أن نبدأ من البداية *
يتذرع أعداء الإسلاميين في السودان بأن الموت الكامل للسياسة سببه تفرد الإسلام السياسي بالسلطة، يشيع مثلا أن يقال بأنه لا يمكن لوم أية معارضة في دولة شمولية على ضعفها، فالمعارضة هي إبنة الدولة الديمقراطية، تزدهر مع إزدهارها. يمكن القول أولا أن هذا النمط من التفكير ينشأ عندما تعرف السياسة على أنها الممارسات النضالية اليومية التي لا يشترط فيها أن تكون مسنودة بفكرة كبرى أو صغرى، بهذا الإختزال للسياسة في الممارسة التلقائيةفإن مشاغبات النخب العلمانية بعد ثورات الربيع العربي يمكن اعتبارها"سياسة ثورية"، بينما هي في الحقيقة سياسات رد الفعل reactionary politics. إن الإنتصار الأعظم للإسلاميين في هذا العصر هو تحولهم للنقطة التي تعرف بها السياسة، لقد تحول الفضاء العام لمنطقة صراع بين الإسلاميين و "من هم ضدهم"، و أصبحت أسئلة النخبة العلمانية تتركز حول الكيفية التي يمكن بها إزاحة الإسلاميين من السلطة أو منعهم من الوصول إليها ديمقراطيا، في فضاء كهذا فإنه لا فرق بين أن تكون ليبراليا أو إشتراكيا أو حتى شيوعيا، فأنت بالمحصلة ضد-إسلامي، تتلخص الإستراتيجية و التكتيك لديك في عبارة "الدولة العلمانية" أو بصورة أكثر إبتذالا في عبارة "الدولة الديمقراطية". لقد كان للإسلاميين في مصر مثلا سبق الفعل دائما، فهم نظموا أنفسهم بين فئات إقتصادية و إجتماعية معينة، و هم صالحوا الأنظمة و خاصموها، و هم كسبوا الإنتخابات و ووصلوا للسلطة، و خسروها. بينما قادت سياسات رد الفعل منافسيهم لفعل كل ما هو مشروع و غير مشروع لمحاولة اللحاق بهم، و كانت النتيجة أنه "و رغم أن الإسلاميين لم يكونوا في السلطة"، فإن السياسة بعد الثورة ولدت ميتة، و إنتهت لأن تقتل الثورة معها. و هذه السياسة الميتة هي ما ينتظرنا هنا حال ذهاب الإسلاميين بالثورة أو بدونها.
إن موت السياسة يظهر دائما في نزعتها للتكرار. عندما فقد العلمانيون السودانيون أي رؤية حقيقية للمستقبل قاموا بتحويل الثورة نفسها إلى غاية و هدف، و هنا ظهر التقديس المريح لثورتي أكتوبر و أبريل بوصفهما الحدث الذي يجب تكراره، و كفى. إن الشعب الذي يخرج ليموت في الشارع بلا أي طائل، كما حدث في الثورتين الماضيتين، تحول للخيال الذي تقوم عليه كل سياسات المعارضة. في الجامعة يتم تربية المناضلين الجدد على فكرة أن "المظاهرة" هي الغاية الأولى و الأخيرة، بحيث يتحول الشاب إلى آلة معارضة لكل ما هو قائم بدون أن يشغل نفسه بأي أسئلة أخرى، الأسئلة نفسها تحولت من كونها فعلا تحرريا إلى مجرد إستراتيجية أمنية تتبعها الحكومة عند هؤلاء، جرب أن تسأل أحدهم "طيب، ما هو البديل الذي تطمحون له؟" مثلا، و لن تجد غير التجاهل. تكرار ثورتي أكتوبر و أبريل إذن أصبح الغلاف الأيديولوجي الذي يخفي وراءه حقيقة أن المعارضة العلمانية لا تملك أي رؤية، و أن مؤسساتها لم تعد قادرة على إنتاج الرؤى بدون أن تتفكك نهائيا.
لكن هنا فإن سؤالا مهما يطرح نفسه: هل ما زال من الممكن إستعمال "رأس المال الرمزي" لثورتي أكتوبر و أبريل بدون تحويلهما لمجرد مهرب خيالي؟ ربما تكمن الإجابة على السؤال في العلاقة التي تجمع فكرة "الإعادة" أو "العودة" بفكرة أننا في مرحلة تاريخية تتطلب منا أن نمتلك الشجاعة لنفهم أننا يجب "أن نبدأ من البداية". إن كل بداية جديدة جذريا هي محاولة للعودة لشيء ما، شيء أصيل فشلت المحاولات الأولى للوصول إليه، لذلك فإن أي بداية جديدة فعلا هي إعتراف مرير بأن المحاولات الأولى قد فشلت، و أنها لم تفشل نتيجة لتآمر خارجي عليها، و نتيجة للظروف و الصدف، بل فشلت بكامل الإستحقاق، و بكل مرارة. كل بداية جديدة هي وفاء لما كان ممكنا و نقد لما حدث فعلا. في هذا الإطار فإن أي إقتراح لبداية جديدة لليسار السوداني لا يمكن إلا أن يأخذ شكل العودة للمحاولة الجذرية الأولى، المحاولة التي بدأت قبل الإستقلال و إنتهت في مطلع السبعينات. ليصبح السؤال ليس "كيف يمكن أن نصنع حزبا شيوعيا مثلما فعل عبد الخالق محجوب و رفاقه؟"، بل "لماذا يجب أن نظل أوفياء لهذه التجربة رغم أنها لم تنجح؟ ما هو ذلك الشيء في صلب هذه التجربة الذي جعلها إحدى اللحظات القليلة في التاريخ السوداني، حيث ظهر أن كل شيء كان ممكنا؟" إن الوفاء للجوهر الذي أمكن رؤيته فيما حدث سابقا يحتم علينا ألا نحول التجربة لشيء مقدس، و ألا نحاول تكرارها، يحتم علينا أن نمتلك الشجاعة لأن "نبدأ من البداية". أما إحدى الإجابات على السؤال، فهي أن هذه التجربة قد فتحت الباب أمام فكرة التطبيق الخلاق للفكر في أرض الواقع، بعيدا عن حتميات الثقافة السائدة، و بعض أنواع التدين المقعد عن التفكير، و رغما عن قوة الوضع الراهن و السيرورة الإعتيادية للأشياء، فإن تنفيذا خلاقا لفكر ما أمكنه أن يصنع معجزة زراعة التقدم و الحداثة في بيئة كان يعتقد أنها معادية لهما. إحدى الأشياء التي يمكننا أن نستفيدها من عملية ربط فكرة "العودة" بفكرة "أن نبدأ من البداية" هي أننا سنلتزم، وقتما أردنا العمل ضمن سياسات تحرر جذرية، بالنظرية كممارسة، و بالممارسة كنظرية.
إن أحد أشكال موت السياسة هو فصلها عن كل ما هو مادي، عن كل ما هو إقتصادي. و عن كل ما هو نظري تجريدي بالتالي. لغة كاملة تم إنشاءها لتعبر عن هذا الموت: لقد ظهرت فكرة الفساد مثلا لتحول الإنتباه عن كل ما هو فساد مؤسس (تنفيذ طبقات إجتماعية كاملة لمصالحها على حساب طبقات أخرى) لما هو فساد شخصي عارض، و أصبح علينا أن ندير السياسة اليومية حول مثل هذا العدو المتخيل. في مثل هذا الجو من السياسة الوهمية، و التي لا تسأل الأسئلة الحقيقية و لا تحاول الإجابة عليها، فإن أنواعا كثيرة من الحراك السياسي سوف تكون ممكنة: الإسلاميون، النخب العلمانية و الأحزاب الطائفية يمكنها دائما أن تمارس السياسة اليومية عديمة المعنى لتتأكد فقط من أن كل شيء سيبقى كما هو. يمكننا إذن أن نقول بأن اليسار يموت –على الأقل- متى ماتت السياسة، أن ندافع عنه بهذا القول إن شئت. و ستجد دائما أنه في الفترات التي تكون فيها السياسات الجذرية مستحيلة فإن قسما من الناس سيلجأ للتفكير، للنظرية، محاولا التعديل فيها و إعادة إنتاجها، محاولا إعادة إكتشاف الماضي و نقده بحيث يكون ممكنا أن يرى مستقبل ما لا تنتصر فيه التلقائية البليدة للأشياء على الحرية الإنسانية: هذا ما يمكن أن نسميه فكرا ماديا. يمكنني أن أقول في نهاية هذا المقال بأنني مقتنع بأنه حتى نتمكن فعلا من البداية فإننا يجب أن نتحمل فكرة أننا مجرد ظاهرة ثانوية، و أن نقاوم من ثم فكرة القفز إلى السياسة من نهاياتها (محاولة إصلاح الأحزاب المهترءة، الإتزام في مجموعات حشد ثوري لا رؤية لها)، و أن نعود لفكرة محاولة "فهم الواقع"، تحليلة و تكوين رؤية لما يجب أن يكون عليه. هذا الإبتعاد هو من الصعوبة بما يسمح لنا أن نطلق عليه فعلا ثوريا. علينا "أن نبدأ من البداية".
*لسلافوي جيجاك مقالة رائعة تحمل نفس العنوان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق