(1) الحضيض
من السهل جدا ادعاء الجذرية: يقف شعار الانقاذ في بداياتها "امريكا قد دنى عذابها" كمثال طريف على هذه الحقيقة، و اكثر من ذلك... يمكننا ان نستخدم هذا المثال لنرسم خطوط التشابه التي تربط شقي نخبتنا السياسية، في الحكومة و المعارضة.
لا عجب ان السودانيين قد طوروا كراهية خاصة للشعارات، فكل حركة سياسية ذات اهداف رجعية (بوعي او بدون وعي) سترفع في البداية شعارات براقة غير منطقية حتى تتسلق بسهولة و لتغطي على عدم كفاءتها، و ما أن تصل هذه الحركات للسلطة حتى تنقلب بسرعة على شعاراتها فتبتلعها. بعد ان كانت الانقاذ تعدنا باننا سنهزم بضربة واحدة القوى المهيمنة علينا "لناكل مما نزرع و نلبس مما نصنع" انقلبت علينا في فترة وجيزة. لقت رُكِّزت الثروة في ايادي مخترعي تلك الشعارات، في الوقت الذي إنقسم فيه بقية الناس بين محظوظين قد طردوا عمليا خارج الوطن و قليلي الحظ داخله.
لكن، و على الرغم من كل شيء، الا تستحق امريكا العداء؟ جرت العادة بأن يبني خصوم الإنقاذ تمسكم الأعمى بالشعارات الجوفاء على جرائم الإنقاذ. سيكون من الصعب تصديق هذا الأمر إذا تذكرنا أنهم كرهوا الإنقاذ و بنفس هذه الحدة منذ البداية، أي قبل أن ترتكب الإنقاذ هذه الجرائم. فعبد الله علي إبراهيم على سبيل المثال أصبح خائنا في نظر هذه الفئة لأنه شارك في مؤتمر عقدته الإنقاذ و هي في أقصى بداياتها. ناهيك عن حقيقة أن الإنتهاكات التي قامت و تقوم بها الحركة الشعبية لا يتم التعامل معها بنفس المعيار الاخلاقي الحاد. و أن مشاركة اليسار (و منصور خالد) في مايو قد تم تاوزها بسهولة و بلا كثير عناء بينما تتردد مقولات "لكي لا ننسى" و أخواتها حتى على قبور شيوخ الإسلاميين. لكن لنتجاوز كل ذلك، و نسال السؤال التالي: اذا كان قتل الانقاذ للناس يبرر ان نرفض اي مساومة معها حتى و ان كان لذلك عواقب اكبر، الا يبرر ذلك معاداة امريكا بنفس الطريقة الساذجة التي حاولها الانقاذيون في البداية؟
ان مناقشة الحالة التي تمثلها هذه المجموعات هي وسيلة مهمة لفهم الفرق بين ادعاء الجذرية و بين العمل من اجل تغيير جذري حقيقي. و بشكل عام، يمكننا القول بان الايجابية الوحيدة لوجودهم هي انهم يمثلون كل ما لا يجب القيام به، بطريقة مؤسفة و مرحة في نفس الوقت. قال ماركس مرة معلقا على فلسفة تكرار التاريخ عند هيغل: تحدث المأساة في المرة الأولى كتراجيديا، ثم تتكرر مرة أخرى كمهزلة. ألا يمكن قول نفس الشيء حول إعادة ثوريينا لأنفسهم منذ أكتوبر 64 و إلى الآن؟
تركز الحركات الرجعية خطابها على الشعارات الاخلاقية التي يسهل تبنيها و التخلص منها لاحقا، و التي تعمل بكفاءة كحامية ضد النقد و كوسيلة لخداع الناس. و بالمناسبة، فاننا عندما نقول "خداع" فاننا نعني هذه الكلمة حرفيا: عقب انقلاب السيسي في مصر اظهر الناشطون حماسا مبالغا فيه لعملية سحق جماعة الاخوان المسلمين، و اصدرت الاحزاب السياسية بياناتها المؤيدة للانقلاب بدون اعطاء اي اعتبار للخلل الاخلاقي الذي تمثله هذه المقاربة السياسية، لا تستطيع الحركات السياسية الفاشلة الا ان تكون اخلاقية ظاهريا فقط، لتسقط في اول و اسهل الاختبارات العملية، ليظهر مؤيدوها، في كثير من الاحيان، بين الناس كمجموعة من المخادعين.
و عن طريق ضيق الافق و العيش في حالة طوارئ سياسية دائمة (تتكرر بشكل مضحك جملة ان الوطن يمر بمرحلة خطيرة)، تستطيع الحركة الفاشلة ان تحجز مكانا في الساحة السياسية بلا اي كثير جهد، فكريا كان أم عمليا. لاحظ احدهم ان الاهداف الانية العالية و غير المعقولة هي الوسيلة الافضل لكي يريح الانسان نفسه من كل عناء. يبدو أنه و بعكس اعتقاد النور حمد مثلا بأن إحدى مشاكل الأحزاب عندنا هو إهتمامها "بالسياسة اليومية، كالإهتمام بإرتفاع أسعار الخضار و السلع الضرورية"، فإن ما يحدث فعلا هو أن التبني (الملحمي) لقضايا الناس هو الخطوة الأولى لعملية الإنسحاب الكامل من الفضاء الأساسي لأي فعل سياسي تحرري، و هو مساحة الحياة اليومية للناس. إذ لن تجد، مهما بحثت، داخل مجلدات الخطاب المكرر و المبالغ في الكراهية للإنقاذ أي حل لأي مشكلة حقيقية تواجه المواطن مهما كانت بسيطة.
لا عجب ان السودانيين قد طوروا كراهية خاصة للشعارات، فكل حركة سياسية ذات اهداف رجعية (بوعي او بدون وعي) سترفع في البداية شعارات براقة غير منطقية حتى تتسلق بسهولة و لتغطي على عدم كفاءتها، و ما أن تصل هذه الحركات للسلطة حتى تنقلب بسرعة على شعاراتها فتبتلعها. بعد ان كانت الانقاذ تعدنا باننا سنهزم بضربة واحدة القوى المهيمنة علينا "لناكل مما نزرع و نلبس مما نصنع" انقلبت علينا في فترة وجيزة. لقت رُكِّزت الثروة في ايادي مخترعي تلك الشعارات، في الوقت الذي إنقسم فيه بقية الناس بين محظوظين قد طردوا عمليا خارج الوطن و قليلي الحظ داخله.
لكن، و على الرغم من كل شيء، الا تستحق امريكا العداء؟ جرت العادة بأن يبني خصوم الإنقاذ تمسكم الأعمى بالشعارات الجوفاء على جرائم الإنقاذ. سيكون من الصعب تصديق هذا الأمر إذا تذكرنا أنهم كرهوا الإنقاذ و بنفس هذه الحدة منذ البداية، أي قبل أن ترتكب الإنقاذ هذه الجرائم. فعبد الله علي إبراهيم على سبيل المثال أصبح خائنا في نظر هذه الفئة لأنه شارك في مؤتمر عقدته الإنقاذ و هي في أقصى بداياتها. ناهيك عن حقيقة أن الإنتهاكات التي قامت و تقوم بها الحركة الشعبية لا يتم التعامل معها بنفس المعيار الاخلاقي الحاد. و أن مشاركة اليسار (و منصور خالد) في مايو قد تم تاوزها بسهولة و بلا كثير عناء بينما تتردد مقولات "لكي لا ننسى" و أخواتها حتى على قبور شيوخ الإسلاميين. لكن لنتجاوز كل ذلك، و نسال السؤال التالي: اذا كان قتل الانقاذ للناس يبرر ان نرفض اي مساومة معها حتى و ان كان لذلك عواقب اكبر، الا يبرر ذلك معاداة امريكا بنفس الطريقة الساذجة التي حاولها الانقاذيون في البداية؟
ان مناقشة الحالة التي تمثلها هذه المجموعات هي وسيلة مهمة لفهم الفرق بين ادعاء الجذرية و بين العمل من اجل تغيير جذري حقيقي. و بشكل عام، يمكننا القول بان الايجابية الوحيدة لوجودهم هي انهم يمثلون كل ما لا يجب القيام به، بطريقة مؤسفة و مرحة في نفس الوقت. قال ماركس مرة معلقا على فلسفة تكرار التاريخ عند هيغل: تحدث المأساة في المرة الأولى كتراجيديا، ثم تتكرر مرة أخرى كمهزلة. ألا يمكن قول نفس الشيء حول إعادة ثوريينا لأنفسهم منذ أكتوبر 64 و إلى الآن؟
تركز الحركات الرجعية خطابها على الشعارات الاخلاقية التي يسهل تبنيها و التخلص منها لاحقا، و التي تعمل بكفاءة كحامية ضد النقد و كوسيلة لخداع الناس. و بالمناسبة، فاننا عندما نقول "خداع" فاننا نعني هذه الكلمة حرفيا: عقب انقلاب السيسي في مصر اظهر الناشطون حماسا مبالغا فيه لعملية سحق جماعة الاخوان المسلمين، و اصدرت الاحزاب السياسية بياناتها المؤيدة للانقلاب بدون اعطاء اي اعتبار للخلل الاخلاقي الذي تمثله هذه المقاربة السياسية، لا تستطيع الحركات السياسية الفاشلة الا ان تكون اخلاقية ظاهريا فقط، لتسقط في اول و اسهل الاختبارات العملية، ليظهر مؤيدوها، في كثير من الاحيان، بين الناس كمجموعة من المخادعين.
و عن طريق ضيق الافق و العيش في حالة طوارئ سياسية دائمة (تتكرر بشكل مضحك جملة ان الوطن يمر بمرحلة خطيرة)، تستطيع الحركة الفاشلة ان تحجز مكانا في الساحة السياسية بلا اي كثير جهد، فكريا كان أم عمليا. لاحظ احدهم ان الاهداف الانية العالية و غير المعقولة هي الوسيلة الافضل لكي يريح الانسان نفسه من كل عناء. يبدو أنه و بعكس اعتقاد النور حمد مثلا بأن إحدى مشاكل الأحزاب عندنا هو إهتمامها "بالسياسة اليومية، كالإهتمام بإرتفاع أسعار الخضار و السلع الضرورية"، فإن ما يحدث فعلا هو أن التبني (الملحمي) لقضايا الناس هو الخطوة الأولى لعملية الإنسحاب الكامل من الفضاء الأساسي لأي فعل سياسي تحرري، و هو مساحة الحياة اليومية للناس. إذ لن تجد، مهما بحثت، داخل مجلدات الخطاب المكرر و المبالغ في الكراهية للإنقاذ أي حل لأي مشكلة حقيقية تواجه المواطن مهما كانت بسيطة.
و ما إن تسأل عن البرنامج السياسي و الكيفية التي ستعالج بها اي مشكلة، حتى تعطى الإجابة التي يتم التعامل معها كنص مقدس: يجب أن نأتي بالديمقراطية أولا. ربما تفسر هذا الإستراتيجية في الهروب ظاهرة الإهتمام بنوع واحد فقط من الفعل السياسي: التظاهر لإسقاط النظام.
لقد ظهر الإنسحاب الكامل من الحياة اليومية للناس في شكل المناضل الذي يسخر الناس من كل تضحياته "التي يفترض أنها لأجلهم هم". لكن، بالنسبة لي، فإن المفارقة الأكثر بؤسا هي أنه في داخل هذا العمل السياسي المعزول عن الشعب (معركة المعارضة هي ضد النظام و لكنها ليست من أجل الناس، ليست من أجل الكادحين، فهؤلاء عند المعارضة هم أطفال الدولة تشكلهم و تصلح حالهم، و منذ إنتهت تجربة عبد الخالق محجوب لم يؤمن أحد بهم كبروليتاريا تصنع فوق أكتافها الدول) فإن الطاقة المفترضة للتحرر يتم "سجنها" في الإطار الضيق للرغبات النفسية في أشكالها الأكثر بدائية، و ما لا يلاحظه المناضل هو أنه خلف تبنيه الظاهري لمباديء الإيثار و التضحية (و هي مباديء تعلمنا التجربة الدينية للإنسانية أنها طاقة تحرر شخصية قبل أن تكون إجتماعية) خلف تلك المبادئ يختبيء شخص متمحور حول ذاته تماما، و بالتالي متبلد ذهنيا و نفسيا. فقط في مثل هذا الواقع النفسي سيفضل الإنسان نصره الأخلاقي الآني الصغير، على كل شيء آخر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق