ينشط في منطقتنا تياران معاديان للحداثة. تيار الأصولية الدينية الذي لا يرى في الحداثة إلا تهديداً لكل أسباب وجوده، وهو محق في ذلك، وتيار الحداثة البديلة الذي يرى أنه لا توجد، بالفعل، حداثة واحدة، بل حداثات، وإن ما يطلق عليه الحداثة، تعريفاً بالألف واللام، ليس سوى تجسداً للمركزية الأوروبية، وهي ليست إلا حداثة غربية، يدفعها الغرور كي ترى نفسها على أنها الحداثة الوحيدة. وقد استهلك هذا التيار القوة التحررية في داخل مدرسة (ما بعد الاستعمار) وجعلها كالأصولية الدينية، تتحول إلى رد فعل دفاعي، يهدف للبحث عن "الأصول" والفرادة الحضارية، ويرفض الكوني، العالمي، والمطلق Universal.
لا نحتاج أن نطرح مشروع الحداثةعلى الساحة بصفته الضد لهذه التوجهات فقط، بل علينا، كذلك، أن نعرِّفه، وأن نخلق في داخله مستقبلاً خاصاً، لا يهتم لهذه الحلقات، لأنه يتحرك في مجال أعلى منها. أن نقحمه بصفته الجذرية الكونية في معادلة القوة العالمية، وأن نستعيد قوة التحرر في داخله، قوة التحرر التي تحركها الرغبة في الحياة، ولكنها تحمل في داخلها، بالضرورة، استعداداً للموت.
ثم هنالك دبي وآل مكتوم. خرجت علينا الإمارة الصغيرة، وهي واحة بائسة بنيت لتقف على بؤس إنساني ليس له حدود، بصفتها مثالاً للنجاح في الوصول إلى الدولة الحديثة التي تعمل بكفاءة. أصبحت الإمارة، التي تديرها أسرة كأنها شركة، مثالاً للحداثة والتقدم. وقد انبهرت نخب توصف بأنها حداثية بهذا النموذج، خاصة أنه قدِّم لهذه النخب مثالاً للدولة التي تتيح لهم أن يفعلوا ما يشاؤون، طالما تعلق الأمر بالملذات الحسية السخيفة، وتتيح لهم أن يتجاهلوا الثمن الذي يدفعه الكادحون لبناء مثل هذه الدول (دبي، بالمناسبة، صممت معمارياً حتى لا يكون بمقدور المقيم فيها أو السائح ميسور الحال رؤية ظروف العبودية التي تشتغل فيها العمالة الأجنبية.. ربما هذا هو حلم النخب، أن تستعبد الناس بدون أن يؤرقها منظر عبوديتهم). ضد هذا التصور للحداثة، يتوجب علينا أن نقدِّم طرحاً فكرياً يجعلنا نغيِّر نظرتنا للواقع، بحيث لا تكون دبي، بل أحياء فقيرة في الخرطوم وصنعاء ولاغوس، وغيرها من المدن التي يسحق الفقر الناس فيها، أن تكون هذه البؤر الهامشية هي الأماكن التي ننظر لها بترقب، ونتوقع لها أن تكون المركز الذي سيتفجّر منه مشروع الحداثة، هذا إن لم يكن قد تفجّر بالفعل.
أريد أن أحاجج في هذه المقالة بأن الحداثة، في الأساس، مشروع فردي. بما يجعلها نقلة ذهنية شكلية غاية في البساطة. وإن أردت أن أتطرف قليلاً فيمكنني القول إننا، دائماً "على بعد خطوة واحدة فقط" من الحداثة. وبالمناسبة؛ فإن التعلُّق بالنقلات الشكلية التي تغيّر كل شيء، هو أساس الثورية التي جلبتها الحداثة في مختلف المجالات: لا تحدث الثورات العلمية عن طريق التراكم المعرفي البطيء، ذلك هو التطور العادي، أما الثورة، فتحدث عندما يغيِّر أحدهم الإطار الذي نرى من خلاله كل شيء، وهذا التغير لا يكون صعباً بقدر صعوبة التطوير التقليدي للعلم، هو يتطلب تغيّراً فردياً فقط؛ بالمثل، فإن تطور الفنون، الانتقال من التعبيرية إلى التجريدية، مثلاً، تمّ في داخل هذا التغيّر الشكلي Formal فقط! "لماذا نرسم التعبيرات كما هي، بينما يمكننا أن نجرِّدها ونرسمها رمزياً؟". كل ما نحتاجه اليوم هو أن يغيِّر الأفراد من نظرتهم للعالم جذرياً.
كانط، فيلسوف المثالية الألمانية الشهير، في مقالته "ما هو التنوير؟" وهي مقالة تأسيسية في الفكر الحداثي، عرَّف التنوير بأنه "انبعاث الإنسان من طفولته، أو قلة نضجه الذي يحبس فيه نفسه ذاتياً". الخطوة الأساسية في عملية التحديث الفردي هي صناعة الفرد لنفسه على الرغم من نفسه إذن. ولذلك جاءت الموعظة الكانطية، وهي تأتي، بالفعل، من أحد المعلمين الكبار للإنسانية، كما يقول بيجوفتش: "تجرّأ لتفكر!". علينا، إذن، عند التفكير في الحداثة، أن نربطها بهذا الجذر الذي له علاقة بالتفكير، بالفرد قبل كل شيء. الجذر الذي يبدأ من نقطة تحرر تفكير الفرد من كل شيء، من المجتمع، ومن المؤسسة الدينية، ومن نفسه في النهاية. ولذلك فإن إحدى النقاط التي يؤرَّخ بها لوصول الحداثة، أو ارهاصاتها على الأقل، هي اللحظة التي صنع فيها رينيه ديكارت "الكوغيتو". ما قام به رينيه ديكارت لم يكن تأكيده البريء لذاته(هذا هو ما يميز ما قبل الحداثة عموماً) بل أنه قام بالعملية التي ستميز كل مدارس التفكير الحداثية لاحقاً، عملية يطلق عليها في علم النفس الحديث "افقار الذات" Subjective Destitution. نقطة بداية ديكارت كانت تشكيكه في كل الثوابت التي حوله، بما فيها نفسه، هويته، دينه، أصله، وحضارته. ما بقي بعد أن فقد ديكارت كل الأسس التي يقف عليها و(لكنها تكبله أيضاً)؟ هو الكوغيتو. ذلك "الشيء" الذي يفكر. وعلى بساطة هذا التحول، إلا أنه، كما هو واضح، صعب جداً، وتعمل على قمعه ظروف اجتماعية وفردية كثيرة.
(2)
ضد التاريخانية، إذن، (وهي المدرسة التي ترى أن كل شيء نسبي متعلق بتاريخ معين، وبالتالي، بجغرافيا معينة، ولا يوجد شيء مطلق) فإن الحداثة يجب أن تقرأ داخل منظور تاريخي حقيقي، حيث تُرى الحداثة الغربية بصفتها تبدي لشيء أعم، وهو معضلة الحرية الفردية الإنسانية، ومعضلة التفكير. وكان لابد لهذه المسألة أن تتفجّر في مكان ما في العالم، وبطريقة ما. أما الظروف الموضوعية التي جعلت أوروبا هي المكان الذي ظهرت فيه هذه المسألة بقوة؛ فهي أمور نسبية غير مهمة. كحقيقة، إن الفلسفة ظهرت، أولاً، في أطراف أوروبا. أو حقيقة أن هذه التجربة أدت في النهاية إلى أن تصبح أوروبا قوة هيمنة عالمية، وبالتالي، يصبح تاريخها هو التاريخ الأكثر رواجاً. علينا أن نمتلك القدرة على أن نتجاوز حزازاتنا مع الاستعمار، لنرى هامشيته بالنسبة للحقيقة الأساسية: الحداثة مسألة مطلقة، تتعلق بفكر الإنسان وحريته. وبالتالي، علينا ألا نخجل وألا نشعر بالتعارض ونحن نرتبط مع أصول هذه المسألة في أوروبا، ونقاوم الاستعمار بكل السبل الممكنة في نفس الوقت.
هذا التوجه كان، دائماً، الأساس الحقيقي لمحاربة الاستعمار. أن ينظر للاستعمار باعتباره انحرافا عن مشروع الحداثة الذي يتوجب على المستعمَرين، في العالم الثالث، استعادته. فرانز فانون في "معذبو الأرض" تحدث منذ البداية عن مشروع العداء للاستعمار كمشروع لإعادة صياغة العالم. وحتى على المستوى المعرفي، فإن فانون كان قارئاً جيداً للفكر الحديث، من هيغل إلى فرويد، وتورط بصورة أصيلة في النقاشات الفكرية الحديثة، وإن كان من منظوره الخاص كمستعمَر. فانون لم ير نفسه كشيء جديد خارج الفضاء الحديث، بل هو المشكلة التي ستواصل تحريك مشروع الحداثة إلى الأمام.
ما يجب علينا أن نلاحظه، دائماً، هو أنه في هذا التورط في الحداثة كمطلق سيكون بإمكان كل مجتمع، وكل تاريخ مختلف، أن ينتج شيئاً جديداً وفريداً بصورة أصيلة. مثلما فعل فانون. بينما في التقوقع والانحسار نحو الأصول، تكمن ورطة الخضوع للنمط المفروض من قبل الغرب المهيمن. امتازت كل الحداثات البديلة، من الصين وحتى دولة صغيرة كقطر، بقبولها بالأساس الذي تقوم عليه المنظومة العالمية: الرأسمالية. وتُتْرَك الأصالة لتلعب دوراً فلوكلورياً في المجالات الهامشية. سيكون من المبهج لحكام الممكلة العربية السعودية أن يجعلوا شعبهم يغرق في بحر من الأصالة المضحكة، بينما تحافظ الأسرة على سيطرتها على مقاليد الأمور، وتحويلها للمملكة لمجرد دولة عادية في العالم، بلا أي تفرد حقيقي.
(3)
متى ما حرّرنا الحداثة من ارتباطها مع التقدم المادي، وأرجعناها إلى جذرها، في كونها تغيّراً فكرياً فردياً، كان بإمكاننا أن نفهم فكرة الدولة الحديثة، وأن نفصلها من واقع الدول الحديثة الحالية، التي هي في معظمها قوى إمبريالية رجعية. وسيكون بإمكاننا، كذلك، أن نستعيد الاحترام لعملية التفكير، ليس بوصفها شيئا يؤدي للتقدم والمنفعة، بل بصفتها الجذرية كمسألة تحرر فردي، وفي هذا الإطار، فقط، ستكون أشياء كالفلسفة والفن ممكنة.
بالنسبة للدولة الحديثة، كثيراً ما يهاجم الإسلاميون هذه الدولة باعتبارها دولة "مادية"، ألغت الجانب الروحي في الإنسان، وحوّلت العملية السياسية إلى عملية تعاقد اجتماعي مبني على المصلحة الفردية النرجسية المحضة. هذا الكره لفكرة الدولة الحديثة، هو كره مبني على عدم معرفة بالأساس الذي قامت عليه. وبدون هذه المعرفة، لا يبقى للناقد الإسلامي إلا أن ينظر إلى الدول الحديثة الحالية باعتبارها تمثُّلاً للأفكار التي قامت عليها، وذلك لا يجعل الولايات المتحدة، التي تحتل العراق وتقتل الآلاف من أجل النفط، مثالاً لفكرة الدولة الحديثة فقط، بل يجعل حتى ألمانيا النازية، مثالاً أيضا. علينا، إذن، أن نقرأ التاريخ الغربي، ليس كتاريخ انتصار فكرة الدولة الحديثة، بل كتاريخ هزيمتها. علينا أن نتذكر، دائماً، أن نابليون الذي بدأ مشروع الاستعمار، وهو المشروع الذي أدى إلى تحول الدول الأوروبية لقوى عالمية عظمى، هو نفسه نابليون الذي بنى دولته على أنقاض الثورة الفرنسية.
قامت الثورة الفرنسية على أفكار الحداثة: الحرية والعدالة والمساواة والأخوة. ولأن حقيقة هذه المُثُل لا يمكنها إلا أن تظهر في داخل الواقع المادي (ما العدالة إن لم تكن العدالة في توزيع الثروة والقوة المادية؟) أخذت الثورة الفرنسية تتحدث لغة المادة، واعتبرت أن كل تحريف للصراع لإتجاهات أخرى، هو تضليل فاسد للناس. الكنيسة كانت تقوم بتزييف الواقع، حتى تستمر الأقلية في التمتع بالواقع المادي، وتستمر الأغلبية في معاناتها. لذلك، كانت الثورة الفرنسية ثورة مادية ضد "الروحانية الزائفة والمضللة" للكنيسة. لكن هذه المادية كانت، بالفعل، "مادية مقدسة" بكل ما للكلمة من معنىً. فأول مهام الثورة كان تحويل الناس من مخلوقات مادية فقط، إلى جنود وكوادر في يد الحقيقة، أن تخلِّصهم من قيد اهتمامهم بشؤونهم الخاصة، لذلك، أخذت الرغبة في الحياة شكلها الثوري في الاستعداد للموت. الاستعداد للموت ليس من أجل الموت (هذه هي معادلة الأصولية الجهادية والجماعات العنصرية العرقية). بل الاستعداد للموت من أجل الحياة. قامت الثورة الفرنسية (والدولة الحديثة)، إذن، على أساس أخلاقي جذري، أحد منتجاتها هو فكرة "الفرد الثوري" الذي هو تمثُّل لأخلاق الفردانية. وربما لا توائم هذه الأخلاق الثورية أخلاق الأصوليين الذين يبحثون عن سند خارجي في النص وفي المؤسسة الدينية، هي فعلاً أخلاق ستبدو شيطانية للأصولي الذي لا يؤمن بالحرية ولا يعرف غير المرجعيات الخارجية الثابتة، ولكنها، رغم ذلك، أخلاق لا يستطيع أحد أن يصفها بأنها "نفعية". الفرد الثوري يحب الحياة، ويتطلع لأن يعيشها بحرية، وأن يحقق ذاته، وأن يكون سعيداً، لكنه مستعد للموت حالما وقف الاستبداد بينه وبين هذه الحياة، ومستعد للموت من أجل واجبه الأخلاقي في رفع الظلم عن الآخرين. ماذا كانت الثورة الفرنسية غير حقيقة تحرر الناس من الاستبداد عن طريق رفض "المنفعة" البسيطة التي كانت تقدمها لهم البرجوازية في شكل مجرد: الأكل والعمل، والمخاطرة بكل شيء، بما في ذلك الحياة، من أجل الحرية!
لكن، هذا ليس كل شيء بالنسبة للثورة الفرنسية؛ هي لم تكن فعلاً أخلاقيا عادياً. أساس فكرة الدولة الحديثة و"عقلانيته" جاء من اعتماد الثورة الفرنسية على فكرة تطبيق النظريات المجردة على أرض الواقع، وتحمُّل العنف الذي سيتطلبه ذلك الأمر. ما قام به اليعاقبة من عنف في الفترة التي سميت لاحقا بـ "حكم الرعب" كان محاولتهم لإنزال أفكار روسو على الأرض. أن تطالب بالعدالة والمساواة هو شيء، وأن تحمل نظرية سياسية ثورية تجسد هذه المبادئ هو شيء آخر. تطبيق الديمقراطية، التي كانت في ذلك الوقت مجرد نظرية سياسية يوتوبية، تمّ عن طريق افراغ موقع السلطة التي سيحتلها الشعب، الافراغ الذي توَّلت أمره المقصلة. الثورة الفرنسية، إذن، كانت اللحظة التي بدأت فيها عملية ادخال الفكر الحداثي النظري في الواقع، العملية التي أنتجت الديمقراطية الحديثة، وجعلت من العدالة والمساواة والأخوة، من فكرة "الجمهورية" وحكم الشعب، الأسس التي تُعرِّف الدولة الحديثة بها. وفي هذا التاريخ الأوروبي المنسي، الذي تعاديه وتشوهه القوى الأوروبية المهيمنة حالياً، علينا أن نرى أنفسنا. مهما بدا ذلك طفولياً ومبالغا في الرومانسية الثورية، علينا عندما نتحدث عن إرث اليعاقبة أن نتحدث عنهم بصفتهم "جزء منا". هذا التقسيم لأوروبا، لروبيسبيير ضد نابليون، يمكننا من رؤية مطلق الحداثة ومن التموضع داخلها بشكل صحيح.
لهذه النظرة للحداثة تبعات سياسية مهمة. لقد أدى الانبهار بالتقدم المادي للغرب إلى فشل كثير من الحركات التحررية، عندما يتحوَّل الحديث السياسي، من حديث عن الحرية والعدالة وتحقيق إنسانية الأفراد، إلى حديث عن "التقدّم المادي" فقط. التقدّم الذي يأخذ شعاره البائس: اللحاق بالغرب! دعونا نوسِّع خيالنا لنتخيل عملية سياسية جذرية تهدف إلى تحديث المجتمع، وليس لتلحيقه بالغرب، عملية سياسية تقيس نجاحها وفشلها بمدى قدرتها على تحويل مُثُل الحداثة لواقع معاش. أن يكون الناس أحراراً ومتساوين، أن تفتح لهم سبل التطور الفردي في العلوم والفنون. وأن نصل إلى تعاقد اجتماعي مادي يجنِّبنا الحرب والتحلق حول الإثنيات. أما التقدم المادي، فذلك أمر تابع لهذه الأسس، وليس سابق لها، وربما، هكذا، سيكون بإمكاننا أن نصنع تاريخاً أصيلاً فعلاً.
(4)
أما بالنسبة للفكر والفن. وضع كانط في مقالته المذكورة سابقاً حداً فاصلاً بين ما سماه "الاستخدام العام للتفكير" ضد "الاستخدام الخاص للتفكير". بالنسبة لكانط، فإن التفكير يجب أن يكون عاماً، وألا تتم خصخصته باختضاعه لمنطق المؤسسات. التفكير يجب ألا يخضع للسياسة، ولا للمؤسسة الدينية، ولا لفكرة المنفعة. في الحداثة يحمل التفكير في ذاته قيمة. لذلك فإن التفكير "العام" هو أن يفكر كل واحد منا بحرية خارج قيود المؤسسات ومصلحة المجتمع. قد تبدو هذه الفكرة بسيطة وبديهية، إلا أن جولة على المشهد الثقافي في العالم الثالث ستجعلك ترى أننا في الحقيقة لا نفكر إلا في ظل المؤسسات ومنفعة المجتمع. بل، ولأننا لم نتحرر فردياً، ولم نعرف قيمة حرية التفكير الفردية، فإننا نحتقر التفكير الذي ليس له هدف اجتماعي واضح. كل ذلك جعل بيئتنا الثقافية مليئة "بالمفكرين" وفقيرة "بالفلاسفة". أو بلغة كانط، فإننا نفكر فقط داخل مجال التفكير الخاص، وهو تفكير له فوائده بالطبع، ولكنه مثل الفن الموجّه يفتقد لشيئين: النقد الجذري للأسس والمسلمات، والإبداع المذهل.
إذن، وبما أن الحداثة هي في النهاية مجرد تغير فكري، فإنه ليس من الغريب أن نبحث عن إشراقاتها في بلداننا الفقيرة كذلك. وأن نحاول أن نكون أفراداً وجماعات (وأحزاباً ثورية) جزءً من هذا المشروع. لا حاجة لنا لإنتظار مباني الحداثة وتكنولوجيتها. في منطقتنا، ظهرت الحداثة في داخل حركات التحرر من الاستعمار، في فرانز فانون تحديداً، ذلك "المسخ" الذي صنع انتماؤه إلى أفريقيا بنفسه، وبالتالي، خلق لنفسه وطناً وهوية من العدم. أما في الفن، فإننا، في السودان، لدينا الطيب صالح، ورائعته "موسم الهجرة إلى الشمال".
ما يجعل الطيب صالح فناناً حديثاً، بكل ما للكلمة من معنى، هو، أولاً، فردانيته الطاغية. الفردانية غير النرجسية، أي التي لا تبني تفرُّدها على رأي الآخرين، ولا تطلب منهم شيئاً. يذهل المرء، دائماً، عندما يتذكر كيف كان الطيب صالح يتحدث عن الكتابة بوصفها أمراً لا يجب أن تلقي له بالاً، هو يقول إن على الكاتب أن يدع أفكاره تتبخر في الهواء وتضيع، كما يذهب دخان السيجارة. الكتابة بالنسبة له لم تكن فعلاً لغرض الحصول على "الاعتراف" من قبل الآخرين، وليست حتى عملاً محبباً أو شغفاً بالمعنى التقليدي للكلمة، هو كان يتحدث، دائماً، عن الكتابة بوصفها ثقلاً يحمله الكاتب في صدره، ويريد أن يتخلص منه، هي شيء يحدث لذاته، شيء "كقدر نيتشة" الذي تكمن الحرية في قبوله غير المشروط. هيرمان هيسة عبّر عن فكرة الفن كقدر جميل في عبارته: "عندما بلغت الثالثة عشرة عرفت، تماماً، أنني أمام خيارين، إما أن أصبح شاعراً أو أن أموت". حتى أبطال الطيب صالح، هم أبطال حداثيون بإمتياز، التشابه بين مصطفى سعيد وجان بول مارات لا يمكنه أن يخفى على أحد (لوحة مقتل مارات وصفها أحدهم بأنها أول لوحة حداثية في التاريخ). مصطفى سعيد يظهر في الرواية كشخص منزوع عنه كل شيء، هو فعلياً ميت في شكل حي، وفي "وحشيته" هذه تكمن جاذبيته منقطعة النظير. عاد مصطفى سعيد إلى أرضه بعد أن قادته ورطة غياب الهوية الاستعماري لمغامرات هيستيرية قضت على شخصيته ومستقبله تماماً، عاد إلى أرضه هادئاً هدوء الموتى، ليكون فيها غريبا من جديد، في الغرفة المغلقة كتب مصطفى سعيد سيرته الذاتية بأن كتب اسمه فقط وترك بقية الصفحات بيضاء، صفحات بيضاء فارغة تشير إلى سواد العدم. ربما علينا أن نقرأ هذه السيرة الذاتية بإعتبارها "قمة" مصطفى سعيد وليس أزمته. هذه التراجيديا التي يتحرر الإنسان فيها من نفسه عن طريق فقده لها، ليعود في صورة "مسخ"، في صورة "اللاشيء" الذي يؤكد نفسه من جديد في شكل جذاب وشديد التأثير، هي إحدى السمات الرائعة للفن الحديث.
وكي يمسك الواحد منا بتلابيب نظرية الفن الحديث، لا حاجة له للذهاب بعيدا. الشاعرة نجلاء التوم، وهي بالتأكيد جزء من حركة ثقافية حداثية جديدة، كتبت مؤخراً في مجلة البعيد:
«الإشارة هنا للموسيقى في عبورها المحض، الموسيقى المُخلصة لمنطقها الفني وليست الموسيقى المستخدمة سياسياً. هذه الموسيقى الغافلة الآبقة المُنغمسة في ذاتها هي التي تفعل، وهي وحدها المُؤهَّلة للفعل السياسي، وليس أي موسيقى أخرى»
«نحن بحاجة إلى فنٍّ عظيم يجعل من الحياة– والتي هي كُلُّ ما نملك– لحظةً مشكوكاً فيها، كذبة، جحيماً من الإحراج الروحي لايمك نتفاديه ولا التعاطي معه، هذه اللحظة المُنتحرة هي اللحظة الصحيحة والصحيَّة لولادة الغد، عندها فقط، يمكن أن يبدأ التفكير، مُنهكاً وضعيفاً وقويَّا مثل جنين، في كيف يستعيد الفرد روحه من الابتذال والوضاعة، أي البداية الحقيقية للتحول السياسي»
الفن أذن، وحتى عندما نتطلع إليه كأداة تحرر سياسي، هو شيء لا يحدث إلا عندما يحدث لذاته. وهو متصل، بشكل حاسم، بلحظة "انتحارية" تحررية يولد بعدها الفرد. أو بمصطلحات الحداثة: الذات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق