-1-
جلسنا أنا و هي على شرفة مطلة على الأبيض المتوسط، لا يدري المرء هل غاب ذهنه مع نسائم الهواء أم مع إمتداد البحر في لحظات الحياة القليلة التي نشعر فيها بأن كل شيء بعيد عنا إلا ما نحب، نظرت إليها و كانت هي الأخرى قد رحلت بعيدا بين صفحات كتاب ما، إلا أنها بدت جميلة بشكل مثير و هي تبدو مركزة على عوالم أخرى و شاردة عن عالمي، و اللحظة كانت ساحرة لأنني كنت أعلم أنها كانت تشعر مثلي بأننا وحيدان تماما في العالم.
طلبت منها أن تقرأ بصوت عال، إنزعجت مني كالعادة، قالت بصورة مقتضبة سريعة: إني أقرأ كتابا بالفرنسية، و عادت تقرأ، إبتسمت و هي تعود للقراءة، كالعادة أنا ألعب دور الأبله، شرد ذهني بين خدها و قليل من الشعيرات كانت تخرج أسفل نظارتها، دمعة فرح معتادة عاجلتني، حبست كل شيء و عد للبلاهة من جديد: إقرئي بصوت عال، نظرت إلي و كان واضحا أنني لن أتوقف
الآن أصبح كل شيء سحريا، إنني أتذكر كيف إلتقيت بهذه الآنسة و كيف أحببتها، ماذا جرى بيننا أول يوم، و كيف أقنت نفسي بحتمية هذه الورطة و كيف أقنعتها، أول قبلة، و لحظات الألم، و كيف تعودنا بصعوبة شديدة على الحياة تحت سقف واحد، كيف حدث كل شيء و كيف كان الزمن يجري بيننا كالنهر الذي نبتعد في وسطه و تبتعد عنا الضفتان، و صوتها كان يتردد بين الشرفة و لا نهائية البحر، كان صوتا جميلا
-2-
لسبب ما، صعدت لظهر ذلك المركب و أبحرت به بإتجاه الجنوب و الشمال، كان ذلك قبل وقت طويل، و أقول ذلك لأنه عذري القوي لكل شيء سأرويه لكم، إبتداءا من حادثة نسيان سبب ركوبي البحر، و إنتهاءا بقصتي مع النجوم.
مر وقت طويل و أنا مبحر، في بداية الرحلة كنت شابا، أو هكذا يتصور لي الآن، و مع مرور الوقت ماتت أجزاء مني و لكن أجزاء أخرى كانت قد ماتت قبلها عادت للحياة، أو ربما هي أجزاء مشابهة لها بعثت من جديد، لا أدري، المهم أنني مت و بعثت عدة مرات بدون أن أموت و بدون أحيا، و هذا المركب تتلاطمه الأمواج، أنا بالتأكيد قائد المركب، و لكن من يمكنه لومي على ما تفعله أمواج البحر؟
يوجد في عرض البحر أفق، و توجد فوقه الشمس، و النجوم، و له رائحة الصمت، و مذاق الوحدة، و لكن لا يوجد وقت، فأنا أموت و أحيا بإستمرار، و الأمواج لم تغيير إيقاعها مطلقا، و لاشيء بين السماء و الأرض، اللهم إلا قليل من طيور و بعض من بخار الماء، و لكنني و بين حصار المتوقع غير المتوقع، تمكنت من أن أحفظ لنفسي على قدر جيد من المرح، و يبدو أنني نجوت من أكبر مهددات وجودي و هو الملل.
حدثت لي وسط كل هذا الكثير من القصص التي نسيتها، و لأنني نسيتها فلا أدري هل كانت مهمة أم لا، و لكنني أحتفظ بشعور لا أساس له بأنها كانت أحداثا مهمة، و للأمانة فإني أجده شعورا مثيرا للسخرية، لكن ما السخرية؟ في وسط بحري هذا و بين الأمواج العشوائية و تحت السماء شبه الصافية، و على قاربي القديم، ما السخرية؟
لقد ظهرت لي من على البعد البعيد علامات أظنها وهما، و هذه العلامات تشير إلى إحتمال وصولي لبلاد، و هذه العلامات تقول بأن هذه البلاد ليست إلا بداية رحلة جديدة و بحر جديد، و قارب أوسع، و أن أبحر على الأقل و أنا أنام بهدوء، بلا ضوضاء أمواج البحر العشوائية، و شيء ما بعيدا عن العلامات يجعلني أتوهم كذلك أن سعادة ما تنتظرني، أو فلنقل أنها تنتظرني أنا الذي سأكون حيا حينها.
لا شيء يمكن أن يقودني إلى هناك سوى النجوم، و لكنني محاصر بسؤال: إن النجوم في السماء، كالدر تلمع في صفاء كالدموع، و لكنها مبعثرة، كيف لي أن ألتمس الهدى من نجوم مبعثرة؟
إن سؤالا آخر أوقفني: هل رحلتي هذه جميلة؟ .
ما السخرية؟
في هذا البحر، حيث هناك بلاد الوهم، و النوم الهاديء ربما، و تحت السماء و النجوم المبعثرة في حضن الليل كالدر تلمع في صفاء كالدموع، و فوق القوارب الضيقة و الواسعة المبحرة فوق أجواف البحار المظلمة، في هذه الروح التي تموت و تحيا و تموت و تحيا، و بين أسئلة الجمال و أسئلة القبح. ما السخرية؟
-3-
مدة طويلة بقيتها أمام شاطيء البحر، كالعادة مرت الساعات بين الذكريات و اللاشيء، في فترات اللاشيء كنت أشعر بأنني وحيد تماما، شعور غريب أن تشعر أنك وحيد تماما، و هو شعور مختلف عن أن تشعر بأنك لوحدك لأن الجميع بعيدون منك، هم غير موجودون أساسا، هذا ما كنت أشعر به، أنا و البحر و لا أحد سوانا، شيء ما خلاب يظهر في منتصف ذلك العدم، أو في منتصف وجودي لوحدي، ثم الذكريات، بكل الحزن و السعادة، و لكن بدون ألم، لم أعد أريد أن أغير شيئا، ذكرياتي كما هي، تضرب على أوتار قلبي بدون أي تدخل مني، لذلك لا أتألم منها، الحب كان ثم إنتهى، و الأماني تحققت أو لم تتحقق، أمام البحر كل شيء يبدو واضحا، فأنا لن أعيش طويلا، و إن عشت فلن أفعل شيئا سوى المجيء هنا كل يوم أو الجلوس أمام البيانو لأعزف مقطوعات ثم أنساها لأعزف غيرها.
من بين كل الذكريات، ذلك اليوم كنت أفكر في الوجبات اللذيذة التي كنت أرهق نفسي في صنعها، كنت أصنعها بكل الإنتباه و الإنهماك، أستمتع برائحة الشواء و هي تختلط في فمي بالشعور اللاذع للحمضيات، كل شيء كنت أجعله مثاليا أمامي في الطاولة، ثم أتناول الوجبة ببطء شديد مع مراعاة ألا أدعها تبرد، مشهدي و أنا أجلس وحدي لأتناول أطباقا مميزة صنعتها بنفسي كان بالنسبة لذاكرتي مشهدا رائعا، شعرت بتلك الغبطة الرائعة، لقد أمضيت حياتي أبحث عن شيء ما، لم أجد شيئا و لكن ذلك لم يكن يؤرق ذكرياتي، فأنا لم أعد أتألم.
في ذلك اليوم مرت بجانبي أسرة، سيدة عمرها في مثل عمري، و معها إبنتها على ما يبدو و حفيداها، كان يبدو عليها أنها سيدة راقية فرغم كبر سنها كانت تبدو مميزة، ترتدي لباسا خفيفا مناسبا للخروج للشاطي و لكنه كان أنيقا، بدت تلك السيدة جميلة جدا بالنسبة لي، جلست العائلة غير بعيد عني، و بدأت السيدة الجميلة تنظر للبحر ثم تعود لتشاهد حفيداها يلعبان، أبنتها إقتربت مني لتسألني عن شيء ما، ثم ما لبثت أن جلست بجواري و بدأت تتبادل معي حديثا ضاحكا كما يفعل عادة الشباب مع من يعتبرونهم مسنين، الإبنة كانت مألوفة لي جدا، سألتها عن أمها، خيل لي أنني عرفتها في مضى، ربما أحببتها، و يبدو أنها فعلت كل شيء كانت تريده ، حتى إبنتها كانت رائعة ، لا أدري بماذا شعرت تجاهها، صرخت البنت فجأة وهي تضحك: "ماما يبدو أن العم هنا قد أعجب بك!"، إلتفتت إلي السيدة، تمتعت بمنظر وجهها مندهشا، لا أدري ماذا حدث بعدها
-4-
كنت اعتقد دائما ان الصدفة امر عبثي، حتى قادتني الظروف لان اكون شريك محمد الماحي في زنزانته في ايامه الاولى في السجن، لا استطيع ان اتخيل حياتي بدون محمد، كانني كنت ساكون شخصا اخر تماما، اصبحت بعد تلك السنين الطويلة اعتبر ان الصدفة لا تبقى صدفة بعد ان تحدث، تتحول لشيء سحري مثل الحياة، تماما مثلما تتحول الاحداث العادية لاحمال ثقيلة و جميلة مع مرور الوقت، لا ادري و لكنني لا استطيع ان انظر للماضي فاجد انني التقيت بمحمد الماحي بشكل عبثي، و لا استطيع كذلك ان افهم كيف جمعتني تلك الزنزانة بشخص كان لا يمكن ان اتعرف عليه الا في السجن، و انا بالاساس لم يكن يفترض بي ان اصبح سجينا.
لم يكن شخصا غريبا في بداية الامر، كان يبدو عليه انه شخص صامت، لكن تلك المساءات الطويلة جعلته يتكلم، كان يروي كل شي بعاطفة شاعر، لذلك كنت استفزه ليملأ علينا الليل باشياء كانت تعجبني، لا استطيع ان انسى يوم حكى لي عن حبيبته، قال انهما كانا يقومان باشياء تافهة، مثل ان يطلب منها ان تبتسم اكبر ابتسامة ممكنة و هي كانت تفعل ذلك بسرعة خاطفة و تصدر صوتا مضحكا، او عندما كانا يجلسان بنية الحديث لساعات طويلة و هما يعلمان انه لم يبق شيء لم يتحدثا فيه بعد، و كذلك كان يحكي لي عن الصدق و عدم الخوف و انتفاء الحدود، بالنسبة لمحمد لم يكن اسم حبيبته مهما و لا من هي بالتحديد، بالرغم من انه لم يتمكن اطلاقا من فصل حياته عنها حتى قبل ساعات من وفاته، ما كان مهما هو ذكرى تلك العلاقة الحميمة مع احد ما، وما كان يؤرقه فعلا في السجن هو انه لن يتمكن من ان يحب من جديد، قال لي مرة انه يفكر كثيرا في تعقيد الحب الثاني، كيف يمكن ان يحب المرء "ثانية!"؟ كان يتعجب، و كان يضيف: سيكون مدهشا ان يتورط الانسان مع شخص اخر مختلف تماما في نفس شكل الاتصال الغريب ذاك من جديد، لا يمكن لي اطلاقا ان اتخيل حبيبتي!، اتذكر تلك الليلة بالذات بشكل واضح، بعد ان حكى لي طول الليل عنهما اشرقت الشمس علينا و انا ما ازال اراقب السماء من الفتحة الصغيرة، الظلام و النجوم تحولا الى سماء زرقاء صافية، و بدأت اصوات الصباح التقليدية تصدر من كل مكان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق