بالنسبة لإدوارد سعيد فإنه هنالك إشكالان ثقافيان يجب تجنبهما، الأول هو الإستشراق، و هو النظرة المتحيزة ضد الشرق في الثقافة الغربية، و بشكل عام فإن أي رؤية ثقافية تعطي "جوهرا" ثابتا غير مفسر لأي شعب أو مجتمع ستؤدي لنوع أو آخر من التحيز السلبي ضده، كالقول بأن الأفارقة لديهم جوهر معادي للحضارة مثلا، و قد توقع سعيد بأن الإستعمار لن يكتفي بالإستشراق كمنهج علمي خاطيء لفهم مجتمعات الدول المستعمرة، بل سيقوم بمرور الوقت بترسيخ هذه الرؤى المغلوطة لتصبح المنهجية التي يستوعب بها المتعلم المستعمَر نفسه و مجتمعه بها، خاصة تلك الأفواج من النخبة التي ستذهب للتعلم في أمريكا، و اليوم بالفعل فإن التحليل الإجتماعي الطاغي هو ذلك الذي يتبنى الفكرة التي ليس لها أي أصل بأنه لإنسان العالم الثالث تكوين ذهني مختلف (أو جوهر) يجعله يتأخر عن ركب الحضارة.
المثال الأوضح للإستشراق هو التعامل مع الإسلام كمنظومة منغلقة على نفسها، لا كعامل ثقافي يتأثر بحركة التاريخ، لكي يتمكن التحيز غير المبرر للمثقف الغربي ضد الإسلام عن التعبير عن نفسه، كان لابد أن يكون للإسلام جوهر غير قابل للتغيير و التطور مع مرور الوقت، نفس هذا الشكل من التفكير الإستشراقي ستجده واضحا في تعامل النخبة العلمانية مع الإسلام السياسي، لاحظ عبد الله علي إبراهيم مثلا أن النخبة العلمانية سترفض دائما أي تحليل يفهم الحركة الإسلامية كجزء من الحركة المادية للتاريخ، فمثلا سيكون السؤال الماركسي التقليدي: في داخل أي طبقة إجتماعية تكون الإسلام السياسي؟ بلا أي معنى، فهم، أي الإسلاميون، يمثلون نبتا شيطانيا لا مصدر له، و لا يمكن تفسيره إلا كجزء من نظام منغلق على نفسه، ف"من أين أتى هؤلاء؟"، مثل هذا "الإستشراق الداخلي" سيشوه كذلك الطريقة التي ستفهم بها هذه النخبة الظواهر الإجتماعية التي ستؤرقنا في الحاضر و المستقبل مثل داعش و بوكو حرام، و الصراع الطائفي الذي يبدو أنه سيجتاح المنطقة.
المثال الأوضح للإستشراق هو التعامل مع الإسلام كمنظومة منغلقة على نفسها، لا كعامل ثقافي يتأثر بحركة التاريخ، لكي يتمكن التحيز غير المبرر للمثقف الغربي ضد الإسلام عن التعبير عن نفسه، كان لابد أن يكون للإسلام جوهر غير قابل للتغيير و التطور مع مرور الوقت، نفس هذا الشكل من التفكير الإستشراقي ستجده واضحا في تعامل النخبة العلمانية مع الإسلام السياسي، لاحظ عبد الله علي إبراهيم مثلا أن النخبة العلمانية سترفض دائما أي تحليل يفهم الحركة الإسلامية كجزء من الحركة المادية للتاريخ، فمثلا سيكون السؤال الماركسي التقليدي: في داخل أي طبقة إجتماعية تكون الإسلام السياسي؟ بلا أي معنى، فهم، أي الإسلاميون، يمثلون نبتا شيطانيا لا مصدر له، و لا يمكن تفسيره إلا كجزء من نظام منغلق على نفسه، ف"من أين أتى هؤلاء؟"، مثل هذا "الإستشراق الداخلي" سيشوه كذلك الطريقة التي ستفهم بها هذه النخبة الظواهر الإجتماعية التي ستؤرقنا في الحاضر و المستقبل مثل داعش و بوكو حرام، و الصراع الطائفي الذي يبدو أنه سيجتاح المنطقة.
بالعودة لسعيد، فإن الإشكال الثقافي الآخر الذي يجب تجنبه هو "الإستغراب". بدأ عبد الوهاب المسيري حياته باحثا عن الحداثة، و كما هو واضح من روايته لفترة شبابه، فإن الحداثة بالنسبة له كانت تعني التحرر من كل أشكال الاستعمار، و تحقيق مشروع نهضة إجتماعية شاملة، كان يتمثل في الحلم بالاشتراكية كوسيلة لتحرير الناس من قيود العوز، و بالتالي الانطلاق نحو بناء أمة حرة فعلا، ما حدث لاحقا هو أن هذه الافكار المغالية في الأصالة بالذات أبعدت الرجل بعيدا عن مجتمعه، فورطة المثقف الحقيقية تكمن في تطلعاته الجذرية، و المحاولات الأولى لتحقيق هذه التطلعات ستفشل دائما، و بمرارة، يحكي المسيري مثلا و بنبرة شخص منزعج عن الطريقة السخيفة التي كانت كوادر الحزب الشيوعي التي عمل معها تتعامل بها مع "القضية" التي كان هو ناشطا فيها، في منتصف هذه العزلة المضاعفة سافر الرجل لأمريكا، و هناك بدأت عملية "العودة"، و هي العملية التي تبدأ و تنتهي بأعمال "جبارة"، و يحكي المسيري كثيرا عن معظم حياته و كأنها تمثل لنوع من الهوس، بداية من رغبته في قراءة كل شيء و فهم كل شيء نهاية بعملية تحويل الصهيونية ذات نفسها لمخطوطة و السيطرة عليها، أتذكر المسيري كرجل صنع من كل معاركه الخاسرة شيئا آخر، و حول عزلته لإنتصارات شخصية لا بأس بها، و حتى وفاته حافظ الرجل على خفة روح طورها مع الوقت فأصبحت مدرسته الثقافية. لكن النقص في المسيري كرمز لا يمكن عدم ملاحظته، و يتمثل في شيئين: الأول هو نزعته الإستغرابية، و الثاني هو عودته للإسلام السياسي.
إنتهى صراع المسيري من أجل الحداثة، لصراع ضد الحداثة، فالحداثة بالنسبة للمسيري أصبحت رمزا لغياب الحرية و اللامعنى، و لديه أمثلة طريفة و عديدة عن اللامعنى الذي جلبته الحداثة للغرب، أحدها هو قصته الشهيرة عن اللوحة التي تكسرت و هي في طريقها للمتحف فقال عنها صاحبها أنها و هي متكسرة تبدو أكثر جمالا، ما هو الحل إذا؟ هو أن نصنع حداثة بديلة، أن نتمسك بثقافتنا الاسلامية و أن نطور الجوهر المؤيد للحرية و المعنى فيها. ما يقترحه عبد الوهاب المسيري هو "المحافظة" على الراهن خوفا من لا معنى القادم، و للمفارقة فإنه يقترح هذه المحافظة كنوع من التحرر، هل يمكن مقابلة هذه المنظومة بالفكرة القائلة بأن الحرية في الاساس هي قابلية الانسان لإتخاذ قرارات لا يعلم عواقبها؟ ما ستكون أي "حداثة بديلة" بحاجة إليه هو إعطاء الحداثة الحالية إسما مميزا: الحداثة الغربية، و الخطوة التالية هي أن يعطى الغرب جوهرا مميزا، فتصبح الحداثة الغربية حداثة خارج التاريخ العام للإنسانية، لأن للإنسان الغربي جوهرا مميزا يجعل حداثته حداثة غربية، و تتطور هذه الفكرة في منظومة المسيري في مقابل الإنسان الشرقي الذي "يذوب" في الحضارة الغربية و ينهار أمامها، كأن الخيار هو إما أن ننظر للحضارة الغربية على أنها حضارة غير إنسانية ذات جوهر مميز، أو أن نذوب داخلها. ما ستنتهي إليه هذه الرؤية هو أن العولمة ستؤدي لتكون عوالم متجاورة و مختلفة، كل حسب جوهره، و كل يدافع عن نفسه أمام خطر الآخر، هذه الفكرة التي تبنى عليها سياسات الهوية هي نفسها الفكرة التي جعلت سيطرت أمم على أمم أمرا منطقيا، و هي الفكرة التي إقترحها كاتب صراع الحضارات، و هو الكتاب الرائج بين المحافظين الأمريكيين و المنظرين لإحتلال العراق مثلا، و هي سياسات حرب لا نهائية لا تستفيد منها إلا أقلية من سكان كوكب الأرض، و بالتالي فهي منظومة غير عقلانية. في مقابل هذه الرؤية "الإستغرابية" إقترح فرانز فانون و هو الرمز الذي يصور على أنه الداعية الأول و الأخير للحرب، إقترح أن يكون هدف النضال ضد الإستعمار هو ألا تتحول أفريقيا لأوروبا جديدة، ألا يتبنى الإنسان المستعمَر نفس نمط تفكير المستعمِر، و بالتالي فإن "معذبي الأرض" حسب فانون "يقومون من الموت" كعامل تقدم جذري للإنسانية جمعاء. المعضلة بالنسبة لأي خطاب مبني على تصنيفات الهوية و الجوهر هو أنه لا يستطيع أن يقاوم السطحية، عندما يتحدث المسيري عن "نيتشة" فإنه يذكر و بصورة محزنة بالصورة التي يتحدث بها برنارد لويس مثلا عن "الإسلام".
قاتل المسيري طوال حياته ليحافظ على أحلامه حية، و حلم المثقف الأصيل هو خلاصه كجزء من خلاص مجتمعه، عاد المسيري ليكون جزءا من مجتمعه و رمزا لتطلعات قطاع واسع من الناس بوصفه الوجه التقدمي للإسلام السياسي، و ساهم في تأسيس حزب الوسط، و يمكننا أن نتذكر بسعادة كيف كان عمله الأهم و الأخير أنه شارك في تأسيس حركة كفاية و هي التي ستكون رمزا في التاريخ المصري لتجمع كل الناس ضد أقلية مهيمنة على السلطة، التجمع الذي ظهر لاحقا في ميدان التحرير قبل أن تجهضه مشاكسات النخبة. لكن، ما هو الثمن الذي دفعه المسيري لينجز هذه العودة؟ في مكان ما يقترح المسيري أن تكتب في الدستور بنود فوق دستورية لا يتم إقرارها ديمقراطيا، لتحمي الدستور من الديمقراطية نفسها، و يمكننا أن نتجاوز الإستحالة المنطقية لمثل هذا المقترح، لنسأل، ألا تتشابه هذه الدعوة تحديدا مع الدعوة المعادية للديمقراطية التي إتبعتها الأحزاب الخاسرة في مصر لتقويض حكم الإسلاميين؟ لقد ظهرت هذه الدعوة "للمبادئ فوق الدستورية" في أكثر لحظات تجلي القوى الرجعية العلمانية و عبرت عن التهديد الضمني للإسلاميين بأن هذه القوى ستصطف خلف العسكر إذا لم تحصل على نصيبها "غير الديمقراطي" من الكعكة، و هذه المرة فإن الدعوة لم تكن كما حاول المسيري وضعها في إطار الحفاظ على مبادئ سامية ما، بل كانت، و بوضوح، في إطارها المنطقي الوحيد كجزء من صراع القوة و الضعف. ماذا عن حزب الوسط؟ حاول الحزب خلال أيام الثورة و بعد فشلها أن يقوم بالحلم النخبوي الأول و الأخير: طرح أكثر خطاب أخلاقي و صحيح، الوقوف في "الوسط"، محاولة الوصول للحقيقية "الموضوعية"، و لا جدال أن الحزب نجح في تكوين هذا الخطاب، لكنه بقي هامشيا، و في التركيز على الخطاب غاب الجذر المادي للحقيقة الموضوعية، و هو الجذر الذي بدونه يكون الخطاب بلا أي معنى، في هذا التصور يمكن إنتقاد الإسلاميين، و بعكس الفكرة السائدة، بوصفهم أقل شعبوية و أقل قوة مما تتطلبه المهمة التاريخية التي يتصدرون لها، فهم لا يستطيعون، و هم يتبنون تصورا ثقافيا محضا للعالم، لا يستطيعون تثبيت أنفسهم في الواقع الإجتماعي كما يجب، و يدفعهم هذا الضعف المنهجي إما للتوسل بالسلطة العسكرية (و هي سلطة متناقضة بطبيعتها مع المشروع الإسلامي الشعبي، تفشله في النهاية و تهيمن عليه) أو للهزيمة أمام الثورة المضادة.
لم يستطع المسيري إذا أن يكون إسلاميا بدون أن يكون محافظا، و لم يستطع و هو يسلك طريق الاسلاميين نحو المجتمع أن يتجذر كفكرة تنجح ثوريا بين الناس، لكن ما حاوله المسيري، و هو أن نكون إسلاميين و لا إسلاميين في نفس الوقت، أو أن نصنع مساحة جديدة خارج الثنائية الرجعية للاسلامين و العلمانيين، هو ما يجب محاولة تكراره من جديد و لكن بصورة أكثر مخاطرة، إن الفرق بين الرمز كدليل على أن شيئا "حقيقيا" كان يمكن أن يحدث و مجموعات المشاغبين الذين نملك -لحسن الحظ- قابلية نسيانهم بسرعة، الفرق لا يكمن في النجاح و الفشل، لذلك فإننا لا نحمي الرمز عندما نروج له كعبقرية خالصة، و بالمثل، فإن الثورة نفسها لا تفقد بريقها عندما تفشل. لجاك لاكان فكرة ثورية عن (حقيقة الخيال) Reality of the Virtual، يمكن من خلالها أن نفهم خيالاتنا our Illusions كجزء من الواقع، كحقيقة. تخيل معي رجلا سبعينيا، عاش حياته كلها مكافحا من أجل الحرية و العدل، يخرج و هو المصاب بمرض يجعل مجرد المشي مؤلما بالنسبة له، في مظاهرة ليتعرض للضرب من قبل الشرطة، و يبرر ذالك بأن المثقف هو المتدخل في الواقع المادي أساسا، أو الشارع، تشير تعابير ذلك الرجل و هو يتعرض للدفع لحزن و ألم، إن الصراع مع اليأس لم يؤدي للسعادة، بل للحرية. إن حقيقة أن كاميرا المصور قد إلتقطت صورة هذه الفكرة الخيالية لا تجعل هذه الصورة أقل خيالا و أكثر واقعية، فصورة العم عبد الوهاب ستظل جزءا من الخيال، و هي بوجودها الخيالي الطاغي في ذهن كل من يرتبط معها بعلاقة ما، ستكون "حقيقة"، و بالنسبة لي فإن هذه الفكرة الخيالية ليست أكثر وضوحا من كل ما قام به المسيري و حسب، بل هي أكثر وضوحا من كل الوقائع المادية التي تحدث يوميا. ربما في هذا التصور الحداثي للحرية، و المعنى، يمكننا أن نكون "مسيريين" أكثر من المسيري ذات نفسه، كما يقول أحدهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق