الأيديولوجيا والطبقة الوسطى عند خالد موسى
أعتقد أنني بصورة عامة أنتمي لجيل لم تتح له أي فرصة لتكوين رؤية واضحة عن الواقع، أو ما يسميه فريدريك جيمسون "تنظيم ذهني" Cognitive Mapping، و ذلك بالمحصلة نتيجة لسيطرة أيديولوجيا العداء الهمجي للإسلام السياسي داخليا، و وجود إعلام خارجي لا مصلحة له، بالمجمل، في توفير مثل هذه الخدمة للناس (أعني منح الناس أدوات تحليل رصينة للواقع). مثلا، سيتحول السؤال: ماذا حدث للثورة المصرية (أو السورية)؟ لمساحة للغط لا نهائي، و قراءات تاريخية تعتمد على الصدف التاريخية المتلاحقة لا على أي نوع أو آخر من التحليل الواضح. و يبدو و كأنه يراد لهذا الشكل الدائري للثقافة و الفكر أن يستمر إلى ما لا نهاية، و بالتالي أن يستمر الوضع الراهن كما هو.
هنا يظهر التحليل المادي للمجتمع كأحد البدايات الجيدة لمحاولة الفهم الجدية للواقع، و مقال خالد موسى عن الطبقة الوسطى هو من المحاولات النادرة في هذا الإتجاه في فضائنا الثقافي. لذلك ففي داخل مقال خالد موسى فإن الأسئلة التي توصف لها، عادة، إجابات تجعلها حبيسة الظاهرة الفردية الطارئة (الفساد يعزى لضعف أخلاقي شخصي، صبر المجتمع على الديكتاتورية يعزى لنزعة غير مفهومة في الشخصية السودانية.. إلخ) وجدت إجابات أكثر تجريدا و بالتالي أصلح للإستخدام في عملية بناء هيكل ذهني للواقع. و أعتقد، أنه أن من نافلة القول، التأكيد على أن مثل هذا الهيكل الذهني هو أحد الركائز التي تتحول السياسة بدونها لمجرد مشاغبات لا نهائية، مثلما يحدث حاليا.
بالعودة لمقال خالد موسى، أعتقد أن هنالك مشكلة في تحليله، تتمثل في محاولة إظهار التحليل المادي للمجتمع كعمل علمي خالص، كنظرة موضوعية، غير ذاتية. هذه المشكلة أدت إلى ثلاث إشكالات: إستبعاد الأيديولوجيا من التحليل، إسباغ نوع من الحتمية على تصرفات الناس، و أخيرا تجاهل الثورة، كفكرة تتجاوز المشاغبات الثورية الحالية، و تجاهل التيارات الثورية الحقيقية التي ظهرت في المجتمع السوداني.
يمكننا أن نبدأ من مقال خالد موسى الأخير، حيث عاب فيه على ياسر عرمان سيطرة الأيديولوجيا عليه و أسبقيتها على السياسة عنده. ما هو سر هذه النظرة السلبية العامة للأيديولوجيا؟ ينتشر إعتقاد في عالمنا اليوم بأننا نعيش في زمن "ما بعد أيديولوجي" تسيطر فيه النظرات الموضوعية العلمية على الناس، بينما ما تزال هنالك أقلية "مثل ياسر عرمان" تسيطر عليهم الأيديولوجيا التي تغبش عليهم الرؤية و تجعلهم يتصرفون تصرفات غير منطقية سياسيا. في داخل مثل هذا التصور كان لابد لخالد موسى أن يستثني نفسه من الأيديولوجيا، فيكون منتجه التحليلي (مقال الطبقة الوسطى) خالصا من أي إنحياز مهما كان. و في مثل هذا التصور الذي يتوقع من الإنسان العادي، بصفته أحد التجليات لفكرة غياب الأيديولوجيا في عصرنا، أن يتصرف تلقائيا و منطقيا بناءا على موقعه الإجتماعي. فيصبح كافيا أن نعرف موقعك داخل التحليل المادي حتى نتوقع تصرفاتك، و أقلية "مؤدلجة" سوف تخرج على هذا التوقع الموضوعي، يمكن تجاهلها.
ما حدث هو أن هذه المقدمات لم تستطع أن تستوعب تحليلات خالد موسى نفسها، فالطبقة الوسطى عند خالد موسى توسعت بحيث لم يعد بإمكانه أن يعرفها ماديا، فهنالك أناس لا ينتمون للطبقة الوسطى ماديا و لكنهم يتصرفون مثلها. لذلك قام خالد بتوسيع تعريفه للطبقة الوسطى بحيث أصبح تعريفا ثقافيا، و ذلك مشروع، إلا أنه غير متسق مع مقدمة خالد موسى البادئة بفكرة أن الواقع الإجتماعي المادي هو المحدد لفكرة الطبقة. لذلك فإن السؤال المشروع هنا هو: هل هنالك فعلا رؤية غير أيديولوجية للواقع؟ يمكننا الإجابة على هذا السؤال بالإستعانة بسلافوي جيجاك، و هو المفكر المادي الذي ظهر على الساحة بوصفه الناقد الأكثر شراسة للأيديولوجيا، لكن أية أيديولوجيا؟ بالنسبة لجيجاك فإن الأيديولوجيا تظهر في أكثر أشكالها قوة و تأثيرا عندما تأخذ شكل النظرة المحايدة للعالم، عندما تدعي أنها نظرة "غير-أيديولوجية" تحديدا.
و هذا الظهور للأيديولوجيا في عالمنا الحديث أخذ شكل إيمان الإنسان العادي و المثقف على حد سواء بأن نظرته التلقائية للعالم هي نظرة محايدة، تفضي مباشرة إلى حقيقة الأشياء. يمكننا أن نضيف لهذه الفكرة القول بأن أكثر الأفكار المؤدلجة (بالمعنى السلبي للكلمة) قد ظهرت تاريخيا مدعية أنها "علم موضوعي": الإستشراق مثلا، أو النظرة النيوليبرالية لعلم الإقتصاد في عالمنا الحديث هما مثالان لهذا التنكر.
لذلك فإنه، بالنسبة لسلافوي جيجاك، فإن الإنسان يستطيع أن ينتقد هذه الأيديولوجيا، التي تظهر في شكل تلقائية بسيطة، تحديدا عندما يأخذ، و بوعي، تصورا نظريا منحازا للعالم. أن تفهم الواقع هو أن تنظر إليه من وجهة نظر من هم مستبعدون عن هذا الواقع، أن تتبنى توجها منحازا لهم. إنطلاقا من مثل هذا التصور لعلاقة الفكر (الأيديولوجيا) بالواقع المادي، بوصفها علاقة لا يمكن الفكاك منها، يمكننا أن نقابل تحليل خالد موسى، و الذي يفتقر لهذا البعد، بهذا التحليل المادي الجدلي للواقع الراهن، التحليل لآلان باديو الفيلسوف الفرنسي*:
هنالك ثلاث طبقات إجتماعية في العالم الحالي، بعكس أوقات سابقة عندما كان هنالك طبقتان إجتماعيتان فقط. هنالك طبقة لها أغلبية الثروة، و هي طبقة ضيقة جدا، تقابلها طبقة الأغلبية و هي طبقة لا تملك شيئا، بينهما طبقة وسطى. هذا الإنقسام الإجتماعي ولد أيديولوجيات معينة، إنتهى الحال في النهاية لإنتصار أيديولوجيا الطبقة الوسطى، بالتأكيد في شكل تحالف ضمني مع الطبقة الثرية مفاده بأن مصالحها لن يمسها سوء. آلان باديو بالطبع يحلل واقع المجتمع الأوروبي، و بالتالي فإنه يسمي أيوديولوجيا الطبقة الوسطى ب"المادية الديمقراطية"، و هي كما هو واضح أيديولوجيا الديمقراطية التي تنتشر في الغرب. إستصحابا لتحليل خالد موسى يمكننا أن نقول أن هذه المادية الديمقراطية هي سبب وجود نزعة للديمقراطية لدى الطبقة الوسطى عندنا. لكن بالنسبة لآلان باديو، فإن التناقض الداخلي في أيديولوجيا الطبقات الوسطى يظهر في فكرة أنها لا تأخذ بعين الإعتبار حقيقة وجود أغلبية لا تمتلك من الثورة شيئا، هؤلاء، ربما، يطلق عليهم خالد موسى "المهمشين"، و هؤلاء هم من يتسببون في وجود "نزعة ثورية هوجاء" مثلما ظهر في أحداث سبتمبر أو مثلما يحدث في أطراف السودان. لذلك حسب آلان باديو فإنه من داخل الأديولوجيا المادية الديمقراطية التي أنتجتها الطبقة الوسطى، فإن أيديولوجيا أخرى تظهر كضرورة: المادية المحافظة Conservative Materialism، الأيديولوجيا التي تنتج نزعة الطبقة الوسطى للتحالف مع الحكومات الشمولية متى هددتها الطبقات الفقيرة (بالنسبة للحالة الأوروبية فإن هذه النزعة تظهر في أشكال الفاشية الجديدة المعادية للمسلمين و المهاجرين عموما). بإستصحاب هذا التناقض يمكننا أن نفسر وجود النزعتين في طبقة خالد موسى الوسطى، النزعة للديمقراطية و النزعة للتحالف مع الشموليات. و بإستصحاب هذا التحليل المادي الأيديولوجي يمكننا أن نفهم لماذا تتصرف الطبقات أسفل الطبقة الوسطى مثل الطبقة الوسطى: لأن أيديولوجيا الطبقة الوسطى يمكنها أن تهيمن على طبقات أخرى، لكن ذلك لا يغير حقيقة أنها ما تزال مجرد طبقات فقيرة.
إستكمالا لتحليل آلان باديو، فإن عملية الخلق الفكري في صلب الواقع المادي تحدث عندما نقف فكريا خارج كل هذه التناقضات. في داخل الطبقة الوسطى نفسها تتكون نظرة للواقع تقابل التناقض بين المادية الديمقراطية و المحافظة. هذه النظرة يمكننا أن نسميها نظرة تحررية جذرية، آلان باديو يسميها المادية الجدلية Dialectical Materialism. هنا ظهرت مشكلة خالد موسى الأخيرة: تجاهله لأي إمكانية ثورية، و من ثم تجاهله للحالة الثورة التي ظهرت مرة في التاريخ السوداني. إن العداء (أو لنقول التباين الجذري في المصالح) بين الطبقة الوسطى و "المهمشين" هو عداء دائم فقط من وجهة النظر التي ترى حتمية إستمرار العالم كما هو. هنالك، من وجهة نظر سياسات التحرر الجذرية، رؤية مختلفة يحدث فيها تحالف حقيقي بين جزء من الطبقة الوسطى يقرر الخروج خارج الثنائية (المادية الديمقراطية و المادية المحافظة) مكونا رؤية تنحاز للمهمشين. عبد الله علي إبراهيم يروي كيف أن عبد الخالق محجوب مثلا خرج على إجماع الطاولة المستديرة عندما قال بأنه كانت هنالك فئة سودانية (من قلب الطبقة الوسطى) تحالفت فعلا مع مهمشي الجنوب، و كل تاريخ التجربة اليسارية الأولى في السودان يقول بأنه هنالك فئة من الطبقة الوسطى آمنت بأن عالما آخر، لا تسيطر فيه أقلية على الثورة و لا يوجد فيه "مهمشون"، كان ممكنا. هذا الإتجاه الثوري (رغم أنه فشل في المرة الأولى) هو إتجاه لا يمكن شمله مع النزعات الثورية المشاغبة التي تسيطر حاليا، هو إتجاه ثوري يمكننا به أن نجادل بأن مخرجا آخر، غير فكرة "التغير المتدرج السلس" ما زال ممكنا.
*هذا رابط لمحاضرة آلان باديو التي يشرح فيها رؤيته للتركيبة الإجتماعية/الأيديولوجية للعالم المعاصر.
https://www.youtube.com/watch?v=74u2_Fg-UHo
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق