إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 18 أبريل 2016

عبد الخالق محجوب: تاريخ غير رائج

ما هو الفرق بين محمود محمد طه و عبد الخالق محجوب؟
في وثيقة دعائية كتبها عبد الخالق ردا على هجوم الإسلاميين المستمر ضده و إتهامه بمعادات الدين –كانت إحدى شعارات الإسلاميين الأكثر طرافة/قسوة في تلك الأيام: "عبد الخالق عدو الخالق"- قام عبد الخالق بمحاولة إظهار نفسه كإمتداد للأخلاق و القيم الإسلامية، التقليدية، فكان يذهب من مثال لآخر ليتساءل هل تتعارض العدالة الإجتماعية مع قيم الإسلام؟ هل تبني قضية الفقراء يتعارض مع الإسلام في شيء؟ و هكذا. ربما كان من الصعب جدا أن يقتل عبد الخالق بدعاوى دينية كما قتل محمود محمد طه، ذلك أن عبد الخالق كان أساسا خارج نطاق الصراع الديني جملة و تفصيلا، و أعتقد أن التكتيك الذي كان يستعمله هو التكتيك الوحيد الممكن للخروج من دائرة الصراع الديني (سني/شيعي مثلا كما يحدث حاليا) مع الحفاظ على رابطة قوية لا يمكن التشكيك فيها مع القيم الدينية، ما يحاول هذا التوجه العلماني غير المعادي للدين تحديدا قوله هو: ما هي المنطلقات الحقيقية للصراع في منطقتنا التي تحاول هذه التصنيفات الطائفية للناس إخفاءها؟ و من هنا سيكون الطريق سالكا نحو الجذرية أو اليوتوبيا، إن منطلقات الصراع الطائفية هي منطلقات صراع واقعية تاريخية، هي الواقع في أكثر أشكاله بؤسا و حضورا، لكنها رغم ذلك منطلقات صراع غير حقيقية، و لذلك فهي بلا حل، لن ينتهي الصراع بين السنة و الشيعة، بين المؤمنين و الأقل إيمانا، إلخ. لكن الصراع بين القوى المهينة على الشعب/الفقراء/المظلومون و بين الشعب (كفكرة عابرة للطوائف و القوميات) يمكن أن ينتهي و بشكل كامل، و إذا كان للأديان أي معنى فهو في دعم هذا الإتجاه غير الطائفي الجذري.

عبد الخالق إذن، و بعكس التوجه العام لليسار الحالي، هو زعيم تاريخي لقوة مجتمعية معادية للتخلف و مؤيدة للتقدم، و ليس زعيما معاديا للدين. لكن رغم ذلك فإن الإسم الذي أعيد توطينه في البيئة الثقافية السودانية، و أعيد رد الإعتبار له هو محمود محمد طه، على الرغم من أن الأخير كان الأكثر عداءا للتدين السوداني بشكل عام. و بقي عبد الخالق محجوب أسير أناشيد بقايا الشيوعيين الذين تحولوا بمرور الوقت إما لكبار سن عاجزين أو لشباب بتوجهات ليبرالية و علمانية عامة لا علاقة لها بالرجل. بالتأكيد لا يمكن إغفال الدور الثقافي لعبد الله علي إبراهيم في تحويل الرجل لرمز أو الحفاظ على ما تبقى من رمزيته، لكن هذا لا يغير حقيقة هامشية الرجل في الفضاء الثقافي السياسي الحالي مقارنة بالأستاذ.

من طرائف الشيوعيين السودانيين هو أنني و رغم أنني كنت أتابع بإستمرار أركان النقاش التي كان طلاب الجبهة الديمقراطية يحيونها، لم أسمع أحدهم يلفظ و لو لمرة واحدة إسم كارل ماركس على الملأ، و في المقابل فإن الرجل كان ضيفا دائما في أركان أنصار السنة و الإسلاميين. هذا غير أن التنظيم الطلابي للحزب أخذ إسما مختلفا، و دائما يتم تعريف الطلاب المنتمين على أنهم يمثلون تحالفا لقوى ديمقراطية، و ليس يسارية أو إشتراكية على الأقل، هذه الحالة الدائمة من البارانويا و التقيا السياسية الثقافية هي الأساس في الآلة الإعلامية للحزب، ما بقي هو أن يتم تغيير إسم الحزب نفسه لأنه، و بعكس ما يفترض للواجهة –أية واجهة- بات يمثل إحراجا لا تستطيع لا كوادر الحزب و لا قيادته تحمله و لا التعامل معه. هذه الحالة الغريبة العصية على التفسير يتم تفسيرها، و لو ضمنيا، بأنها إنسحاب تكتيكي في وقت إنتصرت فيه الأيديولوجيا الإسلامية في المجتمع، إنسحاب بدأ لحظة وفاة عبد الخالق محجوب و تكسر دعائم الحزب بعدها في السبعينات. لكن هل هذا صحيح؟

في محاضرة لديفيد هارفي، و هو أستاذ تخطيط حضري شهير و أحد أهم المنظرين اليساريين حاليا، في مدرسة لندن للإقتصاد، عن التناقضات الرأسمالية التي بدأت تطل علينا –أو عليهم في أوروبا و أمريكا- مجددا، ذكر قصة طريفة عن بدايته كأستاذ للتخطيط الحضري في أمريكا، كان الرجل قد أنهى دراسته في كامبردج و حصل على درجة الدكتوراة في الجغرافيا، و ذهب لأمريكا لمدينة بالتمور حيث كانت أزمة الإسكان تبدو بلا حل، ليعمل كخبير في فريق حكومي مسؤول عن تناول هذه المشكلة. تقول القصة بأنه و في خلال بحثه عن الأسماء التي تناولت مشكلة الإسكان تاريخيا وجد إسم فريدريك إنجلز، و بعد قراءة تحليل إنجلز لمشكلة الإسكان بوصفها جزءا من مشكلة توزيع القوة السياسية بين طبقات المجتمع قام بكتابة ورقة مقترحات و قدمها في أول إجتماع بدون الإشارة لإنجلز، و كانت النتائج إيجابية جدا، بدا الرجل بطبيعة الحال و كأنه يفكر خارج الصندوق، و كرر هذه الفعلة مع الورقة القادمة، و لكن هذه المرة أخبر المسؤول عن مصدر المعلومة، ردة فعل المسؤول كانت متوقعة: "هل إنجلز هذا أحد الأساتذة هنا في أمريكا؟" و من ثم إضطر الرجل لإستعمال إسم كارل ماركس، و بعدها لم تسر الأمور بنفس الإيجابية. عموما لسنا بحاجة لقصص ديفيد هارفي لنكتشف أن نفس الشيطنة الشاملة لماركس تسري حتى في الدول الكافرة.

بالعودة لمحمود محمد طه، الرجل عاد ليكون الرمز الأكثر أهمية في مخيلة النخبة المثقفة السودانية. طبعا بشكل سطحي متوقع. هذه النخبة شديدة التحرر فكريا، ربما تأثرا بفضاء ثقافي عالمي يدعي كسر الحدود و القيود الفكرية على الأقل، حتى أن أحد أكثر الموضوعات الثقافية رواجا هو النقاش حول وجود الله؛ و ربما يشير رواج أسماء مثل مصطفى محمود و عبد الوهاب المسيري كملحدين سابقين إلى حقيقة أن هذه المسألة تمثل محورا مهما في البيئة الثقافية العربية عموما. و بالتالي فإن إعادة توطين محمود محمد طه تبدوا مفهومة، فهو يمثل رأس سنام محاولات المثقفين السودانيين للتحرر من هيمنة الإسلاميين (كجماعة سياسية تستعمل الدين كأحد أسلحتها) على العقول. لا تتورع النخب إذن، في مواجهتها مع سلطة الدين، عن إستخدام كل الأسلحة المتاحة، غير آبهة كثيرا بردة فعل المجتمع.

على ضوء هذه القراءة لإقدام نخبتنا أمام الدين و التدين، لا يمكننا أن نستمر في تفسير غياب اليسار و رموزه بإلقاء اللوم على أيديولوجيا الإسلاميين. لكن ربما يمكن تفسيره بإختفاء القوة الإمبريالية لليسار العالمي. و دخول العالم الثالث لشكل جديد من الهيمنة الثقافية التي يمثل رأس الرمح فيها نخبة البلدان المتعلمة أنفسهم. نخبة تمة تربيتها على ألا تقترب بالنقد من قواعد اللعبة الليبرالية. هكذا يصبح مفهوما أن يمثل عبد الخالق محجوب (و لينين و ماركس) مشكلة ليس بالنسبة للإسلاميين، بل بالنسبة للمجموعات الثقافية الأكثر تحررا و "تقدمية". إن المشكلة ليست في كفر هذه الرموز أو إيمانها، المشكلة هي في التبعات النظرية و العملية لحقيقة وجودهم التاريخية. و الهروب منهم هو هروب من التفكير الإجتماعي العملي و من الفرص التي يعتبر مجرد تخيلها عبئا.

هذه ليست دعوة للعودة للدغمائية الشيوعية المعروفة تاريخيا رغم أنه يبدو من المستحيل إبطال الرغبة المسبقة لفهم أي كتابة من هذا النوع بهذا الشكل. ليست دعوة لإجترار المصطلحات التقليدية لليسار كالطبقة العاملة و البرجوازية و خلافه، فقد أثبتت الأيام أن هذه أنجح وسيلة للعمل ضد الشعوب أو للتوقف عن العمل تماما. هذه دعوة للخروج من الثقافة التلقائية، الثقافة التي تفرض نفسها كشيء خارج الأيديولوجيا رغم أنها الأيديولوجيا في أكثر صورها مباشرة، ما يجعل عبد الخالق محجوب، و التيار السياسي المادي الجذري الذي مثله، و كل الأفق الممكن للعدالة الإجتماعية و الدخول للحداثة من بوابة منح القوة السياسية للكادحين، ما يجعل كل ذلك هامشيا ليس الحقائق الموضوعية و لا القراءات المحايدة إنما الأيديولوجيا، و التي تحاول إظهار نفسها –كأي أيديولوجيا- على أنها جزء من الحقائق التي لا خلاف عليها. هذه الثقافة التلقائية التي نجد أنفسنا حبيسين لوجودها الإعتباطي غير المؤسس على أي قواعد فكرية، لا تملك القدرة على مواجهة نقاط معينة في التاريخ فتفضل تجاهلها. إن العودة لهذه النقاط المخيفة و إعادة الإعتبار لها، لا يمثل بالضرورة إعترافا بالصواب المطلق لهذه الرموز، هو تحدي ضروري للتلقائية و السخافة.

لذلك في أي قراءة لعبد الخالق محجوب يجب إخراج مشهد وفاته من الإطار الشعري الملحمي المعهود، و إدخاله في الإطار التراجيدي/الكوميدي الذي يمثله حقيقة. لقد عاش الرجل كزعيم سياسي لحوالي ربع قرن، قام خلالها بالعمل بشكل جاد نظريا و عمليا و تمكن من صنع تأثير مميز بين المستضعفين،  الأمر الذي أخرج المستنيرين السودانيين لأول مرة خارج منطقتهم المحببة كممتعضين سلبيين أو مجرد متشائمين. و للمرة الأولى و الأخيرة في تاريخ السودان كان التفكير في دولة عربية أفريقية صناعية و حديثة ممكنا، ناهيك عن الفرص العملية لحل المشكلات العرقية كجزء من الواقع المادي علميا بدل تحولها لمسارح للعبث و سفك الدماء بلا حساب، في ظل تلك الحركة كان ممكنا للمثقف أو العالم السوداني أن يفكر في هذه الحلول و أن يعمل ككادر وطني حقيقي لا كمجرد حزبي متعصب، عبد الله علي إبراهيم و الجنوبي جوزيف قرنق يمثلون تحقق بعض المشروع التنويري السياسي لعبد الخالق محجوب. لكن أحداث تأييد اليسار السوداني تحت قيادة عبد الخالق لحكم جمال عبد الناصر و لحكم نيكروما في غانا، و حقيقة أن الحزب لم يستطع أن يواجه لا بالنظرية و لا بالتكتيك السياسي هجمة القوى التقليدية عليه، تشير لأنه حتى في حالة إفلات الحزب من أزمته مع نميري فإن الطريق لم تكن سالكة. قبل وفاته بدقائق و هو متجها نحو منصة الإعدام يقال أن عبد الخالق كان صرخ: "يعيش نضال الشعب السوداني، عاش نضال الحزب الشيوعي السوداني" أعتقد أن الإقرار بأن هذه الصرخة الأخيرة للرجل هي تمثل للحدود التي لم يستطع الرجل تجاوزها هو التذكر الأكثر صدقا للرجل، فالحزب الذي تركه كان جزءا من يسار عالمي يحتضر أكثر منه حزبا للسودانيين، و ملابسات وفاة الرجل لم تكن تتويجا لنضال الشعب السوداني بل كانت في الواقع نهاية تاريخية حزينة، و في بعض تفاصيلها كوميدية، لإنتصار نهج مجموعات مشاغبة لم يحسن عبد الخالق التعامل معها طوال سنين قيادته للحزب مثلما لم يحسن السودانيون عموما –منذ الإستقلال و إلى يومنا هذا- التعامل مع قدرتها التخريبية منقطعة النظير لا ثقافيا و لا عمليا. في فشله النهائي تركنا عبد الخالق لنحاول تلمس الإمكانية بدون أي تحقق تاريخي (مقارنة بنيلسون مانديلا مثلا)، لكن هذه الإمكانية الجذرية وحدها تكفي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق