرى،" الأيمان الذي عُبر عنه في أكثر الأشكال ألمعية، خلال خطاب روبسبيير الأخير في 1794، في اليوم الذي سبق إعتقاله و إعدامه:

] و لكنه توجد فعلا، بإمكاني أن أؤكد لكم، أرواح نقية لها شعور صادق؛ إن الشغف، الرقيق الملح غير القابل للمقاومة، لهو موجود فعلا، عذاب القلوب الرحبة و بهجتها؛ ذلك الرعب العميق للطواغيط، تلك الحمية الشفوقة بالمسحوقين، ذلك الحب المقدس للوطن، الحب الذي هو أعمق و أسمى عندما يتعلق الأمر بالإنسانية، و الذي بدونه فإن الثورة العظيمة هي مجرد جريمة، مجرد جريمة مخلوطة بضوضاء مزعجة، تدمر جريمة أخرى؛ إنه لموجود فعلا، ذلك الأمل الكريم، ذلك الشغف لتأسيس، هنا على هذه الأرض، جمهورية العالم الأولى.[



 [1]  اليعاقبة أو  Jacobins هو الإسم الشائع ل"جمعية مناصري الدستور"، و هو النادي السياسي الراديكالي المضاد للملكية و الذي ضم أكثر من نصف مليون عضو. وصل اليعاقبة للسلطة إبان الثورة الفرنسية، و مع وصول الجناح الأكثر راديكالية بزعامة روبيسبيير للسلطة دخلت فرنسا في دوامة من العنف عرفت لاحقا ب"حكم الخوف Reign of Terror".

[2] الترجمة هنا للمصطلح الهيغلي Sublate الذي يمثل إحدى خطوات الجدل: المتضادات لا تنتهي عبر الوصول لمنطقة وسط بينها، بل عندما تلغي نفسها عبر إرتفاعها لشيء واحد. التضاد بين الصراع البدائي بين "السنة" و الشيعة"، الذي يظهر اليوم بصفته المحرك الرئيسي للصراع في الشرق الأوسط، لا يمكن فهمه عبر الوصول لمنطقة وسط: التعايش السلمي بين الطوائف. بل عبر فهم المعسكرين بصفتهما تمثل لنفس الفكرة النهائية، و هذا الفهم لا يتم إلا عبر وجود فكرة ثالثة: من منظور السياسات التحررية الجذرية فإن كلا المعسكرين هما تمثل لمنطق الإستعمار الرأسمالي: نحن "سنة" و "شيعة" فقط لننسى أننا "عمال" أو "عالم ثالثويين" تهيمن علينا الرأسمالية و العولمة، و تريدنا أن نتصارع حبس منطقها الهوياتي.
[3] لويس أنطوان، الصديق الشخصي لروبيسبيير، و أحد رجال فترة حكم اليعاقبة، عرف بقيامه بأعمال شديدة القسوة، و نظم أكثر عمليات الإعدام خلال فترة "حكم الخوف"، و لكنه عرف كذلك بمظهره البريء جدا فلقب ب "ملاك الموت"، أعدم مع روبيسبيير في نفس اليوم عام 1794.
[4] Alain Badiou, Logiques des mondes, Paris: Seuil 2006, p. 98.
[5] كروم ويل هو القائد العسكري و الحاكم العام في فترة ثورية قصيرة في بريطانيا في القرن السابع عشر، حكمه الثوري كان شديد القسوة خاصة على الكاثوليك في أيرلندا، الإشارة له هنا تتم في سياق الحديث عن تاريخ بريطانيا الخالي من الفترات الثورية العنيفة.
[6] في الغالب فإن النظرية النقدية المعنية هنا هي المدرسة الفكرية لما يسمى ب”مدرسة فرانكفورت” و ربما في شكلها الهابرماسي أكثر من بداياتها في ثيودور أدورنو.
(1)                    [7] يحمل هذا المصطلح مكانة محورية في علم التحليل النفسي اللاكاني، فهو يمثل عدة أشياء: البناء الرمزي الذي تستند عليه اللغة، الآخر الذي يقوم الإنسان بتخيله لنقل معاناته إليه للتخفيف منها، أو الكيان الذي يعطي سندا معنويا لأفعال الإنسان أو ضمانه لصحة هذه الأفعال حيث لا يختبر الإنسان أفعاله كأفعال فردية بل كمجرد نتيجة لهذه الضمانة. الشعار اللاكاني يذهب لأن هذا الكيان النفسي هو بالتعريف كيان يلغي نفسه ذاتيا، كيان غير متسق: There (is) no big Other. مثلا بالنسبة للأصولي الديني فإن قراراته الفردية هي مجرد تمثل للتعاليم التي أملاها عليه الرب مباشرة، في هذا الإطار فإن هذه المرجعية النفسية "تريح" الأصولي من الثقل غير المحتمل للتقرير الحر: عندما تقرر أن تقتل شخصا تنفيذا لنص ديني فإن ذلك لا يعفيك من كونك الذات التي "فهمت" هذا النص "و طبقته". 
[8] أحب جارك هي الموعظة المسيحية الرئيسية، حيث يعني الجار فيها "الآخر". الوحشية التي يتحدث عنها سلافوي جيجاك عن "الجار" هي في قلب الموعظة المسيحية: الإنسان الآخر هو شيء رهيب حالما أدركناه في كامل حريته، الحرية التي تجعله خارج نظاق توقعنا، فهمنا، و سيطرتنا. هذا الآخر هو وحده الجدير "بالحب" كفعل ديني. عندما يضحي مناضل ما بحياته من أجل الإنسانية فإنه يضحي بحياته من أجل أولئك الذين لا يعرفهم و لا يفهمهم، أولئك الذين ربما لن يقدروا تضحيته، أو ربما لن يستحقونها، هم أحرار في أن يصبحوا أمة حرة أو أن يربوا طغيانا فوق رؤوسهم. في الحقيقة لأن "الشعب" هو شيء غير مكتمل هو إنفتاح نحو الممكن، هو توحش و غربة، لذلك تحديدا، مثل الآنسة في جوارك التي لا يمكن إلا أن تخاف منها، فهو جدير بالحب.
[9] المصلح مأخوذ من التصور الإسشراقي الألماني "للمسلم" على أنه شخص يعيش الحياة، في إلتزامه الديني القاتم، كميت. الكلمة في الألمانية تشير للشخص البائس، كالمشرد أو السجين، الذي يكاد أن يخلوا من أية حياة.
[10] يشير جيجاك هنا لكتابات كلود ليفورت "الإرهاب الثوري" في مجلة النظرية الثورية علم ١٩٨٨.
[11] P.R.Palmer, Twelve Who Ruled, New York: Atheneum 1965, p. 380.

[12]  من مقابلة مع مارغريت واشينطن على قناة PBS

[13]  الإشارة هنا لفكرة "الرجل السوفيتي الجديد" و هي فكرة ظهرت في الإتحاد السوفيتي أيام إستالين، حيث إعتبر الحزب أن من واجبه ليس فقط إنتاج إقتصاد و دولة قوية، بل كذلك إنتاج نوعية جديدة من البشر تناسف التقدم الذي سيأتي في المستقبل.
[14] The Social Contract, Book II, Chapter 2, "Voting"

[15] Jean-Pierre Dupuy, Petite métaphysique des tsunami, Paris: Seuil 2005, p. 19.

[16] يقول جيجاك في الهامش هنا: ما يجب أخذه في الإعتبار هنا هو كيف أن القدر هو شيء مختلف جدا عن معادله في الفكر الشرقي، و هو "إعادة التجسد" في الفكر البوذي. ما يتشاركه المصطلحان هو أن وضعي الحالي هو مقرر سلفا – و لكن، في حالة القدر، فإن الحكمة اللانهائية للإله هي التي تسبق وجودي، و لذلك فهي شيء ليس له علاقة بأفعالي، بينما في "إعادة التجسد"، فإن أفعالي الذاتية في حيواتي السابقة هي التي تقرر وضعي الحالي، الأمر الذي يجعل ورطتي الحالية أمرا تابعا لي. ما يفقد هنا هو الفجوة بين الفضيلة الإنسانية و الرحمة الإلهية، بمعنى، المفارقة الكلية و الوضع العارض تماما لقدري عندما يتعلق الأمر بشخصي.
[17] Jacques Lacan, Seminar VII: The Ethics of Psychoanalysis, London: Routledge 1992.

[18]  يشير جيجاك هنا لمثال آخر، و هذه المرة فهو أحد أكبر رموز المتعة الراديكالية، ماركيز دي ساد: قراءة أشخاص مثل بيير كلوسوسكي تشير إلى وجود مرجعية شبه-دينية تدفع الرغبة المستمرة المحمومة للمتعة لدى الشهوص المنعمسة في اللذة في روايات دي ساد. هذه المرجعية سماها جاك لاكان "المخلوق السامي للشر"، شيء غير واضح يظهر و كأنه إله يتغذى على معاناة البريء. 
[19]  مجموعات راديكالية، و متطرفة في عنفها،  من الطبقات الفقيرة الباريسية.
[20]  يعلق جيجاك هنا: الفخ الذي يتوجب تجنبه هنا هو إدراك الجانبين كضد أحدهما "جيد" و الآخر "سيء"، بمعنى، أن نرفض الديمقراطية المؤسسية بإعتبارها "تشييء" للتجربة الديمقراطية الأولية. ما يهم فعلا هو إلى أي مدى سينجح الإنفجار الديمقراطي في التحول إلى مؤسسة، إلى ترجمة نفسه في شكل منظومة إجتماعية. إن الإنفجارات الديمقراطية هي ليست فقط عرضة إلى الدخول السهل لأصحاب القوة في قلبها، حيث يكون "اليوم التالي" عندما يستيقظ الناس من سكرتهم ليروا علاقات القوة و قد تجددت بدم الديمقراطية الحار ( لذلك يحب أصحاب القوة "تفجرات الإبداع" مثل ماي ٦٨)؛ أحيانا، فإن الشكل "المتخشب" للعملية الديمقراطية و الذي تستمر الأغلبية في اللجوء له، هو الدفاع الوحيد المتبقي ضد الهجوم النهائي للحشود "الشمولية" و عواطفها.
[21] Gilles Deleuze, Negotiations, New York: Columbia University Press 1995,p. 171.

[22]  Jacques Ranciére, The Politics Of Aesthetics: The Distribution of the Sensible, London: Continuum 2004.

[23] Maximilien Robespierre, Oeuvres Complètes, Paris: Ernest Leroux 1910-1967, Vol. 10, p. 195.

[24]  يعلق جيجاك هنا: المفارقة، بالطبع، تقع في الإلتباس المتضمن في كلمة "الشعب": هل الشعب الذي نثق به هو مجموع الأفراد "الواقعيين/الإمبيريقيين"، أم هو "الشعب"، و الذي من أجله يمكن للواحد أن يحول العنف الموجه نحو أعداء الشعب إلى العنف ضد أفراد الشعب نفسهم؟ ألا توفر المسألة البيئية فرصة فريدة لإعادة إختراع هذه "الفكرة الخالدة"؟
[25]  يعلق جيجاك هنا: لكن، الإغراء الذي يجب تفاديه تماما هنا، هو إغراء إدراك الكوارث البيئية نفسها بإعتبارها "عنفا مقدسا" تمارسه الطبيعة، عدالة / إنتقام الطبيعة – مثل هذه الخلاصة هي نوع من الإسقاط التغبيشي غير المقبول للمعنى، إسقاط المعنى كشيء داخل الطبيعة.
[26] Ruth Scurr, Fatal Purity, London: Chatto & Windus 2006.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق