الخلفية
لطالما لَعِبَ المتعلُّمون السودانيون، والطبقة الوسطى عموماً، دوراً رجعيَّاً في السياسة السودانية. فتحْتَ سَمَعِهم وبصرهم تمّ تمرير استراتيجية "تثقيف" الصراع السياسي. التثقيف الذي أخرج الاقتصاد والواقع المادي بالمُجمل من معادلة الفعل السياسي في البلاد. وبينما تحوَّلت السياسة السودانية إلى حالة دائمة من الصراع الثقافي بين العرب والأفارقة وبين الإسلاميين والعلمانيين، تم، وبصورة منهجية، سحقُ طبقات اجتماعية فقيرة وتجريدها من أية حياة ذات معنى. يشتغل العامل السوداني المتوسط لساعات طويلة جداً، إن كان في قطاع المواصلات أو في قطاع البيع بالتجزئة وغيرها، وفي أغلب الأحيان فإن هذا العامل يتحصل على فُرَص عمل بشكلٍ متقطِّع وباليومية. وليس له أن يحلم حتى بوظيفة دائمة أو بضمان اجتماعي في أوقات المرض أو عند التقدم في السن. ولأنه في الغالب شخص "جاهل" بلا أيِّ منفذٍ للمعرفة ومجال الاحتجاج الإلكتروني، فإن ضعفه سوف يُضَاعف نفسه مع الوقت، وستعمل نخبٌ دينيةٌ مقيتةٌ على نشر "وعيها الزائف" و"أفيونها" بين هذه الفئات لتُحوِّلْهَا لفئات فقيرة أصولية تعمل على منع نفسها ذاتياً من الحرية. على هذه الأنقاض البشرية عاشت الطبقة الوسطى السودانية امتيازها النسبي في التعليم الجيّد، واحتكار فُرص السفر للعمل وإكمال الدراسة في الخارج. ومؤخراً، قامت الحكومة بتمرير استراتيجية خصخصت بموجبها التعليم الأساسي والثانوي الذي كان المنفذ الوحيد الذي يصل الفقراء في السودان من خلاله إلى حياة أفضل. وبالتأكيد فإن الطبقة الوسطى السودانية، وهي القادرة على تعليم أبنائها بالمال، لم تُبدِ كثير تذمرٍ ولا قلقٍ من هذا الواقع التعليمي الجديد.
و لكن، ولأن المجتمع لا يمكنه أن يقف بصورة مستقيمة على هذا الحُطام، أفاقت الطبقة الوسطى السودانية على واقع تتعرض فيه هي نفسها للإضعاف والإفقار المنهجي. فنمط الاقتصاد الذي يركز الثروة والقوة تدريجياً في يدِ الأقلية سوف سيؤدي حتماً إلى توسّع دائرة الفقر والاستبداد تدريجياً، خاصة عندما تسيطر على مقاليد الأمور حكومة قامت آيديولوجيتها الثقافية الإسلامية على افتراض أن السياسة هي الصراع من أجل "الشريعة"، وأن الاقتصاد يجب أن يُترَك ليدير نَفسَهُ بنفسه، الآيديولوجية التي تستند على مقولات دينية مصدرها مجتمع ما قبل رأسمالي بدائي. وقد أدت هذه الآيديولوجيا إلى تقليص التخطيط الاقتصادي في البلد لمستوى الإدارة التي تشبه إدارة الشركات. وهكذا لم توضع خطط لزيادة فرص العمل، أو لتوفير أي موارد للدولة لتحقق أقل قدر ممكن من العدالة الاجتماعية. الأمر الذي أدى ليكون المشغل الأكبر للطبقة الوسطى السوداني هو "الخارج"، ذلك أمرٌ تقبَّلته هذه الطبقة بصدرٍ رحب. وتحول "الاغتراب" في عرفها إلى امتياز يُعيد الواحد منا للوطن بعد فناء سني عمره في الخارج ليكون له عربة وبيت وزوجة بالطبع (تحولت هذه الأشياء الأساسية البسيطة لأشياء يحظى بها الأثرياء فقط). لكن يحق للمرأ أن يسأل عن إمكانية استمرار الخارج في استقبال كل العمالة الماهرة السودانية، خاصة أن السودان ليس الدولة الوحيدة الفاشلة في العالم الثالث. وقد بدأت الطبقة الوسطى السودانية تشعر بالفعل بآثار "تشبع" سوق العمل الخارجي عندما بدأ التعليم في الخليج يُنتج ثماره. حالياً تعمل مجموعات كبيرة من الشباب السوداني ذوي التعليم الجامعي في دبي مثلاً في وظائف ثانوية؛ كحراس أو موظفي استعلامات، وبمرتبات متدنية تجبر الواحد منهم لأن يعيش في غرف بها عدد كبير من المسحوقين الآخرين، وبأفق تطور مهني متدنٍّ جداً. ولأن شر البلية ما يضحك، فإن هؤلاء الشباب ينظرون لأنفسهم باعتبارهم محظوظين!.
أما بالنسبة للثقافة التي أنتجتها الطبقة الوسطى، فهي ثقافة وصفها أحدهم مرة بأنها "ثقافة التفاهة". ولهذه الثقافة وجهان مختلفان يشكلان منظومة تدمير ثقافي واحدة: وجهها الأول هو التهكم Cynicism. حيث يتفاخر الإنسان بأنه لا يأخذ أي شيء بجدية (في ما عدى تفاهاته الشخصية كمستقبله المهني بالطبع) هذا التهكم البائس المزيف يخفي خلفه خوفاً شديداً من عاديات المجتمع وانسحاباً من نقدها وتصحيحها، ولذلك فإن النتيجة تكون تناقضاً صارخاً. فمن جهة سيسخر النخبوي المتهكم من أية محاولة تفكير جاد في الواقع، من كل محاولات تغيير الواقع، وسيتباهى بأنه يقبل الأمور كما هي، فهو "واقعي" لا يحلم ولا يشعر بالأمل؛ ومن جهة أخرى فإنه سيتذمر بلا انقطاع من كل شيء تافه يعيق طريقه: الصفوف الطويلة في مراكز الخدمة المدنية، انقطاع التيار الكهربائي، سوء المواصلات العامة .. إلخ. أما الوجه الآخر "لثقافة التفاهة" فهي ثقافة النضال السطحي الموسمي. ينشط داخل هذه النخبة تيار يستثمر في القضايا العامة ليحولها لأمور تثري الحياة الفردية "بالإثارة" و"المغامرة"، وبالتالي يتحول النضال لفعل ردّ فعلٍ بحت، ردّ فعل مؤقت وجزئي لا يهتم بالاستمرارية ولا بالتحليل الكامل للواقع. وليكون هذا النوع من النضال المثير للسخرية ممكناً، فإنه لابد من أن يتم اختزال قضايا الأمة في رؤى بسيطة ومختصرة تُفَسِّر كل شيء لأنها لا تفسر أي شيء. في هذا الإطار ظهرت السرديات غير المجدية كسردية "الفساد الشخصي" وأن الحل يمكن في "الانتهاء من الإسلام السياسي وفي العلمانية" وأن الحل "في الديمقراطية".
ولا تعيق هذه التفاهة كل فرص الفعل السياسي الجاد فقط، بل تدمِّر كذلك فرص التحرر الفردي، وتنتج من ثمَّ مجموعة من الأفراد "المُطِيعين". فخلف غطاءٍ خفيفٍ من التحرر الشكلي، يحافظ أفراد الطبقة الوسطى على كل "ثوابت" المجتمع كما هي، ويُنَفِّذ الواحد منهم الأمر الاجتماعي الواحد تلو الآخر إلى آخر يوم في حياته. لاحظ مثلاً الطريقة التي يعطي بها المجتمع تعريفاً محدداً لكل تفاصيل حياة الأفراد، ابتداءاً بتعريف "النجاح والفشل" مروراً بـ"العلاقة بين الرجل والمرأة" وإلى أن نصل للأمور البسيطة كطريقة إنجاز حفل الزفاف وغيرها. هذه الحياة الفردية الفقيرة ستقضي على أية إمكانية للتمتع بالفن أو إنتاجه. وأكثر من ذلك. لن تفهم هذه الطبقة ما هو الفن أصلاً. يشيع على سبيل المثال أن يتم اختزال رائعة الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" في الصفحات ذات المحتوى الجنسي المثير للجدل. وفي داخل ديناميكية الرجعية التي بنتها الطبقة الوسطى تم تثبيت التناقض بين الاهتمام بالفنان والاحتفاء به من جهة، واعتبار العمل في سوق الفن فعلاً حقيراً في نفس الوقت.
على هذه الخلفية يجب علينا أن نقرأ الواقع الذي وَجدَ فيه الأطباء أنفسهم (وهم ذروة سنام الطبقة الوسطى، أو كانوا كذلك سابقاً). وأكثر من ذلك. إن المجتمع المفصول، الذي منت الطبقة الوسطى نفسها به، ليس مجتمعاً ممكناً. فعاجلاً أو آجلاً سيجد الأفراد المنعمون أنفسهم في مواجهة الكلية البائسة للمجتمع. وقد حدث هذا الأمر بالنسبة للأطباء؛ فالطبيب الذي يأتي من مجتمع "نظيف" راقي يواجَه بالبشاعة منقطعة النظير لقطاع الصحة الذي تركته دولة البرجوازية الصغيرة بلا أي دعم. أذكر أننا كنا عندما نذهب للمستشفيات ونحن طلاب تعيق الواحد منا الرائحة الكريهة للمستشفى، ويزعجه اتساخ المكان. هذا غير أنه أمام المعاناة غير الإنسانية للمرضى الفقراء فإنه يكون أمام المرء خياران: إما أن يفقد إحساسه تماماً أو أن تقتله الشفقة والخجل. وكلنا يختار الأولى.
إضراب الإطباء
معرفتي بتاريخ إضراب الأطباء هي معرفة ذاتية، وبالتالي فهي معرفة ضعيفة. وإضراب الأطباء هو من الأحداث الأساسية في تاريخنا الحديث، لكن، ولأنه يقع آيديولوجياً خارج دائرة اهتمام الحكومة والمعارضة فقد تم تجاهله. ولم يُكتَب تاريخه بصورة دقيقة، على حدّ علمي، إلى الآن. لذلك سوف أركّز في سردي للأحداث على الزاوية التي كنت أرى منها الحدث وأنا طالب بكلية الطب في جامعة الخرطوم. الكلية التي أصبحت في أيام الإضراب الأخيرة جزءاً مهماً من الأحداث.
بعكس نزعة الاستعجال التي مَيَّزت تكتيكات المعارضة التقليدية، كان فعل الأطباء من البداية فعلاً صبوراً جداً. فالأمر الذي بدأ كتجمع لنواب الأخصائيين تَوَسَّع بصورة متدرجة ليشمل جميع أطباء السودان خلال عدد من السنوات. وبينما تسعى قوى المعارضة الهشة لاصطناع المواجهة مع الحكومة في كلِّ وقت، كان الفعل النقابي للأطباء يسير في خطّ التفاوض مع المنظومة ومحاولة تفادي أية مواجهة غير متكافئة معها. الأمر الذي أدى لالتفاف جموع الأطباء حول النقابة الوليدة لأنها أثبتت لهم، بمرور الوقت، أنها تسعى فعلاً لتحقيق مطالب الأطباء وليس استثمار قضيتهم كجزءٍ من استراتيجية المعارضة في مواجهة الحكومة. ويمكننا أن نصف هذه الحالة التي يعود فيها الناس للسياسة عبر رفضهم النمط السائد للسياسة "بالتسييس الجذري". حيث يستعيد الفرد إحساسه بالسياسة في شكلها المادي. ما واجهه الأطباء في الحكومة لم يكن "إسلاميتها" بل "استغلالها المادي لهم". وربما يكون كل حديث الإسلام السياسي عن "الشريعة" و"العلمانية" و"الكفر" هدفه إخفاء هذه الحقيقة المادية البسيطة.
و قد كانت إحدى الاستراتيجيات المهمة للجنة الأطباء هو اعتمادها على العمل من داخل المنظومة القانونية للدولة. لم تواجه النقابة النظام باعتبارها جسماً خارجاً على الدولة، فتُسَهِّل على النظام قمعها بوصفها تمرداً. ولم تواجهه بمطالب تعجيزية، ليكون بإمكانه التذرع بأن هدف النقابة هو تعجيزه وليس تحسين ظروف الأطباء. كان حراك الأطباء يعتمد دائماً على مطالب واقعية بسيطة وتستطيع الدولة تنفيذها، بل لا يمكن لأية دولة في العالم أن ترفض تنفيذها. وأكثر من ذلك؛ صبرت لجنة الأطباء على مماطلات الحكومة لفترة طويلة حتى حصلت على تعهدات مكتوبة منها. وكانت الوثائق التي كتبتها الحكومة على نفسها إحدى أهم أسلحة الأطباء ضدها لاحقاً. بما في ذلك وثيقة وعود مُوقَعَّة من الرئيس شخصياً.
أما على صعيد القيادة، فإن الأطباء، وتحت وطأة القهر المادي للدولة، تمكنوا أخيراً من كسر حلقة "ثقافة التفاهة" التي تُمَيِّز النخب. طوال أيام النضال النقابي الطويل، كان النقاش المنطقي العملي هو السمة السائدة بين الجميع. وأصبح واضحاً مع مرور الوقت أن القضية لا يمكن لها أن تسير بلا فكر وحسن إدارة. الأمر الذي تُوِّج باختيار الأطباء لممثلين بنوعية ليس لها مثيل بين صفوف القيادة التقليدية في المعارضة. الاسم الذي حصل على الشهرة الأكبر كان دكتور الأبوابي رئيس اللجنة. وأذكر أننا كنا نشاهد فيديوهات المخاطبات التي كان يحييها الدكتور في المستشفيات ونتعجب كيف أمكن لمثل هذا "الخطاب" أن يُخلَق في واقعٍ بائسٍ كواقعنا! وتحول دكتور الأبوابي لاحقاً، وعن استحقاق، لأحد الرموز الثقافية والنضالية في البلاد.
لكن ماذا بالنسبة "للوعي الزائف" الذي يواجه به إسلاميو السلطة مثل هذه الحركات؟ كان موجوداً بالطبع. ولا يستطيع الواحد منا أن يتخيل حراكاً اجتماعياً لا يواجه بالتفاهات الآيديولوجية للإسلام السياسي. أذكر أنه وفي خضم تسارع أحداث الإضراب وتوحش أجهزة الدولة الأمنية أمام فعل نقابي رصين (يجب أن نتعلم كيف نضع الدولة في هذه الحالة، حيث لا نكون نحن، بل هي، في حالة من الغباء والهياج وغياب التفكير). في خضم كل ذلك سمعت أحد أعضاء تنظيم الحكومة في الجامعة يخبر أحد الطلاب كيف أن دكتور الأبوابي "جمهوري" ثم يفسر له: "الجمهوريين ديل بتبعوا محمود محمد طه إللي هو كان ما بصلي". أو شيء من هذا القبيل. ثم إن الجميل في الأمر هو أن الغبن الذي نشعر به نحن عادة أمام مثل هذا التضليل المتعمد للناس، انعكس عليهم هذه المرة؛ فأمام الحراك المادي المخطط له لن تجدي هذه الألاعيب التي تظهر مكشوفة ومضحكة. استمر الأطباء في التحلق حول الرجل الذي يتبع الرجل الذي لا يصلي.
الدرس الأخير لإضراب الأطباء كان في إعطاءه مثالاً للطاقة الإيجابية التي يمكن أن تتفجر عندما يشاهد الناس شيئاً حقيقياً يحدث أمامهم. لا يجب أن نُمِيت قلوب الناس وحماستهم في نضالات يومية متفرقة وسطحية (مثل المظاهرات الموسمية التي أصبح طلاب جامعة الخرطوم يخرجونها بلا أية رؤية والتي تبدوا وكأنها لغرض التسلية). فهنالك شيء شديد الأهمية في كسب معركة أن يبدوا النضال للناس كشيء ذي معنى، وهذه معركة لا تكسب عبر الخطاب البسيط على النمط الذي أدمنته تشكيلات المعارضة في جامعة الخرطوم، بل تكسب عبر شيء مثل الفعل الجاد الذي قامت به لجنة الأطباء. أذكر أنني كنت أحد أولئك الذين التزموا لأول مرة في حياتهم في فعلٍ جماعيٍّ بناءٍ في تلك الأيام. ورغم أن كل شيء كان يبدوا تعيساً (عندما وصل الأمر لنا في الكلية، كان قد أصبح واضحاً أن العملية النقابية قد فشلت) إلا أنه لا يجند الناس في السياسة شيء مثل الفشل "المرير".
ولم تتوقف الإبداعات الفردية في إضراب الأطباء على القيادة ونشاط الأفراد في القاعدة. بل تجاوزت ذلك إلى تأقلمها كمنظومة مع روح العصر تلقائياً. قبل تفجر وسائل التواصل الاجتماعي كأداة سياسية معروفة في 2011 مع ثورات الربيع العربي، سبق الأطباء السودانيون الجميع في استخدامهم وسائل التواصل الاجتماعي بوصفها المساحة الرئيسية التي انتظموا داخلها. وقد أتاحت هذه الميزة للأطباء فرصة كبيرة للوصول لقطاعات أوسع من الناس، وللعب مع الحكومة في مجال لا تمتلك فيه الأخيرة ميزة القمع الشامل التي تمتلكها في بقية المساحات المتاحة.
الفشل
لكن كل ذلك لم يُجدِ. والأفق الرائع الذي فتحته النقابة الوليدة تم إغلاقه. أولاً، حرَّك إضراب الأطباء، وبصفته القاعدية الطبقية تحديداً، ردّ فعلٍ شاملٍ من كل الفئات المستفيدة من الواقع الراهن (الأطباء أنفسهم انقسموا لطبقتين، إحداهما يمثلها الأخصائيون والأخرى تشمل بقية الأطباء ممن يقف النظام الصحي المائل على رؤوسهم). الأطباء المنتمون لتنظيم الحكومة كان لهم الدور الريادي في إضعاف الإضراب لاحقاً. لكن الدور الأعظم كان لوسائل الإعلام. السلطة الرابعة التي تمتلكها الدولة ومراكز قوة أخرى لها صلة عضوية بالدولة. ومن هذه الوسائل خرج خطاب شرير يتحدث عن الأطباء بوصفهم مجموعة من المدللين الأثرياء الذين لا يرضيهم وضعهم المميز في المجتمع. ثم جاء الدور للأقلام التي تشكل الرأي العام، كقلم شخص كالهندي عز الدين، لتعطي الناس النسخة الكاملة من القصة، نسخة سيكون من الصعب حتى على الطيب صالح تخيلها. أما أجهزة الدولة الأمنية، وكما ذكرت سابقاً، فقد بدأت تتعامل مع الأطباء بصورة بشعة، كانت قد بلغت قمتها مع اقتحامهم للميز الذي احتمى الأطباء والطبيبات في داخله.
لكن، ما يجب علينا اليوم أن نعيه بالنسبة لهذه التجربة النقابية الفريدة، هو أن الضربة القاضية لم تأتِ من الخارج بل من الداخل. اتخذ الأطباء، تحت ضغط الاعتقالات التي طالت قياداتهم، قراراً بأن يتوقفوا تماماً عن العمل، بما يعني أنهم لن يقوموا بعلاج أية حالة مهما كانت خطيرة. وعلى الرغم من محاولاتهم الدؤوبة بعد ذلك لصنع "بديل" ما لأقسام الطوارئ -كتأسيس خيام صحية خارج المستشفيات مثلاً- إلا أن الخيط الرفيع الذي كان ما يزال يربط الأطباء بالناس انقطع مع هذا القرار. وعلاقة الأطباء بالناس علاقة غير جيدة عموماً، حتى قبل الإضراب، حيث ينشط الأطباء في داخل منظومة صحية تعاملهم كحيوانات لا كبشر، لا تعطيهم أي عائد مادي، ولا توفر لهم أقل متطلبات العمل. هذا بخلاف غياب المراقب. ولمن لا يعلم عن أهمية المراقب (أو الأستاذ/الأخصائي) في الحقل الطبي، يمكننا أن نقول له بأن المستشفيات ولأنها أماكن تذهب فيها حيوات البشر في لحظة، هي أماكن تعمل بتراتبية مهنية صارمة؛ يتعلم فيها الطبيب في التراتبية الأدنى العمل، والتقنيات الأخرى المهمة كأخلاقيات العمل وكيفية التعامل مع المرضى، مِن مَن هم أعلى منه مرتبة. هذا الفراغ في التحفيز والمراقبة أدى لتحول وظيفة الطبيب لوظيفة ليست لها أي معايير؛ يحدد الأطباء المتخرجون حديثاً الطريقة التي يريدون بها أن يعاملوا المرضى. وفي جوٍّ بائسٍ جداً لا يجب أن يتوقع الناس منهم أن تكون هذه الطريقة رائعة.
هذا بخلاف الخدمة البائسة التي يقدمها الأطباء للمرضى، نتيجة لغياب أبسط إمكانيات العلاج. أدوية أساسية ومعدات بسيطة لا تهتم الدولة بتوفرها مجاناً للناس. الأمر الذي يقتل الناس في المستشفيات بأعدادٍ ربما تتجاوز أعداد من ماتوا في حروب السودان الطويلة. هذا المواطن الذي يأتي للمستشفى فيموت فيها قريبه، أو لا يجد المعاملة المثالية، أو يخرج منها بمرضه..إلخ. هو مواطن تم تجهيله عمداً. فمكان أي حد أدنى من التعليم الاجتماعي الذي يمكن الأفراد من فهم ما يدور حولهم (كحقيقة أن المسؤول هنا هو المنظومة والنخب المستفيدة منها) تم وضع تفكيرٍ دينيٍّ بائس جداً، أصولي لا عقلاني، مضاد للحياة والأخلاق والجمال. آيديولوجيا تجعل الناس يهتمون بأمور تافهة بعيدة عنهم ولا علاقة لها بحياتهم المباشرة، وتحرمهم من أية قدرة على فهم ما يجري حولهم، تم نشرها بصورة منهجية في كل وسائل الإعلام. الأمر الذي كان قد وصل لمداه مع صعود نجم أشخاص كالطيب مصطفى بعد انفصال الجنوب.
في داخل هذه المنظومة الاجتماعية المختلفة في المستشفيات نَمَت عداوة مبطنة بين المرضى والأطباء. وبالمناسبة فإن أغلب الأطباء الفاعلين في المستشفيات الحكومية هم أطباء امتياز جدد بلا أية خبرة، يُرمَى بهم في هذا المستنقع مباشرة ليواجهوا مصيرهم.
حاول حراك الأطباء أن يتوغل بمطالبه ليصل للناس. فكان الأطباء يطالبون دائماً، فيما يطالبون به، بتحسين الخدمة الصحية المقدمة للناس. وأنا أعلم أن الأطباء كانوا في كامل الجدية في هذا المطلب. فهم أكثر من يدفع ثمن سوء الخدمة والموت المجاني الذي يشاهدونه أمامهم يومياً، إن كان عاطفياً أو عملياً. لكن، ولأن التجربة كانت الأولى من نوعها منذ وقت طويل جداً، ضاعت سبل الأطباء إلى الناس في زحمة صراعهم العملي مع الحكومة. فلم يتمكن الأطباء من تضمين استراتيجيتهم ما يضمن لهم أن ينحاز الناس لصفهم متى ما فتحت الحكومة جحيمها المتوقع عليهم. وربما يمكننا هنا أن نخرج بالنقد من الأطباء ونوجهه للمثقفين والسياسيين الذين كانوا قد أكملوا عملية "تثقيف السياسية" بما جعلهم يقفون متفرجين لا تثيرهم ولا تستفزهم أسئلة السياسة "المادية" التي جاءهم بها الأطباء: كيف تستطيع النقابة أن تكسر الحاجز الهيكلي بينها وبين بقية فئات المجتمع؟ هذا السؤال البدائي والسهل في أسئلة السياسة المادية لا تهتم به النخب، وبالتالي لم يجد الأطباء عند المثقفين إلا الحديث المكرر عن شر الإنقاذ المطلق. كان بإمكان للمثقفين والسياسيين أن يؤدوا واجبهم ببناء منظومة فكرية وعملية تتجاوز الأطباء لتشمل المجتمع بأكمله، منظومة تستطيع أن تربط القهر المادي للأطباء بالظلم الذي يتعرض له العاملون في القطاعات الأخرى. قديماً، عندما كان من الممكن أن نتحدث بلغة السرديات الكبرى، كانت هذه المنظومة تسمى "حزباً ثورياً".
سيكون من الممكن للحكومة أن تتعامل مع فئات المجتمع كل واحدة على حدة. لذلك فالتنظيم النقابي الفئوي لن يكفي. دعونا نضع على التساؤل أمامنا مفتوحاً: كيف كان من الممكن للأطباء أن يورطوا بقية قطاعات المجتمع في حراكهم؟
الشيء الآخر الذي سيكون مهماً حال سعى الناس لاستعادة استراتيجية الإضراب الفعالة، هو أن على الأطباء أن يخلعوا عن أنفسهم رداء الطبقة الوسطى التقليدي. عليهم أن لا ينظروا لموقعهم داخل المجتمع كموقع محايد وُجِد بالصدفة، فهم أنفسهم نتاج لامتياز اجتماعي معين. وعليهم من ثم أن يهجروا ثقافة التفاهة إلى نوع أو آخر من الثقافة الثورية. إن ثقافة اللامبالاة لا تضعف المجتمع فقط، هي تضعف الإنسان نفسه. عندما يعيش الإنسان وهم أنه "هو" مركز الكون وأنه الشيء المهم الوحيد، فيما يعرف عند علماء النفس "بالنرجسية". سيقع الفرد النرجسي تحت أسر قوى خارجية دائماً، النرجسية لا تؤدي لتُكَوِّن "الفرد الحر" بل لغيابه. لاحظ مثلاً كيف يتأثر الإنسان النرجسي بأقل احتقار يجده من الآخرين في الخارج، أو كيف يذهب محموماً في بحثه عن النجاح المهني تخيفه سخرية الآخرين من فشله، وهكذا حتى لا يبقى في حياته شيء لا يحدده "الآخرون".
حتى يتكون "الفرد" فإنه بحاجة لأن يقبل ما سماه فرويد "بإهانة الحداثة"؛ حيث تكالبت العلوم على الإنسان تشرح له أنه ليس مركز الكون. أولاً جاء جاليليو، ثم تبعه داروين، ثم جاء فرويد نفسه ليشرح لنا أن "النفس" هي مجرد وهم محدد اجتماعياً. عندما نقبل هذه الإهانة ونتحرر من تعلقنا الشديد بالنفس (مثل اهتمامنا الشديد بأحاسيسنا وضمائرنا وغيرها من الأمور التي تبدوا لعتباطية من منظور العقل المجرد) فإنه هنالك في وسط عدم ما توجد "الذات" الفردية. ومن هذا العدم سيكون من الممكن للأفراد أن يخلقوا أنفسهم (هنا يكمن الفرق بين الفقير والبروليتاري: الفقير هو شخص سحقته الحياة وحولته لعدم. شخص ليس له أي شيء من "غنى النفس" Wealth of Personality وليس له مكان داخل المجتمع؛ البروليتاري هو الذات الثورية التي تخرج من ذلك العدم). الفنان مثلاً هو شخص ينتج الجمال لا ليرضي نفسه أو ليشعر بالسعادة، بل تحديداً ليخلق شيئاً جديداً من العدم، ونفس الأمر بالنسبة للعالم الحق، كأينشتاين، لم يكن بحثه عن الكشف العلمي جزءاً من نزعة نرجسية باحثة عن تقدم مهني أو غيره مما يحرك أنصاف العلماء هذه الأيام. إحدى وسائل خلقنا لذواتنا من العدم هو بناؤنا لشيء جماعي. أن نبني الـ"نحن" من الصفر كما يقول آلان باديو. تلك هي السياسة.
لن ندخل، نحن النخبويون الذين نحتل موقع "البرجوازية الصغيرة" الرجعية في المجتمع، في الحداثة عبر الحصول على منتجاتها المادية. نحن بحاجة لصدمات فردية وجماعية، مثل تلك التي تحدث للأطباء، لنستيقظ من الأوهام النرجسية التي تبقينا حبيسين للقديم وخائفين من الجديد. تعلمنا هذه التجارب فن التحرر من النفس إلى الذات. ولذلك فإنني أتذكر الإضراب كشيء جميل. علينا أن نضيف هذا البعد للسياسة: هي ليست العملية التي تجلب الحرية (في شكل الديمقراطية مثلاً) فقط، هي كذلك مكان نتحرر فيه من أنفسنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق