لا يمكن لعبارة الطيب صالح الشهيرة، التي هي في الواقع "من أين جاء هؤلاء الناس"، إلا أن تبدوا خرقاء إذا ما أخذناها بالمعنى الإحتفالي الذي روجت النخبة المعارضة له. شعور التفاجؤ الذي توحي به هو شعور مغفل على أفضل الفروض: الكل في السودان كان يعلم أن إحتمالية وصول الحركة الإسلامية للسلطة هي إحتمالية شبه مؤكدة، الحركة كانت قد أكملت عملية تدمير اليسار تحت وطأت إنتصارها الأيديولوجي الذي ترافق مع إنتصار آخر أوسع لليبرالية الديمقراطية في كل مكان، و كان زعيمها السياسي هو الوجه الأبرز في الساحة الساسية، و كوادرها و قواعدها هم القوة الأكثر حركية و تأثيرا. حتى الكراهية الشديدة التي حظي بها حسن الترابي كانت تشير لذلك، لا وعي المعارضين كان يخبرهم بأن الرجل قد إنتصر عليهم، و ذلك حرك فيهم أسوأ مشاعر اللا وعي العلمانية: كيف يمكن لهذا "الشيخ"، سليل مدارس التفكير الإخوانية الأصولية السطحية، و الرجل غير العابيء بالقيم السامية "للإعلان العالمي لحقوق الإنسان" و غيرها من الوثائق التي تقدسها النخبة، كيف يمكن له أن يتحول للرمز الذي لا يحرك القواعد غير المتعلمة فقط، بل و كذلك الطلاب و كثير من المثقفين؟
هل يمكن في ظل مناخ كهذا أن يتفاجأ الواحد منا بوصول الحركة الإسلامية للسلطة؟ من يستطيع ذلك هم فقط العلمانيون السودانيون، و ذلك لقدرتهم الغريبة للعيش داخل عالم آخر موازي دائما. أذكر مرة أن أحد الأصدقاء الشيوعيين أخبرني أن "الحزب الشيوعي موجود بين عمال المصانع و في الحواري و كل الأحياء"، و أن أخر من ناشطي حركة قرفنا جادلني بأن فوز الإخوان المسلمين في مصر سببه "أن الإخوان المسلمين كانوا يرهبون الناس بالسلاح حتى يصوتوا لهم". أي شخص تحرك داخل دوائر النخبة المعارضة لن يكون بإمكانه إلا أن يلاحظ أن هذه الحالة ليست حالة شاذة، بل هي القاعدة: في غمرة فشلهم الكامل في لعب أي دور ذي معنى، إنكفأ العلمانيون السودانيون داخل دوائر معزولة ليعوضوا غياب مشروع الحرية الجماعية بحريات فردية أصبحت مقدسة بالنسبة لهم، و كضرورة، إنتظم هذا العالم الجديد حول منظومة خيالية ليس لها علاقة بالواقع.
لكن، هل يمكن أن يجمل الطيب صالح داخل هذه القراءة؟ هل الطيب صالح أديب نخبوي تقليدي؟ بالمناسبة، هذا الوصف "أديب علماني نخبوي تقليدي" هو وصف أصبح يوما بعد يوم حقيقة واقعة: الأديب النخبوي الذي يستعمل الأدب لا كوسيلة للتعبير عن الحقيقة الفنية في كامل إبداعها بل كوسيلة "إحتجاج" كوسيلة لقول ما لا يجب قوله، كوسيلة لا لتمرير الفن كمجال حرية جماعية، كمجال معنى (مثل رمزية مصطفى سعيد التي يمكن لنا جميعا أن ندخل فيها و أن نتمثلها بصفتها شيء يعبر عنا، شيء نتحرر عندما نقرأه، نفرح به)، بل كمجال للتعبير عن الحرية الفردية في أكثر أشكالها إبتذالا، أصبح النمط السائد هذه الأيام. يكفي للمرأ أن يفكر في رمزية "الإستمناء" التي أصبحت جزءا من بعض الكتابات الرائجة بوصفها جزءا من حركة فنية نخبوية تستمتع جدا و هي تعلن حريتها التافهة المفرغة، و التي هي في إبتذالها منقطع النظير، بلا أي جمالية (تخيل أن يصل كتاب القصة القصيرة عندنا، في إطار إعجابهم السطحي بفكرة "التعبير عن الواقع المستور"، للكتابة عن ذهاب الناس للخلاء، أو عن دورة النساء الشهرية، أعتقد أن هذه هي النهاية المنطقية للحركة الفنية النخبوية و تعبيرها عن الواقع المستور).
بالعودة للسؤال عن الطيب صالح. كيف يمكن أن تفهم عبارة الطيب صالح بمعنى يتجاوز سطحيات النخبة؟ هنا يمكننا أن نستعمل مصطلح المثالية الألمانية "التحليق الخفي للروح" Silent weaving of the spirit، ما جعل وصول الإسلام السياسي مفاجأً هو حقيقة أن الإسلام السياسي، حسن الترابي تحديدا، كان قد أجاد إستعمال "الروح" أو العقل الجمعي، و أجاد التحرك بمنطقه. ذلك أن منطق التطور في عالم الأفكار هو منطق إجادة التحليق الخفي. أنت لا تكسب المعركة السياسية أثناء الأحداث الكبرى، بل خلال السنوات الصامتة الخفية. هذا الفن في التغيير، الذي يحتاج لصبر و إهتمام شديد بتفاصيل الأفكار في شكل إنتشارها اليومي، هو الفن الذي إستعملته الحركة الإسلامية خلال تطورها من حركة صغيرة، نسخة من جماعة الإخوان المسلمين، للحركة الإسلامية التي كان حكمها للسودان حتميا في عام 1989. و هو ما جعل وصولها للسلطة معروفا و مفاجئا في نفس الوقت.
حسب قاعدة التحليق الصامت للروح، فإن الفكرة المعينة تنتشر بين الناس في صمت، تنتشر عبر النقاشات الصغيرة داخل البقالة و بين الطلاب. أو بلغة أيامنا، تنتشر داخل التعليقات الصغيرة في الفيس بوك، و في ونسات الوتسآب. تنتشر عبر قبول الناس لها كمواضيع نقاش أولا، ثم قبولهم لفكرة أنها أفكار يمكن الإقتناع بها، ثم قبولهم لها بدون الإعتراف بأنهم قبلوها. هذا الإنتشار الصامت، و رغم أنه لا يحدث بين المثقفين و الزعماء السياسيين، إلا أنه يمكن أن يكون محل إهتمامهم. و محل تركيز أستراتيجيتهم بعيدة المدى. و عندما تنتصر الفكرة، فإن إنتصارها لا يأخذ بالضرورة شكل الإنتصار التقليدي، بل يظهر بصورة ملتوية. قبول المعارضة في الثمانينات بفكرة أن الحركة الإسلامية هي العدو المشترك، كان الحدث الذي أظهر الإنتصار القاعدي للفكرة الإسلامية في المجتمع: الفكرة الإسلامية أصبحت "فجأة" الفكرة التي تقاس عليها بقية الأفكار. في هجومها الجماعي على الحركة الإسلامية، في إظهارها على أنها الشر المطلق، كانت المعارضة تعلن نهاية فترة التحليق الخفي و بداية المفاجأة. و هذا الإنتقال المفاجئ، من اللاشيء (كانت الحركة الإسلامية بتعبيرات الترابي تجري دائما خلف الحركة اليسارية و تتعلم منها و تقلدها) إلى ال "كل شيء"، هذه المفاجأة، هي مفاجأة ضرورية. و هنا تكمن العبقرية السياسية للترابي، في بداية إنضمامه للحركة الإسلامية كانت الحركة صغيرة و ثانوية، هو أمكنه ليس فقط أن يرى إمكانية المفاجأة، بل و أن يفهم أن المفاجأة نفسها هي في وضع الواحد منا لنفسه كلاعب داخل الساحة و ليس كمجرد متفرج و مراقب للتاريخ: تحدث المفاجأة أصلا لأنه داخل العالم الحالي هناك شيء لا ينتمي لهذا العالم، و بالتالي بإمكانه، حال تحركه بصورة صحيحة في عالم الأفكار، أن يصنع عالما جديدا، و هذا الشخص هو حسن الترابي نفسه. الإنسان بصفته التمثل المادي "للروح التي تحلق في الخفاء". و هنا تكمن عبقرية الترابي في توظيف نفسه في إنغماسه السياسي البناء.
هل يجوز، بالنسبة كعلماني تقدمي مثلي، أن أصف حسن الترابي كعبقري؟ إحدى مهام المثقف الثوري هذه الأيام هي إستعادة "الجدل" في داخل كل مسلمات الحركة التقدمية. لا يجب أن ندرك أنفسنا كحركة واحدة، علينا دائما أن نبحث عن ما يفرقنا، عن ما يجعلنا حركتين: واحدة نخبوية و الأخرى قاعدية. إذا كان للمصطلح سيء الذكر (الصراع الطبقي) أي معنى هذه الأيام، فهو في فكرة أن الصراع هو في داخل الحركة التقدمية نفسها، و بصورة عامة و أكثر جذرية في داخل الطبقة القاعدية نفسها (في الفصل الأول من "نظرية الذات" شرح آلان باديو فكرة أن البرجوازية اليوم هي مجرد فكرة و نمط حياة، المنظومة الحالية لا تعتمد على وجود طبقة برجوازية واضحة، و بالتالي فإن الصراع الطبقي اليوم هو في داخل المقاومة نفسها، بين نوعين من الأفكار المقاومة). و لذلك فإنه مثل كل شيء، ليس هنالك "حسن ترابي" واحد. بل إثنان. من منظور قاعدي فإنه هنالك أشياء تحررية في حسن الترابي، تلك الأشياء التي جذبت أطيافا واسعة من القاعدة له: يستطيع الواحد أن يستعير وصف إستالين للينين هنا "حسن الترابي كان، بمعنى من المعاني، إستراتيجيا بارعا من إستراتيجيي الطبقة العاملة" هو أوصل الجماهير الإسلامية الواسعة لحالة من التنظيم و الوضوح الأيديولوجي مكنها من التعبير عن نفسها و الوصول للسلطة، كان بمقدور حسن الترابي أن يرى دائما الفرصة في المستقبل، الفرصة التي يفتحها فعل جماعي، و أخيرا قدم حسن الترابي للناس "يوتوبيا" حلم ليتطلعوا له. ماذا فعل العلمانيون الكسالى للناس مقارنة بذلك؟
لكن، في عبارة الطيب صالح "من أين جاء هؤلاء؟" توجد روح أخرى. عندما تقرأ المقال القصير للطيب تستطيع أن ترى أن التفاجؤ مصدره شيء آخر: كل الحقائق التي عددها الطيب بصفتها المعاناة التي يعيشها السودانيون تحت الإنقاذ، هي حقائق لا تنتمي لحقبة الإنقاذ فقط، بل هي جزء من المعاناة الدائمة منذ عشرات السنين. ما جعل هذه المعاناة مفاجئة هذه المرة هو حقيقة أنها تتم و لأول مرة في تاريخ السودان تحت غطاء أيديولوجي أصولي مقيت. سيكون بمقدور الكادر الإسلامي أن يتجاهل هذه المعاناة، و غياب الحرية، و القمع، و التعذيب، بصفتها مجرد ضرورات في سبيل تحقق خلاصه الروحي، و الخلاص الروحي للمجتمع ككل. نحن "السودانيون" تحولنا تحت ظل هذه الأيديولوجيا لمجرد أدوات في يد الرب، في يد النص المقدس الذي هو الرب. و في يد شيوخ الدين الذين يفهمون هذا النص المقدس و بالتالي فهم، بمعنى من المعاني، الرب أيضا. مشروع حسن الترابي كان مشروعا قاعديا، و لذلك فهو "واحد منا"، و لكنه كان مشروعا شعبويا و أصوليا كذلك. و لذلك فنحن فقط، من منظورنا القاعدي الجذري، سيكون بإمكاننا أن نقدم النقد الحاد المناسب له، و أن نتعلم منه و نتجاوزه فعلا في نفس الوقت. بينما من المنظور النخبوي المريح فالترابي مجرد مجرم يجب أن ينسى. أعتقد أن هذا المنظور النخبوي سيعجب الترابيين الأصوليين أكثر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق