إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الخميس، 16 يونيو 2016

في الجذرية (2-2)

(2) الجذرية: الروح داخل المادة

هنالك فضاء اخر يتحرك فيه الفعل السياسي بشكل مختلف؛
في خلال احداث اضراب الاطباء في نهاية العقد الاول من هذه الالفية، رفع الاطباء شعارات جذرية فعلا، طالبوا باصلاح حقيقي لاحد اهم قطاعات الدولة، و نقول بان هذا المطلب هو مطلب جذري فعلا لان تحقيقه يتطلب تغيرا جذريا في بنية النظام يتجاوز مجرد سقوط حكومة الانقاذ، و خلال هذا النوع من الحراك السياسي نشهد انماط فعل مختلفة، يمكننا ان نتذكر العمل البطيء و الصبور الذي ادى لتوسع الحركة لتشمل جميع الاطباء تقريبا، و لكننا يمكن ان نتذكر و باهتمام اكبر كيف تمكنت هذه الحركة من اظهار العجز المتأصل لدى النظام في حل اي قضية اجتماعية بشكل حقيقي، و بدلا من التركيز على الشعارات الجوفاء، فان حراك الاطباء قد استعمل المساومة كوسيلة للتطور نحو التغير الجذري بدلا عن الاكتفاء بالتطهر الاخلاقي. كانت وثيقة وعد فيها البشير بزيادة مرتبات الاطباء احدى وسائل الضغط و الحشد الاكثر فاعلية في تلك الايام.

و بينما تفشل مجموعات المعارضة الشبابية في تكوين اي شكل من اشكال العمل القاعدي، و تتعذر بان النظام يمنعها، تمكن الاطباء و بصورة تدريجية من تشكيل نقابة فعالة بقيادة ذات نفوذ واسع وسط قواعدها، رغم ان الكل يعلم ان حكومة الانقاذ لا تسعى لتدمير اي شيء بمقدار سعيها لتدمير العمل النقابي.

ما لا تستطيع (و لا تريد) الكوادر التي تفرزها بيئة النخبة السياسية ان تفهمه هو ان العمل السياسي الجذري فعلا هو العمل خارج اطار النخبة السياسية التقليدية تماما، و باسس فكرية و اجتماعية جديدة. 

في حالة حراك الاطباء كان الناس يقومون بمفارقة تلخص كل شيء: المطالبة بتغييرات تمثل تحديا سياسيا حقيقيا للنظام، و الاصرار، مع ذلك، على عدم "تسييس" الحركة المطلبية. رد الفعل الاولي للكوادر السياسية على هذا الوعي الغريب الرافض "للتسييس" كان متوقعا: استنكار جهل الناس بحقهم في تسييس قضاياهم. لكن الرسالة الحقيقية لذلك الفعل كانت مختلفة، و هي ربما الرسالة التي يعتقد عبد الله علي ابراهيم ان حياة و موت عبد الخالق محجوب كانت في احدى جوانبها تجسيدا لها: "ليس هنالك حركة وطنية (او حركة سياسية) واحدة". بكلمات اخرى، فان ما مثلته تلك المفارقة هو ان المجالين الاجتماعيين و السياسيين اللذان تتحرك فيهما قوى المجتمع "السياسية" غير التقليدية و القوى "السياسية" التقليدية هما مجالان مختلفان، و متعارضان، لا يمكن التوفيق بينهما. بكلمات أخرى، فإن القراءة الصحيحة لرفض التسييس هنا هي أن هذا الرفض هو بداية الفعل السياسي الحقيقي و هو معارضة المعارضة.

ما رفضه الاطباء في ذلك الوقت، و هو ما اعتقد ان معظم الناس باتو يرفضونه، هو ان تنشط الحركة غير التقليدية تحت مظلة شعارات و استراتيجيات النخبة الفاشلة التقليدية، بداية من استراتيجية اسقاط النظام، نهاية بالاجندة السطحية التي تضعها هذه النخبة و التي لا تشمل تقوية المجتمع و لا الالتزام بالعمل الجاد، فكريا و عمليا، لتوفير حلول حقيقية لمشاكله. تكمن قمة الثورية في وقتنا الحالي في العمل و بشكل مقصود خارج الاطارات التي تطرحها المعارضة الرسمية، ليس فقط لنخلق قوى ايجابية في داخل المجتمع، بل كذلك لنتحرك بوعينا خطوة الى الامام: ليس هنالك فضاء سياسي واحد معارض للنظام، بل فضاءان، و هما فضاءان متعارضان.

لكن ذلك لا يمنع ان تفشل محاولات مجتمعنا الاصيلة في التعبير عن نفسه، ابتداءا من الثورة المحورية في اكتوبر، و انتهاءا باضراب الاطباء و محاولات المجموعات الشبابية و الثقافية كتعليم بلا حدود و نفير و شباب شارع الحوادث إلخ. و لكن فشل هذه المحاولات هو في حد ذاته خطوة مهمة، و هي خطوة ايجاد البدائل، من خلالها تبرز اهمية طرح الاسئلة الضرورية و الاجابة بكامل الجدية عليها (و هي العملية التي تصنع الثقافة السياسة للنهضة و ليس مجرد المعارضة): كيف يمكن ان نصنع دموقراطيتنا؟ كيف يمكن ان نلتزم علميا -بما يسميه صديقي شادي لويس- باستراتيجيات الامل؟ بكلمات أخرى: كيف يمكن ان يتطور الحراك من مجرد فعل عفوي اعمى لحالة خلق فعالة؟ و أخيرا فإن أكثر ما تفرضه علينا الإستراتيجيات الجذرية، هو التساؤل الجدي حول موقعنا في العالم، هل يمكن إصلاح الخلل البنيوي في إقتصادنا السياسي بدون الدخول في صراع أو تحالف مع هذا أو ذاك من القوى العالمية؟. و من خلال الفشل و المحاولة من جديد يمكن لهذه المجاهدات ان تفرز فعلا سياسيا ايجابيا صلبا في النهاية.

و إذا كان مصطلح الثورة قد تم تدجينه ليصبح الإسم الذي يطلق على اللحظة اليائسة لخروج الجماهير بشكل عشوائي لإسقاط النظام -الذي يكون في الواقع قد سقط جزئيا من تلقاء نفسه- لتتفرق بدون أن تحقق أي مكسب، اللهم إلا حسمها لصراع السلطة لهذا أو ذاك من أطراف النخبة، فإنه هنالك سردية تاريخية أخرى تجعل من الثورة لحظة تحقق كامل للتطلعات التي تم بناءها حجرا حجرا، و حرفا حرفا، إستعدادا لذلك (اليوم). "في التطورات التاريخية الكبرى ليست عشرون سنة اكثر من يوم واحد مع انه قد تاتي فيما بعد ايام تضم في احشائها عشرين سنة" (إنجلز).

على الجانب الاخر يمكنك ان تلاحظ كيف تدور مشاغبات نخبتنا في حلقة مفرغة من الشعارات من 89 و الى الان، بحيث لا تزداد الا انعزالا عن المجتمع مع الوقت (يمكن بسهولة تفهم تقبل المعارضة لهذه العزلة و تعويضها باكتساب نفوذ سياسي عبر تفاهمات دولية، خاصة في ضوء الخبرة التي منحتنا اياها الثورة السورية). هذا الفرق حتى في الفشل، هو الفرق بين قوى المجتمع القاعدية التي تتبنى بطبيعتها اهدافا جذرية ( بداية باصلاح التعليم و نهاية بخدمة مواصلات عامة جيدة/ و دعونا لا ننسى الحرية نفسها كمطلب جذري) و هي اهداف تهم الجميع و لا يمكن الوصول لها الا من خلال نهضة شاملة. و بين الحركة النخبوية التي تهتم، بطبيعتها، بصراع السلطة فقط.

التشابه الاخير بين اطياف النخبة في الحكومة و المعارضة هو ان كلاهما لا يستطيع صناعة و لا تحمل ايديولوجية جذرية حقيقية. اوضح باقان اموم حدود يساريته يوم انفصال الجنوب، عندما تبنى شعارات التحلق حول العرقيات، تماما مثلما حبس الاسلاميون انفسهم و ايانا في الاطر الضيقة لفقه القرون الغابرة، وحده الحراك القاعدي سيجد نفسه مضطرا لاجتراح ايديولوجيا تربط المعاناة و الاحلام اليومية العادية بتفاصيل ما يجري في العالم اليوم. بعقل منفتح و بعيدا عن الاختزاليات الرائجة و التافهة، سيكون الحراك القاعدي بحاجة لصناعة سرديته الخاصة، والخاصة جدا في حالة جمهوريات ما بعد الإستعمار، و هنا يمكننا ان نبدأ بفهم العلاقة العضوية بين المطالب البسيطة الواضحة، كانهاء الفقر او توفير سكن لائق للجميع، و الرموز الاكثر تعقيدا، مثل فرانز فانون.

من هو فرانز فانون؟ في العادة يوضع صاحب نظريات تمجيد العنف كمقابل تاريخي لشخصية المهاتما غاندي، و ربما يكون من الصعب فعلا ان نتخيل مثلا ان حوارا وديا او توافقا كان يمكن ان يجمع الرجلين، غير ان كلا الرجلين يمثلان بالنسبة لي مرجعية بشكل متساوٍ. و اعتقد انني اتشارك هذه المفارقة مع كثيرين، ذلك ان كلاهما، ان كان في تمجيده العنف او تمسكه باللا عنف، كان يسعى لحل مشكلة ما بعد النصر اكثر من سعيهما للنصر نفسه، كان يسعى لحل مشكلة الجنوب (و العالم) حلا جذريا. و هذا السعي لترسيخ دعائم النضال بما يجعله احيانا متجاوزا لكل قواعد الواقع المادي، هو محاولة اشراك الجميع لاحقا في الاستفادة من النتائج المادية للانتصار.

و في مقابل قياداتنا الجذرية هذه استطيع ان اتخيل المتسلقين الاخلاقيين، ان كان في مزايدتهم على غاندي في مساوماته مع الانجليز و اهتمامه بحقن دماء المحتل، او ترفعهم عن انزلاق فانون في مستنقع التحريض و الكراهية. ان اكثر ما يميزهم هو اختيارهم الدائم للمواقع الاكثر امانا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق