مقدمة المترجم:
إذا كانت اللغة هي فعلا "بيت الوجود"، فإن الواقع، و في
أكثر أشكاله قسوة، يجبرنا أن نتخذ الخطوة شديدة الصعوبة: تقبل لغة جديدة تماما،
تحقيق تغير جذري في الوجود ذات نفسه. عندما ظهر سلافوي جيجاك على الساحة الثقافية
العالمية أول مرة، في بداية التسعينات، بكتابه "موضوع الأيديولوجيا
السامي" The
Sublime Object of Ideology، ظهر كمثقف مضاد للأيديولوجيا، و لكننا يمكن
أن نزعم اليوم أنه يمثل أكثر من ذلك، ففي الوقت الذي كان فيه الآخرون يضعون
لمساتهم الثقافية النهائية على التاريخ بإعلانهم الإنتصار النهائي لليبرالية
الديمقراطية، فأن جيجاك كان يقوم بالمناورة الفكرية السياسية الأكثر صعوبة، العودة
للفكرة البسيطة "أن نبدأ من نقطة البداية"، هذه العودة أخذت شكلها
الوحيد الممكن: العودة للنظرية Theory، كأداة، كسلاح.
و إن كان ياسين الحاج صالح، في أحد مقالاته في موقع مجموعة الجمهورية
مؤخرا، قد دعى و بشكل شبه تراجيدي بطولي "للتحديق في وجه القبيح"،
للتحديق في وجه قبيح الثورة السورية، فإنه هنالك مقابل ما لهذه الفكرة، أعتقد أن
سلافوي جيجاك يقترحه هنا، فكرة مقابلة لفكرة قبول "الغنى السلبي
للواقع"، فكرة ترفع النظرية لمكانها الصحيح فوق الواقع. ما يدعونا له سلافوي
جيجاك، هو التحديق في وجه الفكرة، مجردة كما هي و خالية من غنى الواقع، قبيحة (أو
جميلة) و مهمة كما هي بلا أي "صور". ربما لا يفوق دعوى ياسين صعوبة و
أهمية اليوم إلا النزعة الفكرية الجيجاكية بإمتياز: التحديق في وجه فكرة
العنف/الإرهاب "كمنهج و كنظرية سياسية".
أما عن الترجمة، عندما حاولت أول مرة ترجمة هذا المقال، متقيدا بقواعد
الترجمة التقليدية، واجهت صعوبة بالغة، فالمقال صعب على عدة درجات: الأولى هي
الصعوبة التاريخية، من يعرف فعلا تاريخ الثورة الفرنسية اليوم؟ أليس من الجنون
الكتابة للقارئ العربي عن تلك الفترة القصيرة تاريخيا و المتكدسة بأحداث ثورية
بالغة التعقيد؟ ثانيا هنالك الصعوبة النظرية، سلافوي جيجاك يكتب عادة بصورة بسيطة
و لكن هنالك دائما خلفية فكرية سميكة تتحرك بصورة جادة بين هيغل/لاكان و بينهما
ماركس. ثالثا هنالك حاجز اللغة، الأفكار لا تنتقل بسلاسة بين اللغات المختلفة،
الأفكار هي أسيرة الفرد/الكاتب، أنت تتعرف على الأفكار عبر فهمك لكاتب ما، و لذلك
فنقل الفكرة عبر اللغات يتطلب كاتبا آخر. أجد نفسي أمام مهمة أكثر صعوبة، المهمة
التي نظر لها وولتر بينجامين (و طبقها ربما فيمن أعرف آلان باديو، في ترجمته
"الفائقة" لجمهورية أفلاطون)، و لكنها مهمة أكثر إثارة و إمتاعا: إعادة
كتابة المقال بالعربية. أليست مهمتنا كماركسيين جدد، كما قال عبد الخالق محجوب
يوم، أن ننقل التجربة الشيوعية الأوروبية إلى بلادنا بصورة خلاقة؟
توجد النسخة الإنجليزية للمقال، و الذي نشر في مجلة Lacanian Ink،
في الرابط التالي:
http://www.lacan.com/zizrobes.htm
المقال:
في عام 1953، عندما كان رئيس الوزراء الصيني شو إن تاي
في زيارة تفاوضية لجنيف، في إطار مباحثات السلام لإيقاف الحرب الكورية، سأله أحد
الصحفيين الفرنسيين بخصوص الثورة الفرنسية، عن رأيه بشأنها، أجابه شو: "لعله
من المبكر فعلا الحديث بهذا الشأن". شو معه حق: مع تفكك "الديمقراطيات
الشعبية" في نهاية الثمانينات، فإن الصراع حول المكانة التاريخية للثورة
الفرنسية قد طفى مجددا إلى السطح. حاول الليبراليون "التصحيحيون" أن يقولوا
بأن إنحلال الشيوعية عام 1989 حدث في الوقت المناسب تماما: لقد وضع هذا
السقوط حدا لحقبة بدأت في 1789، بصفته الفشل النهائي لنموذج الدولة الثورية،
النموذج الذي دخل المشهد أول مرة مع "اليعاقبة"[1].
تحمل المقولة "كل تاريخ هو تاريخ الحاضر" أكثر من مجرد
الحقيقة عندما يكون الحديث عن الثورة الفرنسية: كل تصور تاريخي لها هو إنعكاس
مباشر لنتائج الصراع السياسي الحالي. يمكن تعريف المحافظين دائما برفضهم المطلق
لها: لقد كانت الثورة الفرنسية كارثة منذ البداية، هي نتاج للعقل الحديث الرافض
للإله، هي عقوبة الرب للأساليب المنحرفة التي إتخذها الإنسان الحديث، لذلك فإنه
يجب مسح أثارها بالكامل. الليبرالي التقليدي يأخذ موقفا أكثر تحديدا: الوصفة التي
يقدمها هي "1789
بلا 1793."
بإختصار، ما يريده الليبراليون ذووا الحساسية المفرطة هو ثورة منزوعة الكافيين،
ثورة ليس لها رائحة الثورة. فرانسوا فيوريت و غيره إذن يحاولون أن ينزعوا عن
الثورة الفرنسية صفتها بأنها الحدث المؤسس للديمقراطية الحديثة، فهي عندهم ليست
إلا خللا في التاريخ: لقد كان هنالك فعلا ضرورة تاريخية للتأكيد على أسس الحرية
الفردية .. إلخ، و لكن، و كما وضح عبر المثال الإنجليزي، فإن هذه المنجزات كان
يمكن الوصول لها و بفعالية أكبر عبر وسائل أكثر سلمية... الراديكاليون، بالمقابل،
مسكونون بما يسميه آلان باديو " الشغف بال "حقيقي/Real":
إذا كنت تريد أن تقول: أ: (مساواة، حقوق إنسان، حريه) – فيجب آلا تتردد من
العواقب، و أن تتحلى بالشجاعة لتقول ب: (أن إرهابا/عنفا) سيكون ضروريا للدفاع عن و
التأكيد على ال "أ".