ربيع النرجسية … خريف الفرد (3-3)1
تبدأ الخطوة الأولى لفهم ثلاثية فرويد عبر إستيعاب الجدل في حقيقة أن الإيد و السوبر إيغو هما شيء واحد. السوبر إيغو هو بالفعل قوة أمر خارجي تحرك الإنسان، و لكن بعكس الفكرة البسيطة، فإن هذه القوة هي ليست قوة أمر أخلاقي جيدة، بل هي قوة عشوائية تأمر الإنسان بلا محتوى. هو ليس عاملا يتكون بغرض تحويل الإنسان لمخلوق أخلاقي، هو عامل أمر مبهم موجود أصلا كجزء من "الغريزة" الإنسانية أو الإيد. يمكن ملاحظة ذلك في حقيقة أن أوامر السوبر إيغو هي أوامر لا يمكن إيفاءها، هي أوامر تجعلك تشعر بالذنب أكثر كلما أمتثلت لها. و هي أوامر غير أخلاقية و غير مفسرة بالمحصلة. في الفلم "سنة سعيدة" A Good Year يواجه راسل كرو، و هو يؤدي دور موظف مرموق في إحدى المؤسسات المالية، سؤالا بسيطا حول السبب الذي يجعله يواصل المهنة التي لا تتيح له أي مجال لعيش حياة سعيدة. عندما يقرر أنه سيترك هذه المهنة ليعيش مع حبيبة تعرف عليها في الريف الفرنسي، يذهب كرو لرب العمل الذي يضع نسخة من أحدى لوحات فان جوخ على مكتبه، ليقدم إستقالته، يسأله كرو عن اللوحة الأصلية فيخبره المدير أنه يحتفظ بها في المنزل، فيسأله كرو: متى تجد الوقت لتنظر للوحة الأصلية؟ هذا السؤال يدهش المدير. يستطيع المرء أن يتخيل بسهولة هذا النوع من التساؤل البسيط و هو يحير الكثير من اللاهثين خلف "النجاح" أو "تحقيق الذات" أو "الشهرة" .. إلخ. ما يحرك هذا النشاط اللانهائي هو إلتزام شبه أخلاقي (بمعنى أنه لا تحركه منفعة واضحة، و يؤدي أحيانا لتعاسة الإنسان) قاهر و لكنه غير مفهوم و غير واضح. و يأتي معه دائما شعور بالفراغ الداخلي و إحساس بالذنب (لذلك فإن هذا النمط من الحياة يرافقه دائما تدين "روحاني" مفرغ من أي أخلاق و غرضه توفير راحة نفسية فقط. ممارسات التأمل البوذية أصبحت رائجة هذه الأيام). هذه الحركة يدفعها السوبر إيغو بأوامره اللانهائية. و كما هو واضح فإن هذه الحركة هي حركة غريزية و ليست أخلاقية. أو بصورة أكثر دقة فإنها تشير للأساس الغرائزي للأخلاق الإنسانية نفسها.
و إن كانت الوحدة الجدلية بين السوبر إيغو و الإيد تشير للأساس "الخام" للنفس الإنسانية، فإن الإيغو يمثل المقابل الذي يتشكل عبر تحول الإنسان لمخلوق رمزي، داخل اللغة و التفكير. و لفهم الإيغو فإن علينا أن نفهمه داخل تعقيدات التفكير، و هنا سيكون المثلث اللاكاني مفيدا2.
لشرح الخليط الذي يتكون الإيغو منه، قام لاكان بتقسيم العالم النفسي لثلاث وحدات:
- الخيالي Imaginary:
هذه الوحدة تمثل قدرة الإنسان على "تخيل نفسه". بصورة عامة فإن الصورة التي يراها الإنسان عن الواقع هي صورة خيالية و ليست حقيقية، على سبيل المثال، إذا جلس أحدهم بجوارك فأنت ستستثني تلقائيا من صورته حقيقة أنه توجد في داخله و تخرج منه سوائل مقرفة (هذا بشكل أساسي، في الواقع فإننا نستثني و نضيف أشياء كثيرة جدا تصل للعرق و الطبقة، و أحيانا فإننا نضيف على الشخص جمالا و ذكاءا هما غير موجودين، فقط لأننا نحبه)، هذه الصورة هي صورة خيالية. و تماما مثل هذه الصورة فإننا نخلق صورتنا عن أنفسنا. و لذلك فإن للإيغو دائما أساسا خياليا.
- الرمزي Symbolic:
هذا الفضاء، و كما شرحنا سابقا، هو فضاء اللغة و المعنى الذي يتكون نتيجة الإتصال مع الآخرين. و عبر تكون هذا الفضاء فإن الإيغو (الإنسان) ينفصل عن نفسه. بدخول الإنسان في فضاء المعنى فإنه يتحول تلقائيا لمخلوق يوجد جزء منه خارج ذاته المباشرة. و كأن الإنسان يصنع فضاء المعنى في البداية عبر قدرته على التفكير ثم يبدأ فضاء المعنى بالتفكير بالنيابة عنه. إذا تشكل واقع المعنى بالنسبة لك على قاعدة أن السرقة هي أمر سيء، فإنك حال إرتكابك لفعل السرقة ستشعر بالذنب، حتى و إن كانت هذه السرقة مفيدة بالنسبة لك. شيء ما فيك سيكون موجودا هناك في فضاء المعنى و سيجعلك تشعر بالذنب. يختبر البشر هذا الإنفصال في داخلهم في تجربة تحدث المرأ مع نفسه، مع ضميره (يجب عدم الخلط بين الضمير كشعور و كصواب.. الجزء الرمزي في الضمير هو الجزء المنطقي البارد، أما الشعور فهو ينتمي للخيالي. أنت تستطيع أن تستعمل مشاعرك لخداع نفسك، لكن المنطق و الصواب هو موجود في الخارج دائما، إن لم نقل كحقيقة فعلى الأقل فهو موجود في "موقع" الحقيقة، و هو الفضاء الرمزي).
- الحقيقي The Real:
يعرف لاكان الحقيقي بأنه ذلك الذي لا يمكن إحتواءه داخل فضاء المعنى. يمكن بسهولة ملاحظة العلاقة بين هذا التعريف و الفكرة الكانطية المعروفة و القائلة بأنه هنالك دائما "شيء في ذاته" يبقى دائما خارج قدرة الإنسان على الإدراك. هنا يمكننا القول أن السوبر إيغو كأمر أخلاقي غريزي هو جزء من "الحقيقي" كما هو واضح و ليس جزءا من "الرمزي" كما هو شائع.
كيف يدخل الإنسان بشكل كامل في فضاء المعنى؟ الإجابة المفصلة على هذا السؤال تتطلب حديثا طويلا عن مرحلة الطفولة و دور القانون الذي يمثله "الأب" في تكون الفكرة الأساسية لدى الطفل بأن هنالك فضاء يحكم الجميع، بما فيه الأم و الأب، و بالتالي فإن الطفل لا يختبر القانون كشيء قاهر بل كشيء محرر، القانون هو مرجعية تحكم حتى السلطة "الأب/الأم" نفسها3. لكن و لغرض التبسيط فإنه يمكن القول بصورة عامة أن ما يقوم به الفضاء الرمزي هو توفير الأساس الخارجي الضروري لتكون الهوية، الأساس الذي يجعل للإنسان قدرة السيطرة على الغريزة، إن كان في شكلها "الإيد" أو في شكلها "السوبر إيغو". و عبر الفضاء الرمزي فإن الإنسان يتحرر من هذه الغرائز عبر قدرته على التفكير. هنا يمكننا أن نشير للحكمة القديمة بأن "الكتب" و "القراءة" تحرر الإنسان. أن هنالك "تنوير" ما يأتي مع التفكير. القانون الغرائزي يتحول عبر الدخول في الفضاء الرمزي "لقانون داخلي" (بدلا عن السعي اللانهائي عن شيء مبهم (كالسعادة/النجاح) السعي الذي ينقلب لضده غالبا، يصنع الإنسان قانونه الخاص عبر فضاء المعنى (هدف حياتي هو في تحقق هذا المشروع السياسي.. أو لو أخذنا مثال أينشتاين .. في حل هذه المعضلة الفيزيائية.. إلخ).
و بهذا يمكننا أن نعطي النرجسية تعريفا: هي حالة عدم نضج سببها غياب القدرة لدى الإنسان على تقبل أنه كائن موجود داخل فضاء معنى.
و بهذه الإشارة للفضاء الرمزي يمكننا أن نفهم النرجسية خارج تناقض الإيغو المتضخم الضعيف. سبب إبتلاع النرجسي لكل الأشياء في الخارج هو أنه يدرك الأشياء كلها داخل الفضاء الخيالي، لذلك فهو بالفعل إنسان لا يرى أي شيء إلا عبر مخيلته، و سبب عدم قدرة النرجسي على التواصل و الإرتباط الأصيل مع الآخرين هو أن هذا التواصل هو تواصل رمزي بالتعريف، و النرجسي لا يؤمن بهذا النوع من التواصل. يمكننا أن نفسر العديد من الأشياء و لكنني سأكتفي بهذه الإشارة البسيطة: سبب عدم قدرة النرجسي على الحزن هو أن الحزن طقس رمزي بالتعريف، تذكر مثلا أن الواحد منا يقدر فقط على تجاوز صدمة الفقد و التحول للحزن عندما يقوم بحركة رمزية تجعله يضع الفقد في مكان معين داخل الفضاء الرمزي، كأن يذهب لقبر الميت و يضع باقة من الزهور، هذه الباقة ليس لها أي تفسير عملي، كل ما تقوم به هو الإشارة رمزيا لفكرة أن الآخر قد رحل و أننا قبلنا هذا الرحيل، بعد وضع الباقة على القبر سيكون بمقدور الشخص أن يبكي منفسا عن نفسه. مثل هذه الطقوس الرمزية هي طقوس غريبة على الشخص النرجسي، و سيسخر منها في الغالب بتهكميته المعروفة.
أخيرا يمكننا الإشارة لعبارة لاكان "في المجتمع الحديث فإن الفرد العادي هو فرد مختل عقليا" و أخذها بكامل الجدية. يعرف لاكان الذهان Psychosis على أنه غياب القدرة على الدخول في الفضاء الرمزي. ما يميز الفرد المختل عقليا عنا هو أنه يتحرك في فضاء رمزي مختلف. لذلك فهو لا يفهم لغتنا. النرجسي أيضا، بمعنى من المعاني، هو شخص مختل عقليا، لأنه لا يستطيع أن يفهم أن اللغة و الرموز هي أمور جدية. دائما كانت تحيرني الكيفية التي يستطيع بها بعض الناس تجاهل الحقائق و تكوين سرديات بدائية بليدة و التمسك بها، تشعر في بعض الأحيان بالحيرة و أنت تتحدث مع أحدهم و هو يرفض القواعد البسيطة للمنطق فقط لأنه "يريد" ذلك. في المجتمعات الحديثة فإن هذا النوع من "الجنون" هو أمر عادي، ما تريده الذات النرجسية من حقائق ستحصل عليه (يمكن هنا أن نلاحظ أن هنالك عودة عامة "للحوار" و لكن ليس على أساس المنطق الذي هو أمر عام و عادل.. بل على أساس القوة.. أصحاب القوة أصبحوا يشكلون الحقائق و ينشرونها، ردة الفعل على ذلك جاءت في شكل خطاب شبيه و هو الخطاب الشعبوي: حير أنصار ترمب الجميع بسردياتهم الغريبة التي يعرفون هم أنفسهم أنها بلا أي قيمة و لكنهم يصرون عليها في نفس الوقت.. في هذا الإطار فإن الصراع هو بين القوة (الإعلام، الخطاب الجامعي الليبرالي المعتدل.. إلخ) و بين الرغبة الشعبوية المجردة.. و قمة النفاق هو في إدعاء خطاب القوة أنه خطاب عقلاني).
و أعتقد أنه لا داعي للقول أن هذا النمط من الذاتية هو نمط غير فردي بإمتياز، الفردانية الحقيقية، كما هو واضح، تبدأ من إلتزام رمزي. مثلا، يعرف آلان باديو "الذات"، بأنها نتاج إلتزام تجاه "حقيقة" ما. و هو يعرف الحقيقة على أنها ذلك الشيء الذي يمكن أضافته للواقع، هو شيء حقيقي و غير واقعي لأنه في نفس الوقت ليس جزءا من الواقع و لكن يمكن إضافته للواقع، التغير السياسي الجذري مثلا، أو الإنتاج الفني، أو الإكتشاف العلمي، أو الحب (هذه الأمور لا توجد إلا عبر إلتزام الذات بخلقها من العدم). يمكن القول أن هذه الحقائق هي حقائق رمزية، و بالتالي فهي حقائق خارج مجال البحث النرجسي، و أصبحت بالتالي أمورا رومانسية تركها الفرد الحديث العملي الذي يبحث عن المال فقط.
ما هي التبعات السياسية العملية لمثل هذه القراءة للشخصية الحديثة؟ أعتقد أن الأمر واضح، على الحركة السياسية الجذرية أن تبدأ من نقطة التمسك بفضاء المعنى. المشكلة في العزلة التي يشتكي منها اليساريون هي ليست في العزلة بل في أنهم يشتكون منها. العزلة داخل فضاء المعنى، داخل الحقيقة (مثلا الحقيقة هي أن الصراع الاجتماعي هو صراع مادي طبقي) هي عزلة يجب الحفاظ عليها. لأنها هي الطريق الوحيد نحو تحويل الحركة الجذرية لحركة شعبية لها قبول. من دون تحول الحركة الجذرية لحركة رمزية تستعمل فضاء المعنى (الثقافة و الأخلاق و النقاش العلمي و الحقائق) بجدية، فإن هذه الحركة ستتحطم داخليا و بصورة مستمرة عبر المشاكسات النرجسية بين أعضاءها (تتماسك بقية الحركات إما بالمصالح المباشرة أو بتدين أصولي أو بوجود نزعات عنصرية أو شعبوية بدائية. هذه الأمور غير متوفرة في الحركة اليسارية الجذرية). من دون هذا التمسك فإنها ستبقى معزولة عن الناس رغم تخليها عن كل أسباب عزلتها (اليوم هنالك يسار غير يساري، تخلى عن كل أسباب كونه يسارا "بداية بالتخلي عن أسمائه و رموزه"، و لكنه معزول عن الناس أيضا!).
الأمر الآخر الذي علينا ملاحظته هو أنه في عالم اليوم النرجسي فإن الحقيقة نفسها لها موقع "بروليتاري". إن عرفنا البروليتاريا على أنها الجزء الذي ليس له مكان في المجتمع؛ فالمثقف الحقيقي هو بالتعريف فرد بروليتاري، لأنه في موقع عداوة مع النظام فقط لأنه يريد أن يتحدث الحقيقة. هذا النوع من التحالف مع الطبقات القاعدية، التحالف الذي لا يبنى على تنازل المثقف عن منتجه الثقافي بل على تمسكه المضاعف به، هو فن غائب هذه الأيام.
بدلا عن محاولة بناء "الحزب" في داخل الشعب (بالمعنى الشعبوي النضالي البسيط الرائج)، المحاولة التي ستنتهي دائما بالفشل و التذمر من عدم قبول الناس لنا، علينا أن نبني الحزب أولا داخل فضاء المعنى، و أن نصنع ثانيا الكوادر الملتزمة بهذا الفضاء، مهما كان عددها قليلا. هذا هو الدرس الأساسي من تاريخ الحزب الشيوعي السوداني، إنهار عندما إعتقد أن السياسة يمكن أن تدار حسب النزعات الآنية للسياسيين ضحلي الفكر. بلا ثقافة و لا مثقفين4.
____________
تم نشر المقال في صحيفة الأخبار اللبنانية
1- أعتمد في هذا المقال بشكل كامل على ورقة كتبها سلافوي جيجاك عام 1986 بعنوان "النرجسي المرضي، شكل الذاتية المطلوبة إجتماعيا"، المقال متوفر على هذا الرابطhttp://m3.manifesta.org/catalogue5.htm
2- لشرح مفصّل للمثلث اللاكاني يمكن مشاهدة محاضرة سلافوي جيجك The Reality of the Virtual، وهي متوافرة على موقع يوتيوب.
3- يمكن العودة إلى ورقة جيجك الآنفة الذكر.
4- راجع رسالة عبدالله علي إبراهيم إلى المؤتمر السادس للحزب الشيوعي السوداني، والمعنونة «المثقف والحزب»، على موقع سودانايل الإلكتروني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق