أعتقد أن أحد أسئلة السينما غير المجاب عليها في عالمنا الحديث هو السؤال التالي: كيف يمكن تصوير الحروب الإثنية في أفريقيا؟ تلك الحروب، التي هي من اللامنطق و العشوائية بما يجعلها عصية تماما على الخيال. إحدى محاولات الإجابة على هذه المشكلة تظهر في تجارب التصوير الواقعي البحت للحرب. على سبيل المثال فإن الفلم War Witch، و هو أحد الافلام التي تم ترشيحها لأوسكار أفضل فلم أجنبي عام 2013، سعى لخلق ذالك التجسيم المؤلم للحرب. و أنت تشاهد الفلم فإن الفكرة تكون واضحة تماما: يجب أن تصوَّر الحرب كما هي فعلا؛ فرق الإبادة الجماعية تهجم على القرية، يتم صف الرجال و النساء و قتلهم بكل بساطة و إحراق القرية، ثم تحدث أشياء أكثر قسوة... و هكذا حتى نهاية الفلم.
الجانب الآخر لهذه المحاولة، و الذي يبدو أن أي سينما واقعية بهذا الشكل لن تستطيع أن تتجاوزه، هو الرجوع الممنهج لأفكار متجاوزة: وسط كل عشوائية الفلم تظهر أرواح غريبة في كل مكان، إشارة ربما للمعتقدات الأفريقية القديمة، أو لأرواح الموتى الذين يفترض أنهم يجوبون المكان لكن هذه لا كأشياء ليس لها أي مضمون، بل كشواهد تعيد الإعتبار لموتهم. يبدو أن الواقعية "الفجة" لا تستطيع أن تقف على ساقيها بدون مثل هذا الرجوع المبطن للمتجاوز.
الجانب الآخر لهذه المحاولة، و الذي يبدو أن أي سينما واقعية بهذا الشكل لن تستطيع أن تتجاوزه، هو الرجوع الممنهج لأفكار متجاوزة: وسط كل عشوائية الفلم تظهر أرواح غريبة في كل مكان، إشارة ربما للمعتقدات الأفريقية القديمة، أو لأرواح الموتى الذين يفترض أنهم يجوبون المكان لكن هذه لا كأشياء ليس لها أي مضمون، بل كشواهد تعيد الإعتبار لموتهم. يبدو أن الواقعية "الفجة" لا تستطيع أن تقف على ساقيها بدون مثل هذا الرجوع المبطن للمتجاوز.
لم تنجح السينما إذن في تنفيذ عمل فني حقيقي عن شيء عشوائي، سخيف، و قاسٍ بلا حدود كالحرب في أفريقيا. لكن لماذا؟ هنا يمكننا أن نرجع للفكرة القائلة بأن الفن أساسا هو خلق ما هو غير موجود من وجهة نظر الثقافة المسيطرة؛ كل عمل فني حقيقي هو فعل يقوم على معطيات العالم الحالي و لكنه يتجاوزها، يظهر ما لا يمكن إظهاره داخل هذه المقدمات. لذلك فإحدى ركائز الفن هو المفاجأة التي تقوم بتدمير العالم الهادئ للمشاهد و تجبره على رؤية أشياء جديدة. لذلك ربما توجد دراما، و إلا لماذا يقوم البشر بمشاهدة أشياء تؤدي بهم للحزن؟ هذا الحزن هو الثمن الذي ندفعه لرؤية شيء جديد، لإجبار أنفسنا على رؤية ما لن يكون بإستطاعتنا أن نراه إلا في الفن. مثلا، فإن الإنسانية الكاملة للإنسان الأسود في أمريكا العنصرية لم تكن شيئا يمكن رؤيته في الواقع. بالمثل، فإن إنسانية العامل البنغالي في الخليج، أو إنسانية المهاجر الأثيوبي في الخرطوم، أو إنسانية الذين تسحقهم حروب أفريقيا اللانهائية، هي إنسانية لا يمكن رؤيتها في داخل هذا العالم. حتى يتمكن الفن من إظهارها عليه أن يخرج، حرفيا، خارج كل الحدود. عليه ألا يكون واقعيا.
إحدى أسباب عدم قدرة السينما الغربية على تصوُر مشهد حروب أفريقيا يكمن في عدم قدرتها عموما على تخيل العشوائية الجذرية للأشياء. من وجهة نظر الثقافة المهيمنة فإن لكل شيء سبب، و لذلك فإننا، مرارا و تكرارا، نوضع كمشاهدين في موقف من تفسر لهم حقيقة الأشياء التي كانت تبدو ظاهريا بلا سبب. إن جاز لنا هنا أن نستشهد بفلسفة سلافوي جيجاك، فيمكننا أن نقول بأن ما تحاول الثقافة السائدة فعله هو إيهامنا بأنه هنالك خلف القناع الظاهري للأشياء جوهر، و أن عملية نقد الأيديولوجيا، و التي يمثل الفن أحد أهم ساحاتها، تكمن في رفض ذلك الجوهر المتخيل و ادراك أن القناع الظاهري هو كل شيء. أو بتعبيرات الطيب صالح، فإننا إن كنا سنكون "أكاذيبا" فليس المتوجب أن نحاول أن نخلق لأنفسنا "جوهرا حقيقيا"، كل ما علينا فعله هو أن نكون "أكاذيبا من صنع أنفسنا".
هل يمكننا أن نتخيل فكرة أن يسجن شخص لفترة طويلة جدا بلا أي سبب؟ في الفلم الكوري الشهير Oldboy ظهرت هذه الفكرة في بداية الفلم، و لكن يبدو أنها كانت فكرة من الثقل بحيث حولت الفلم بعدها لمجرد محاولة معقدة لتدارك ورطتها. بعد أن يقضي البطل فترة 15 عاما في غرفة مغلقة و هو لا يعلم لماذا هو داخلها يخرج ليبحث عن من قام بفعل ذلك به، و بعد أحداث غاية في الغرائبية يكتشف أنه ضحية مؤامرة غير منطقية و أنه قد دفع ثمنا غاليا لشيء فعله في الماضي البعيد. في نهاية الفلم (الذي لا يمكن إنكار أنه فلم رائع لدرجة أنه يرتقي لأن يكون عملا كلاسيكيا) فإن البطل يدخل في حزن عميق، و لكن، بالنسبة لي على الأقل، فإنه من الواضح أن البطل قد وجد عزاءا ما في حقيقة أنه، على الأقل، كان هنالك سبب ما لما حدث له.
هذه المرة في فلم هذا العام Room فإنه يتم إحتجاز الفتاة (الممثلة الرائعة بري لارسون) و هي عائدة من المدرسة من قبل أحد المرضى النفسيين، كما يبدو، و لمدة 7 أعوام. و في أثناء الإحتجاز تنجب الفتاة إبنا. و لكنها، و بعد محاولات شاقة، تتمكن من الهروب من الغرفة بمساعدة إبنها الذي أصبح له 5 أعوام. في الخارج، و كما هو متوقع، تتعرض الفتاة لقسوة الحياة بعد مثل هذا النوع من التجربة. على سبيل المثال، فإن والد الفتاة المحتجزة، و الذي يبدو أنه محافظ متصلب، لا يتقبل فكرة وجود الإبن. هذا غير التبعات الإجتماعية المتوقعة الأخرى. كل ذلك تتحمله الفتاة. حتى تصل للحظة التي تقوم فيها بإجراء مقابلة تلفزيونية عن تجربتها؛ تسألها المذيعة: لماذا لم تقومي بإخراج الإبن في وقت مبكر، ربما كان بإمكانك أن تطلبي من الرجل أن يسلمه لأقرب كنيسة و هو رضيع، ألم يكن ذلك أفضل له؟ تحاول الإجابة على السؤال و لكنها في ذهولها تتلعثم، و في لحظة ما تكتشف أنها لا تملك أي إجابة. بعد هذه المقابلة تحاول الفتاة الإنتحار.
أعتقد أن تجسيد سلطة المجتمع الأخلاقية غير العقلانية في شخص "الإعلام" كان موفقا جدا. إن الفضاء الرمزي الإعتباطي الذي يخلقه المجتمع، ذلك الفضاء الذي يحدد مسبقا للناس ما هو صحيح و ما هو خاطي، هو نفسه الفضاء الذي يجبرنا أن نتخيل معنى ما لكل ما يحدث لنا. ما حدث لبطلة الفلم هو أنها فقدت آخر خيوط المعنى الذي كانت تتمسك بها: كونها إنسانة قاومت ظروفا غاية في الصعوبة و تمكنت من النجاة، و بالتالي فهي على الأقل أهل للتعاطف الصادق و للإحترام. في عيون الأخلاق الإجتماعية كل ذلك لم يكن كافيا. إذن فإن ما وجدت بري نفسها امامه هو الحقيقة: كل ذلك حدث بلا أي معنى. هذه هي الحرية الإنسانية في شكلها الأكثر جذرية، وحدة كاملة و إنفصال عن كل سند خارجي، تناقض جذري مرهق مع السلطة الإجتماعية.
لكن أليس الحب في أحد تعريفاته هو ذلك المطلق الذي تظهره محدودية قدرتنا في هذا العالم؟ في نهاية الفلم، الذي يُروى على لسان الإبن، فإن الأم تعود من المستشفى بعد تلقيها هدية منه، قطعة من شعر الإبن الطويل الذي نمى أثناء فترة وجودهما داخل الغرفة. بلا أي إعتذاريات، و بصورة قد يصفها مدمنوا "الواقعية" بأنها مجرد كليشيه سخيف، تتقبل الأم أن الجرح نفسه هو طريق العلاج الوحيد، أن الوجود غير المرغوب فيه لهذا الإبن هو نفسه ظهور شيء من معنى للحياة. أو فلنقل حب ما للحياة. حب لا يكترث له كل من في الخارج في الحقيقة.
يأتي صوت الإبن بريئا في نهاية الفلم، مبتهجا، و متفائلا بشكل جميل أمام كل الموت: "أنا و أمي لم نكن نعرف ما هو ذلك الذي نرغب به .. لذلك قررنا أن نجرب كل شيء."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق