نحن ــ كشعوب أو كطبقة من الكادحين المظلومين إن شئت ــ نمثّل التبدي الاجتماعي للّاشيء. ليس لنا أحزاب تمثّلنا، ولا مؤسسات اجتماعية تنظّمنا، ولا خطاب مستنير يحركنا، وبطبيعة الحال ليس لنا «مشروع» يمنحنا اسماً ومستقبلاً. نحن لا شيء. ولذلك فإننا نتحول لمواضيع للقمع والتهجير والمذابح وغيرها بسهولة.
حالة الضعف هذه تجعلنا، كمثقفين شباب، أمام خيارين: إما أن نسعى لإعادة إنشاء كل شيء من البداية، أو أن ننخرط في «اللعبة» كما هي. الخيار هنا ليس بين «البراغماتية»، الواقعية والذكاء السياسي، والثورية. لأن خسارة المعارك قبل أن تبدأ ليس ذكاءً ولا واقعية. الخيار هو بين البقاء في القاع والتقدّم.
وما أن نختار طريق بناء مستقبلنا من البداية، حتى نجد أن أمامنا أيديولوجيا صلبة تنتمي إلى الواقع الراهن وتحافظ عليه. هذه الأيديولوجيا يجب تفكيكها تماماً، وعلى أنقاضها فقط يمكن بناء خطاب تقدمي يجعل الحراك السياسي الجذري ممكناً. وهذه العملية التي يمككنا أن نسميها «نقد الأيديولوجيا» ليست من ترف الفكر والتنظير، هي خطوة أساسية يجب أن تتم بكامل الجذرية والحسم. وسأحاول في هذا المقال أن أستعمل كلمة «العَلمانية» كمثال للأثر الذي يمكن أن تلعبه الأيديولوجيا في المجتمع، بحيث تقوّض الخطاب التقدمي قبل أن يبدأ. وسأحاول أن أشرح عبر هذا المثال الضرر الجسيم الذي يحدث حال محاولتنا تفادي المواجهة مع لا عقلانية الأيديولوجيا الحالية. لكن علينا أيضاً أن نتذكّر دائماً أن خوض المعارك الأيديولوجية ليس فعلاً بطولياً أحمق، ولا معركة جانبية لا قيمة لها وستنتهي في الغالب بالخسارة، بالعكس، الخسارة هي النتيجة الحتميّة لكل محاولات الهروب من التأسيس الذي يبدأ بعقول الناس ووجدانهم. أنت لن تستطيع أن تغيّر ما بقوم حتى تغيّر ما بأنفسهم.
ما هي الأيديولوجيا؟
عكس الفكرة السائدة. الأيديولوجيا هي النظرة التلقائية للعالم. النظرة التي يرى بها الإنسان العالم في غياب أي تفكير. عندما يرفض المواطن البسيط «العلمانية» لأنه من الراسخ في ذهنه أنها ضد الدين وضد الأعراف والتقاليد، فهو لا يحتاج إلى إثبات لهذه الادعاءات، فهي ليست معروفة بالنسبة إلى الجميع فحسب، بل هي كذلك من الحقائق التي يراها مباشرة بلا أي وسائط. هذا الوعي التلقائي هو وعي غير عقلاني، ولذلك فهو زائف، ويبدو أنه من المستحيل تغييره. مثل قناعة الرجل العادي بأن المرأة أقل منه. أو قناعته بأنه وصيٌّ على أخته، أو قناعتنا بأن الأرض لا يمكن أن تصبح غير قابلة للحياة على الرغم من الأدلة العلمية العديدة. الأيديولوجيا هي المنظومة غير الواعية التي تعطي للواقع الذي أمامنا شكلاً معيناً، وهذه الخلفية غير الواعية تتكون من الأفكار التخيّلية الأساسية Primordial Fantasies (للرجل الشرقي مثلاً فانتازيا أساسية معينة يضع المرأة داخلها، وهذه الفانتازيا تشكّل عنصراً مهماً في تكوّن «هويته» وإدراكه لذاته، وهو لا يعي هذه الفانتازيا بصورة كاملة، الأمر الذي يجعل حدثاً عادياً، كتفوق زوجته عليه مهنياً مثلاً، حدثاً مؤلماً بصورة غير مفسّرة وغير محتملة، لأنه حدثٌ يهدّد أساس هويته). وتتكون كذلك من مشاعر يستثمرها الإنسان في الواقع، مشاعر تمتدّ من الخوف إلى الرغبة إلى الإثارة. على سبيل المثال، فإن التكوّن الأيديولوجي لشخصية «اليهودي» في ألمانيا النازية كان يعتمد على هذا الاستثمار العاطفي إلى حدٍّ كبير. الألماني كان يخاف من الكثير من الأشياء (الانحلال الأخلاقي، تقلبات الاقتصاد، الحرب.. إلخ) وأمكنه أن يبادل كل هذه المخاوف عن طريق الخوف من اليهودي فقط (يمكن قول نفس الشيء عن «المهاجر» في أوروبا حالياً).
إذاً، نظرة الإنسان التلقائية للواقع هي نظرة مؤدلجة. نظرة تعتمد على تحيّزات ومشاعر غير واعية. وهي وعيٌ زائف بالتالي. ولذلك فإنه لكي يرى الإنسان الحقيقة ولكي يتحرر من قيود لا وعيه عليه أن يتعلم فنّ «نقد الأيديولوجيا».
الآن سنأتي إلى النقطة المهمة. كيف يرسخ المجال الأيديولوجي؟ إن لانتشار الوعي الزائف أسباب. منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو اجتماعي. لكن بالمحصلة، فإن الغرض من أدلجة الناس هو الحاجة إلى غياب النقد العقلي للواقع. كل هيمنة اجتماعية مادية تتطلب هيمنة أيديولوجية تمنع عن الناس الحقيقة. وتؤدي الأدلجة بالتالي إلى غياب العقلانية عن عدد كبير وواسع من المجالات، وذلك عبر إغراق هذه المجالات بالمشاعر السلبية غير الواعية وبالأفكار المسبقة المبسّطة. لكن هذه العملية لا يمكن أن تتم في كل مجال على حدة. ولذلك، فإن المجال الأيديولوجي يغلق فقط عبر ما يسمى في النظرية اللاكانيّة «الدال الأساسي» Master Signifier. إذا أخذنا مثالنا الأساسي في هذا المقال «العلمانية»، فإنه يمكننا القول بأن اللاعقلانية التي ينشرها الإسلام السياسي منذ مدّة في مجالات عدّة مختلفة تتماسك فقط عبر كلمة «علمانية». ما يريده الإسلام السياسي هو أن يضع حدّاً للتفكير العقلي في كل مجالات الحياة. في مجال الأسرة على المرأة أن تقبل بأن هنالك حدوداً للتحديث والتحرر، في المجال الاقتصادي على الناس أن يقبلوا بأن هنالك حدوداً للتفكير العقلي في توزيع الثروة، في المجال السياسي على الناس أن يفهموا أن للديمقراطية حدوداً، وأن الحكم في النهاية لله وليس للبشر. هذه المنظومة الأيديولوجية التي تضمن هيمنة نخب رجعية معينة على السلطة والثروة، وتضمن هزيمة أعدائها قبل أن تبدأ المعركة، لا يمكنها أن تترابط إلا باسم يجسد الخوف من العقل وينفر الناس من العقلانية: «العلمانية».
يمكنك أن تتخيّل بسهولة أنك تحاول الهروب من الكلمة المخيفة «العلمانية» عن طريق محاولة إقناع المواطن العادي، بلا عقلانية خطاب الإسلاميين في ما يخص الأسرة، كأن تخبره مثلاً بأن المرأة مساوية للرجل، وأن السلطة التي يحتكرها الرجال في الأسرة هي ليست منحة من الله بل هي نتيجة لاحتكارهم الثروة في المجتمع. لكن وبرغم أن هذا الخطاب هو خطاب مقنع وعقلاني، سيرفضُه المواطن. لماذا؟ لأن هذا الكلام «يقوله العلمانيون»!. إن أيديولوجيي الإسلام السياسي ليسوا أغبياء بانصرافهم عن تفاصيل الخطاب التقدمي وتركيزهم على كلمات بعينها: علمانية، اشتراكية، شيوعية.. إلخ. فعبر الشيطنة غير العقلانية لهذه الكلمات يمكنهم أن يغلقوا المجال الأيديولوجي بإحكام. (بالطبع هذا لا يعني انتماء كاتب هذه السطور لهذه المدارس، ولكن حتى وإن رفضتها فإنني لا أرفضها بالمنطق غير العقلاني الشائع: الشيوعية هي الإلحاد.. إلخ). وعبر تاريخ البروبغاندا في العالم، لم يسبق أن ركّزت آلة إعلامية على خطاب العدو بصورة كاملة ونقدته عقلانياً، بل يتم التركيز على خلق كلمات وصور معينة يخاف منها المشاهد ويحتقرها تلقائياً، ثم يتم تدمير الخطاب المراد تدميره بالعودة إلى تلك الكلمات. ولذلك فإنه ليس من قُبيل الصدفة أن الانتصار السياسي للإسلاميين في المنطقة قد سبقه انتصار لهذا النهج المنفّر من كلمات بعينها، لأن الخوف غير العقلاني من هذه الكلمات التي تبدو ثانوية مثل كلمة «علمانية»، يدلّ على أن عدداً لا حصر له من المخاوف غير العقلانية الأخرى قد تم قبوله وترسيخه.
في تاريخ الأدلجة، هنالك مثال واضح لفكرة «الدال الأساسي» Master Signifier وهو«اليهودي» في الخطاب النازي. هنالك تفاصيل لا نهائية يقدمها الخطاب النازي للناس، جميعها غير عقلاني ويمكن تفنيده بسهولة. لذلك فهنالك حاجة لقمة اللاعقلانية في ربط كل شيء باليهود. عندما يقبل الألماني (لأسباب نفسية ذكرتُها آنفاً) كرهه غير العقلاني لليهودي فهو يغلق دائرة النازية على نفسه. ولن يجدي مع هذا المنطق أن نلتفّ على فكرة «مؤامرة اليهود» وأن نبدأ في تفنيد بقية الخطاب النازي بصورة عقلية: سبب الانحلال الأخلاقي في المجتمع الألماني هو في الرأسمالية التي فكّكت البنية التقليدية للمجتمع من دون أن توفر بديلاً آخر.. إلخ. لأن الإجابة ستأتي بكل بساطة من الألماني الواقع تحت تأثير الأيديولوجية النازية: أنت تقول ذلك لأنك جزء من المؤامرة الاشتراكية التي صنعها اليهود!
ويمكننا أن نلاحظ بأن «الدال الأساسي» هو دائماً كلمة مفرغة. العلمانية هي الكلمة التي تدل على أن لا مرجعية دينية للدولة، وهو أمر عاديّ وطبيعيّ جداً، حتى أنه لا معنى لقوله. وهو أمر لا يرفضه الإسلام السياسي بالضرورة، لاحظ كيف قبل «الإخوان المسلمون» هذا الأمر بكل تلقائية بعد الثورة المصريّة مثلاً. ولكن هذه الكلمة عديمة المعنى هي بالضبط ما يحتاج إليه المجال الأيديولوجي حتى يغلق. حتى يقبل الألمانيّ بآلاف الأفكار النازية غير العقلانية، عليه أن يقبل قمّة اللاعقلانية التي هي في جوف عبارة مثل «المؤامرة اليهودية». وحتى يقبل المواطن عندنا بأفكار من شاكلة أن لرجال الدين سلطة روحية عُليا، وأن الله أعطانا تشريعات لإدارة الاقتصاد في القرن الحادي والعشرين... إلخ، فعليه أن يقبل بقمّة الدوغمائية أن العلمانية كفر، والعلمانيين كفار. أن يقبلها كحقيقة كونية بلا مثقال ذرة من تفكير.
الالتفاف على الإيديولوجيا
بالتأكيد لن تأتي المواجهة مع النقاط التي يقف عليها الواقع الراهن بلا خسائر. الخسائر التي سترفض الحركات الشعبوية عموماً قبولها. لأنه بالنسبة إلى طريقة التفكير الشعبوية، فكل شيء يقاس بمدى التأييد الآني للجماهير. وعلى هذا الاعتبار فإن عملية نقد الأيديولوجيا، وهي بالتأكيد مواجهة مفتوحة مع الناس وطريقة عيشهم وتفكيرهم قبل كل شيء، تعتبر مجرّد مغامرة بليدة لا يمكن للبراغماتيين الحكيمين خوضها.
قَبِل العلمانيون في مصر بعد الثورة بمناورة استخدام كلمة دولة «مدنية» بدلاً عن علمانية. بالنسبة إلى مجموعة من النخبويين عديمي الرؤية كعلمانيي مصر، فإنه لا حاجة إلى تضييع الوقت في معارك جانبية، عليهم فقط أن يركّزوا على حصد أكبر عدد ممكن من الأصوات. حتى وإن كان الثمن هو غضّ الطرف عن منظومة ذهنية غير عقلانية ومضحكة جعلت من مجرّد تغيير شكلي (مدنية بدلاً عن علمانية) أمراً محورياً. وكأن هذا الأساس غير العقلاني سيختفي من الوجود من تلقاء نفسه. وفي النهاية لم تكسب هذه النخبة الأصوات، ولا يبدو أنها في طريقها لأن تكسب تأييد الناس.
في تاريخنا السوداني، هنالك حالة التفاف عملاقة على الأيديولوجيا تمّت بعد الاستقلال مباشرة. المثقفون والمتعلمون النخبويون وجدوا أنفسهم بلا سند جماهيري في مجتمع تقليدي طائفي. فقرروا أن يسيروا مع التيار عملياً ونظرياً، وانضموا إلى الأحزاب الطائفية التقليدية بل وأصبحوا من قياداتها. هل هنالك براغماتية وحكمة أكبر من هذه؟ أنت بدل أن تعادي الجماهير بفذلكات فكريّة معقّدة أصبحت زعيماً لهم. الآن بعد نصف قرن يمكننا أن نلاحظ أن هذه الخطوة لم تؤدِّ إلى استنارة الجماهير الطائفية بل إلى تبلّد النخبوي وجموده. وللمفارقة فإن المجموعتين اللتين شكلتا العمود الفقري لتاريخنا السياسي كانتا الحركة الإسلامية والحزب الشيوعي. وكلاهما خرج (ولو بنسب متفاوتة) على الأيديولوجيا الطائفية التي تركها الاستعمار. وبدأ من الصفر.
ما العمل؟
نحن لسنا بلا حول ولا قوة. ولا حاجة لنا لتفادي المواجهة مع أيديولوجيا الناس. للفكر والعقل والاستنارة قدرة على هزيمة الجهل والظلام. وهذه ليست مجرّد شعارات، بل هي وسائل جربت مراراً وتكراراً وأثبتت أنها أقصر الطرق للتقدم. وأما العداء الشعبوي فذلك أمرٌ لا مفرّ منه، لأنه في مجتمعنا هنالك قوى لها مصلحة في تخلّف الناس ورجعيتهم، وهي تعمل منذ فترة طويلة على إبقاء الناس في الظلام، وبالتأكيد فإن تعبهم لم يذهب كلّه سدى.
وهنالك أمثلة عديدة على انتصار العقل على الأيديولوجيا، ابتداءً من تمكن بيرني ساندرز مؤخراً من تحرير كلمة «اشتراكية» من محمولها السالب في الولايات المتحدة، حيث صوتت له جماهير واسعة وخاصة في الفئات الشابة (كانت له الشعبية الأعلى بين المسلمين تحديداً). وليس انتهاءً بما قام به هوغو شافيز وغيره من ثوريي أميركا الجنوبية من استعادة الصراع الاجتماعي في داخل كلمة «ديموقراطية» نفسها. حيث لم تُقْبَل كما يريد لها الغرب وإعلامه ككلمة محايدة، بل كنظام يأتي معه سؤال: من هي الطبقة التي تسيطر على الديموقراطية؟
بدلاً من التفنن في اختراع المصطلحات التي تجنّبنا المواجهة الأيديولوجية، علينا أن نبذل الجهد في الاستعداد النظري للدفاع عن العقلانية. علينا أن نستعيد الإحساس بالفكر كمؤسسة تُبنى مثل غيرها من المؤسسات، وكلما شعرنا بصغر حجمنا أمام الغوغائيين، يجب علينا أن نتساءل: أين هي قراءاتنا المنهجية للأفكار والأطروحات الاجتماعية القديمة والحديثة؟ أين كتاباتنا النظرية التي أجبنا من خلالها على الأسئلة التي يطرحها الواقع علينا؟ مثل كل مجالات الصراع، السياسي والاجتماعي والاقتصادي، فإننا لن نخسر الصراع الفكري إلا بأيدينا.
وأخيراً فإن منطق «الدال الأساسي» لا يخبرنا بأن المعركة كلها تكسب عبر هزيمة «كلمات» و«صور» بعينها فحسب. بل يخبرنا كذلك أننا لكي ننتصر فعلينا أن نرسّخ «دوال أساسية» خاصة بنا. علينا أن نبني مشروعاً فكرياً وسياسياً يجعل من كلمات مثل «الحداثة» و«العدالة الاجتماعية» و«التقدم» الكلمات المحورية التي تسيطر على أفئدة الناس وتحرّك بالحماس مخيلتهم. يمكننا أن نصنع مجالاً ثقافياً اجتماعياً يجعل من ظهور أشياء كالأصولية الدينية و«داعش» أمراً مستحيلاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق