السؤال الأهم في تلك الفترة بالنسبة لي، أهم حتى من السياسة ومن كل شيء، كان: كيف يمكن أن أكون حراً؟ لاحظت بسرعة أنّ مجموعات الخارجين على الدين لا تمثل ملجأً بالنسبة لي.
هم كانوا، وما زالوا، يستبدلون منظومة هيمنة بمنظومة هيمنة أخرى. مرجعيات أخلاقية اجتماعية، بمرجعيات أخلاقية اجتماعية أخرى. وبسهولة لاحظت اعتمادهم الكامل على التواجد في شكل مجموعات. ما كان صعباً بعد ذلك هو أن أجد الحرية. أن أفعل الأشياء، وأن أفكر فيها لوحدي، بلا أي إيعازات أو تطلعات يصنعها الآخرون في داخلي. ما كنت أبحث عنه هو الطريقة التي يمكن بها أن أتخلص من منظومة الـbig Other، بتعبيرات جاك لاكان، تلك المنظومة التي يعيش الإنسان حياته كلها محاولاً إرضاءها، وكأنها تراقبه طوال الوقت. علي عزت بيغوفتش قدّم لي بعض اللمحات في هذا السياق.
أولاً، بالنسبة لعلي عزت فإنّ الله لا يمكن أن يحتل مكان «الآخر الكبير» الذي يراقب حياتك ويأمرك بأن تتبع تعليماته بحذافيرها. هنا نحن نتحدث عن إله ليس جزءاً من الوجود God beyond being بتعبيرات سورين كيركيغارد. الله هو الحقيقة، هو ذلك الشيء الذي يجعلنا نسخر من كل الأشياء التي نحاول أن نجعلها تقود حياتنا: الأسرة، الدين الأصولي، المجتمع، الآخر الذي نحبه، المثال الذي نحاول أن نصبح مثله... إلخ. هو الشيء الذي يجعل «الآخر الكبير» مضحكاً. ولأن الحقيقة لا توجد إلا في الوحدة، فإن الله ليس هو ذلك الشيء الذي يخلصنا من وحدتنا، بل هو ما يجعلنا نتحمل هذه الوحدة حتى نصل الى الحقيقة. يلعب الله في التديّن التقليدي دور الراعي من قسوة الحرية، هو يخلصنا من الحرية، بينما نحن نتحدث هنا عن قسوة الحرية بوصفها جزءاً من الحقيقة.
لكن هل سبق وتعلمنا أن «الحرية» شيء قاس؟ ما هو القاسي في أن أفعل ما أريد؟ المشكلة فيما تعلمناه عن الحرية هو أننا لم نتعلم أن علينا أن «نقرر» ما هو ذلك الذي نريده. الحرية التي تقدم لنا، في صورة التمرغ في حياة التفاهة، هي حرية فعل ما قد حدد سلفاً. هي حرية تتضمن جبرية أننا سنبحث عن السعادة واللذة. لذلك فإننا عندما نتواجه بالحرية الحقيقية، عندما يحب أحدنا مثلاً، فإننا نهرع للبحث عن سند خارجي يضمن لنا أن ما «قررناه» كان صحيحاً. يشيع أن يبدأ العاشقان الجديدان في البحث عن العلامات الكونية التي تطمئنهم أنهم «روحان قدر لهما أن يكونا سوياً». ما إن نصب تركيزنا في أن الحرية هي بالأساس في «تقرير» ما نريد فعله، حتى تتحول الحرية لشيء كثيف وثقيل. إذ معها لا تأتي المسؤولية فقط، بل كذلك الوحدة.
ثانياً، هنالك في حياة علي عزت بيغوفتش إشارات نحو «أخلاق الرغبة». تلك الأخلاق التي تنشأ من سعينا لتحقيق الأشياء التي نريدها، بغض النظر عن ما سنحصل عليه، إن كان السعادة أو الألم. ما يغفله البعض هنا هو أن هذه الأخلاق، بحيادها أمام السعادة والألم، فإنها لا تفضل الألم. بمعنى أنه في داخل هذه الأخلاق، فإن الإنسان لن يشعر «بالذنب» لأنه سعيد! ولن يشعر بالذنب لأنه تعيس كذلك. في نهاية كتاب هروبي إلى الحرية توجد مراسلات كان علي عزت قد تبادلها مع ابنته وابنه. يمكن بوضوح ملاحظة أنه كان يصنع حياة سعيدة طبيعية هناك. حياة يرغب هو أن يكون جزءاً منها. ولكنه يرغب كذلك في أن يكون جزءاً من سياسة تحررية حقيقية: سيرفض علي عزت التقدم باسترحام شكلي لنظام تيتو كان كفيلاً بحذف عدة سنوات من عقوبته. ولم أجد أي شعور «بالتضحية» بين الحروف التي كتبت بها الحادثة. هو ككانتوي حقيقي (نسبة لإيمانويل كانت) كان يتبع «رغبته... في السياسة والحب» من دون التفكير في عواقبها. عندما أدفع ثمن ما أرغب به، فإنه لا توجد أي تضحية هنا، الشعور بالتضحية والبطولة والخير هو أمر مرضي، pathological، بالمعنى الكانتوي للكلمة. بهذه الطريقة نتحرر داخل القانون الأخلاقي من أنفسنا.
أعتقد أنه من المفيد هنا أن نلاحظ كيف استبدلت، أجيال من السياسيين والمثقفين العلمانيين، مرجعية الدين بمرجعية «الإحساس». عندما يتحدث أحدهم عن «إرضاء ضميره» فهو يخبرنا بوضوح أنه سيفعل كل ما يجب حتى يشعر بالراحة النفسية والرضى، بغض النظر عن حقائق الأشياء. في هذا المجال ستجد الأخلاقي غير ذي الجدوى. كل ما سيبحث عنه هذا الشخص الذي يتخفى كثيراً في صورة مناضل مقدام، هو ما سيجعله سعيداً أو راضياً. هو سيدرك حريته في هذا الرضى، رغم أن العكس هو الصحيح.
هنالك منظومة تفكير أخرى، بدأت مع قانون كانت الأخلاقي، تقول بأنه حتى تتحرر فعلاً فإنه عليك أن لا تقوم بالفعل لأي سبب خارج الفعل نفسه. عليك أن تؤدي الواجب بغض النظر عن الشعور الذي ستحصل عليه. وعليك قبل ذلك أن تختار هذا الواجب. سيبدو هذا الفضاء الأخلاقي باهتاً، وربما مخيفاً، لكن ربما إن دعمناه ببعض الأمثلة سيكون ذي مقبولية أكبر.
بالنسبة للمساحة الأولى، حيث القيمة العليا هي لإرضاء الضمير، فإن مساحة الفعل الأخلاقي ستكون محكومة بحدود هذا الضمير، وبسهولة إرضاءه. نحن لا نشعر بالأسى لما يحدث بعيداً عنا، أو لما لا نعرفه. ثم إن ضمائرنا يمكن إرضاؤها بأتفه الأشياء. سيكون بإمكان الفرد الغربي أن يرضي ضميره دائماً ببعض التبرعات لأطفال أفريقيا. ولن يحتاج المناضل العربي لأكثر من بعض من الكلمات الغاضبة على الفيسبوك يشعر بأنه قد قام بواجبه تجاه سوريا. بينما فقط في العمل الفكري والسياسي الآلي، الخالي من المشاعر، يمكننا أن نفكر بكامل التجريد في المشكلة ثم نسعى لحلها جذرياً. لا يستطيع المرء أن يتخيّل حزباً ثورياً من مناضلين تقودهم مشاعرهم للعمل برد الفعل دائماً. ولا يمكن لفكر ثوري أن يصنعه مفكرون يهربون من العمل الفلسفي، البارد والبعيد عن سخونة الواقع، إلى القطع الفكرية السطحية التي تجعلهم يشعرون بالراحة (لا يمكن للفلسفة الحقيقية أن تبدأ إلا في عقل محض، معزول عن كل شيء واقعي). الآن لنسأل: من سيجلب، في النهاية، الفائدة الأكبر؟ من سيساهم بصورة أكبر في تحقيق الهدف؟ ومن هو الحرّ فعلاً؟
انتهت تلك الفترة من حياتي إذن بأن أصبحت بيغوفتشياً (على وزن ماركسياً، ماركس بالمناسبة وهبه الرب اسم تسهل النسبة إليه، وكانه الله كان يعلم كل شيء... «هذه مجرد مزحة»). كنت قد فهمت مبكراً بأنه علي دائماً أن «أتبع» أحدهم. تتحرر في داخل الفكر الحقيقي من نرجسية أنك أذكى البشر، وبأنك المخلص، الذي يجب أن يكتشف كل الحقيقة بنفسه، وأن يسخر دائماً من كبار القوم. تصبح المشكلة هي المشكلة وليس من سيحلها. إن أعطاني أحدهم وصفة لأحل مشكلة الكادحين في السودان فإنني سأصبح تابعاً لهذه الوصفة فوراً. وربما سأقدسه. هكذا هي الحقيقة، تنزل علينا من السماء قوية فلا تترك لنا شيئاً.
ثم بعدها بدأت مرحلة النقاش الجاد مع بيغوفتش نفسه. هذه هي مشكلة التبعية، ليس أنك لن تجد من تتبعه، فلا أحد يستحق، كلا، المشكلة هي أنك لن تستطيع أن تبقى خلف أحدهم للأبد، سترحل الحقيقة في اتجاهات أخرى.
هكذا هم «المعلمون العظماء للإنسانية». إنهم لا يغلقون الباب خلفهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق