إجمالي مرات مشاهدة الصفحة

الاثنين، 18 أبريل 2016

العودة

في مقارنة بارعة وضع إدوارد سعيد الحالة الثقافية المسماة ما بعد الحداثة، و مدرسة ما بعد الإستعمار، وجها لوجه، الأولى حسب أحد أهم تعريفاتها هي حقيقة أنه ليس هنالك إمكانية لإكتشاف/خلق أي حرية جديدة، أما الثانية فهي المدرسة الثقافية التي تدرس الإستعمار و الإستعمار الجديد في محاولة "للتحرر" منه، إن الفرق يكمن في أنه بالنسبة للثانية فإن مشروع "الحداثة" نفسه لم يكتمل بعد، و ما يقف في طريقه هو الإستعمار.
يأتي النقد الأكثر أصالة لمدرسة ما بعد الإستعمار من اليسار الراديكالي، من الماركسية، فبالنسبة لهذه الرؤية فإن ما تحاول هذه المدرسة فعله هو التغطية على الجبهة الحقيقية ضد الرأسمالية، بالتركيز على أحد نتائجها و هو الإمبريالية، المثال هنا هو الصين، فتحويل الثورة الشيوعية لثورة ضد الإستعمار هو ما سمح –حسب هذه القراءة- بالتصالح في النهاية مع الرأسمالية ذات نفسها، لكن هنا تظهر التجربة التاريخية لدول الخليج كحالة فريدة من نوعها، فالدول التي تعتبر أهم مراكز الإستعمار الحديث، قد تم تحديثها بصورة مضطردة حسب كل معايير الحداثة المادية، و معدلات العدالة الإجتماعية (إذا إستثنينا العمالة الأجنبية و هي عمالة مؤقتة في الغالب) هي من بين الأفضل في العالم، حسب التحليل الماركسي التقليدي فإن هذه الدول كان يفترض أن تكون واحات للتقدم الإجتماعي، أو التقدم البرجوازي على الأقل، لكن الحقيقة هي أن كل مشاكل العالم الثالث من غياب كامل للحرية و سيطرة التقاليد الإجتماعية على الفرد، الحالة المزرية للمرأة، الديكتاتورية، و أخيرا عزلة هذه الدول عن محيطها، و إعتبارها لكل دول الجوار كمهدد لبناءها السياسي الهش كل هذه المشاكل ما زالت تمثل الوجه الآخر لمعدلات النمو المميزة (يجب أن نتذكر و نحن نتابع الحرب في اليمن أن الفقر المدقع لليمنين هو نتيجة مباشرة لإبعاد إمارات الخليج لهم و منعهم من التمتع بالنمو الإقليمي، و ذلك بخلاف ما يحدث في أي إقليم آخر في العالم، و يمكننا أن نفكر في أن الثروة النفطية كان من الممكن أن تتحول لثروة مستدامة لكل دول المنطقة لولا العزلة التي يفرضها الإستعمار الحديث على هذه الدول). بالإضافة لكل هذه المشاكل، فإن دول الخليج تمتاز بمشكلة أخطر و هي شلل المجتمع الكامل أمام مشاكله، فمثلا بينما تعيش المرأة السعودية نفس حالة جداتها قبل مئات السنين فإن حالة المرأة في رواندا مثلا و هي دولة أكثر فقرا و تخلفا تتقدم بخطوات ثابتة، يمكن قول نفس الشيء بالنسبة للديمقراطية و حقوق الإنسان، و تطور أنماط الإنتاج المستدام، ما الذي يجعل من هذه الدول بؤرا للتخلف الراسخ، رغم أنها تتقدم ماديا؟

على مثل هذه الأسئلة تحاول مدرسة ما بعد الإستعمار الإجابة، بالنسبة لفرانز فانون و إدوارد سعيد، فإن الإستعمارأكثر من مجرد حالة إستغلال، أعتقد أن المقارنة هنا ستكون واضحة إذا تصورنا نظام مبارك كممثل للإستغلال الرأسمالي التقليدي، ما يحتاجه المواطن في هذه الحالة هو مجرد الثورة، و سيتحول المستغل مباشرة إلى أضحوكة، لا يتذكر أحد العائلة الفرنسية التي قامت ضدها الثورة الفرنسية كأسماء مهمة، فالثورة قد عالجت الحالة بشكل نهائي، ما فهمه فرانز فانون بشكل مختلف عن الجميع هو أنه للإستعمار جانب آخر أكثر تجذرا من الإستغلال الرأسمالي التقليدي، و أن هذه الحالة الجديدة في التاريخ الإنساني ستتطلب ردة فعل أكثر جذرية لتنتهي، بالنسبة لفانون فإن مشكلة الإستعمار لم تكن مجرد الإستغلال الإقتصادي، بل كذلك في أنه يزرع في المجتمع المستعمر حالة من الجنون، أو الهذيان، عندما دخل الإنجليز للسودان قاموا بهدم كل الرموز التي كانت تشير للمهدية، و هي الحدث التاريخي الأكثر مركزية في تاريخ ما قبل الإستعمار، و قاموا بتحويل كل ما كان السودانيون يعتبرونه حياتهم اليومية، و بمرور الوقت فإن الإستعمار قد تمكن من محو الذاكرة الوطنية تماما، فأصبح الخليفة عبد الله مثلا و هو إسم تاريخي مهم بلا أي محتوى، و لكن مع المستعمر أتت أولى بشارات الحداثة، المشاريع الزراعية و السكة حديد، كيف ينظر السوداني في وسط هذه الحالة المتضاربة إذا إلى نفسه؟ بالنسبة لفانون كان واضحا أن هذه الحالة التي فرضت على السودانيين فرضا ستنتح هذيانا لن يتحمله المجتمع.

 في كتابه الشريعة و الحداثة إستعمل عبد الله علي إبراهيم نظرية فرانز فانون في "الهذيان المانوي" ليقرأ تاريخ صراع السودانيين القانوني بين المحاكم الشرعية و المحاكم المدنية كحالة هذيان ما بعد إستعماري بإمتياز، ساهمت أكثر من مرة في إفشال التجارب الديمقراطية بشكل غير عقلاني، و العنف، و إحدى أمثلته قتل محمود محمد طه. ما إقترحه فانون هو أن يستعمل الناس العنف ضد المستعمر، عنف يختلف عن العنف الثوري التقليدي، في قراءة مميزة لسلافوي جيجاك عن روبيسبير و العنف المقدس، يوضح أن العنف الثوري هو العنف الضروري لتحويل الثورة لمؤسسات و ضمان نجاحها في منح الفائدة المادية للقاعدة التي اشعلتها، أما بالنسبة لفانون فإن العنف الذي يستخدم ضد المستعمر هدفه علاج المستعمَر، إن فوارق خيالية بين العالمين لا يمكن أن تذوب إلا بالعنف، و في هذا العنف سيتحول المستعمَر الذي فرض عليه أن يشعر بتفاهته الشخصية لآلة للحرب و البناء.

لم تغفر الأكاديميا الغربية لشينوا أشيبي هجومه على جوزيف كونراد، و هو الأديب الذي كتب رواية قلب الظلام التي رآى فيها أشيبي و هو أحد ثلاثة إبتدروا كتابت روايات صنفت لاحقا كفنون ما بعد إستعمارية، رآى فيها عملا إستشراقيا عنصريا، مثل إدوارد سعيد الذي مثلت الرواية بالنسبة له عملا مركزيا في دراسته للإمبريالية و علاقتها بالثقافة، و أعتقد شخصيا أن سعيد دارس الأدب قد أعجب بكونراد الأديب، و كره المستشرق، و يبدو و في كره لهذه الفقرة بالذات منبهرا بها:

 (إن فتح الأرض، الذي يعني في الغالب إنتزاعها من أولئك الذين لديهم بشرة مختلفة أو أنوف أكثر تسطيحا من أنوفنا بقليل، ليس شيئاً جميلاً عندما تتأمله بعناية زائدة. لكن ما يغفر ذلك له هو الفكرة ذاتها فقط. فكرةٌ تسكن في خلفيته؛ ليس تظاهراً عاطفياً وإنما فكرة؛ وإيمان غير أناني بالفكرة - شيء يمكنك أن تقيمه نُصباً، وتنحني أمامه، وتقدم له القرابين)

في دراسته الأكاديمية للظاهرة الإستعمارية قام سعيد بتحويل ما يمكن وصفه بأنه وعي فرانز فانون بجذرية الحالة التاريخية الجديدة إلى مجال مختلف أكثر صلابة، قبل إدوارد سعيد بفترة كان فلاديمير لينين هو أول من كتب محللا الظاهرة الإستعمارية علميا، ما إكتشفه فرانز فانون عمليا خلال عملية تفكيك الإستعمار هو أن لهذه الظاهرة جانبا آخر بخلاف الإستغلال التقليدي الذي وضحه لينين، لذلك فردة الفعل لا يمكن أن تنجح مادامت تتحرك في هذا الفضاء البسيط، لن يتحرر التابعون بمجرد أن تتحسن أوضاعهم المادية، و ربما في هذا السياق سنشعر بأهمية اللحظة التاريخية لتكون شخصية غاندي، لا يستطيع المرء إلا أن يلاحظ كم العنف الذي تحتويه فكرة تحويل الحضارة الغربية ذات القوة منقطعة النظير لمجرد ظاهرة تنم عن بلاهة و غرور، بالنسبة لحركة غاندي فإن قمة "العنف السلبي" كانت عندما إعترف الإنجليز بأن العجوز نصف العاري قد أظهر أكثر تفاهاتهم الإمبيريالية سخافة، لكن هذه اللحظة لا تكتمل إلا بحقيقة أنه لا غاندي و لا الشعب الهندي لم يكونوا بحاجة لهذا الإعتراف، بالنسبة لفانون فإن العنف الذي يقوم به الفرد التابع ضد المستعمر سيعيد هذا الفرد إلى نفسه بعيدا عن نقطة القياس التقليدية، في هذا السياق سيكون من السذاجة الحديث عن الأموال التنمية أو الرواتب كأهداف عليا، إدوارد سعيد بإدخاله العنصر الثقافي للسردية الإسعمارية وضع كل هذه الأشياء التي تم تجاهلها سابقا داخل سياق الصراع نفسه. الإستعمار ليس ظاهرة إستغلالية مادية، بل ظاهرة إستشراقية ثقافية أساسا، و بالتالي فإن عملية تفكيك الإستعمار يجب أن و ستكون دائما عملية صناعة ثقافة و أيديولوجيا و ليس مجرد شكل آخر للصراع الطبقي.

هنا تظهر فكرة أن الإستعمار هو الحدث التاريخي و الأيديولوجي الأهم للعالم الثالث، إن "العالم الثالث" نفسه قد ولد مع الإستعمار، بالنسبة لفانون و سعيد فإنه لا يمكن تجاهل ما حدث، لا يمكن العودة للكيانات العضوية الرائعة التي كانت في الماضي، لذلك فإنه علينا دائما عندما يطرح إسم حسن الترابي و غازي صلاح الدين، علينا أن نختار دائما حسن الترابي، السياسي الذي خلط الدين بالحداثة و تتبع منطق الدولة الحديثة حتى نهايته، في مقابل السياسي الذي سعى دائما لإختراع و إعادة إختراع الضمانات الأخلاقية و التاريخية لكل خطواته، في مقال عن المهدية يحاول غازي صلاح الدين أن يبعث الأمل عن طريق تذكير السودانيين بتاريخهم، و يقوم بتوضيح أنه في نفس الفترة التي تكونت فيها الدولة المهدية كانت إنجلترا ترزح في ظلمات الحكم الملكي، بلا عقلانيته المتمثلة في حادثة إنفصال الكنيسة الإنجليزية عن الفاتيكان لأن الملك أراد أن يتزوج من جديد و رفض الفاتيكان ذلك، حتى نشعر بأن هنالك أمل علينا أن نعود فقط لتاريخنا القريب و نرى أننا كنا في الماضي على أعتاب تكوين دولة ذات شأن، و أننا لم نكن بعيدين في تطورنا عن الحضارات الأخرى، ما تصر كل القراءات المستدعية لإشراقات التاريخ على تجاهله هو حقيقة أن صلة إنسان العالم الثالث بتاريخه هي صلة مغتربة، فنحن نتاج للحداثة التي فرضت علينا أكثر من كوننا نتاج لخط سير تاريخي هادئ، لقد عاش الشيخ فرح ود تكتوك و جان جاك روسو في نفس الحقبة الزمنية، و أميل شخصيا للإعتقاد بأن الشخصية شبه الهزلية التي تصنعها الصوفية السودانية للشيخ لا تشابه حقيقته كمعلم روحي للمجتمع في ذلك الوقت، لكن ألن يكون من السذاجة محاولة إستدعاء الشخصية الحقيقية هذه من صفحات التاريخ على إعتبار أننا نمثل إمتدادا تاريخيا لها؟، إن هذا العالم ما قبل الإستعماري قد إنتهى، و أي محاولة للعودة إليه، العودة للأصول، هي محاولة إختراع هذه الأصول من المنظور الحديث، لذلك ربما نلاحظ أن قراءة التاريخ في هذه المنطقة تذهب دائما لما يشبه التصور الخيالي بينما أي قراءة جادة للتاريخ فهي قراءتنا للتاريخ الأوروبي، مثل هذه الجرأة على مواجهة الواقع يقدمها حسن الترابي في تتبعه لأصول الدولة الحديثة في الفلسفة الغربية، إن هذا الشخص (حسن الترابي كمثال) بالنسبة لإدوارد سعيد، هو فرد جديد، في العالم ما بعد الإستعماري الذي تكون نتيجة لسياسات الهوية و لكنه لا يستطيع تحمل الإلتزام بها، هذه الرحلة الترابية من الخرطوم للسوربون للخرطوم، من القرآن لديكارت للقرآن، هي صناعة الهوية.

في سياق إكتشاف الإنسان الجديد هذا، ذهب المتأثرون بإدوارد سعيد لتكوين نظريات مفصلة في الهوية، كنظرية هومي بابا في الهوية المتلاقحة، أو نظرية غايتري سبيفاك في الهوية المبنية على صناعة الجوهر، أما أولئك الذين سيحاولون الرجوع لأصولهم، و معرفة (من هم حقا) عبر الرجوع التقليدي للتاريخ فسينتهي بهم الحال إما للأصولية الدينية التي تتجاوز في لا عقلانيتها حتى فكرة الأصولية الدينية، أو للعرقية الأفريقية، أو للمحاولة التي لا يمكن عدم ملاحظة طرافتها في القول بأن الهوية العربية للسودانيين مثلا هي مجرد هوية ثقافية مختلقة و علينا أن نعود عبر العرق للهوية الأفريقية، إقترحت إحداهم و هي تشد هذا المنطق لنهايته أن يشاهد السودانيون أخبار أفريقيا في البي بي سي حتى يكتشف كل منهم الأفريقي الذي في داخله، بالنسبة لفرانز فانون كان الأجدى أن نعبر الهوية –هويتنا التي تعرضت لشرخ لا يمكن علاجه، أيا كانت- "لنتجاوز الوعي القومي للوعي الإجتماعي".

لا أستطيع إلا أخذ كل ما يقوله الطيب صالح بكامل الجدية، تذكر معي، مصطفى سعيد كان قد أكثر من الشرب، في إشارة للحظة التي ظهر فيها الفرد الذي يمثل في حد ذاته الهذيان بكل ما للكلمة من معنى، ظهر فيها على حقيقته، ربما كان يحب الطيب صالح، الفرد ذي الهوية المتخيلة، المتنبي. في حين أن الطيب صالح، الأديب، جعل أبيات الشعر التي خرجت لحظة الحقيقة أبيات شعر إنجليزية "يا نساء فلاندرز..."، يمكننا أن نستمتع بهذه الظاهرة لا كمجرد جمالية، بل كخلل وجودي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق