دفاعا عن السياسة..
(1) من الواقع إلى الشعر ثم السياسة
حدثت لي هذه التجربة الجيو/نفسية -إن صح التعبير- مؤخرا: قضيت عاما كاملا خارج السودان، أو خارج الخرطوم تحديدا، هذه المدينة هي كل ما أعرفه من السودان، ثم عدت لأجد كل شيء كما كان. أولا يمكنني أن أصف حالة الحب الجدلي للمكان عندنا نحن السودانيين، من وجهة نظري على الأقل: يرتبط حب المكان عندنا بموقف مفارق في نفس الوقت، كره ساخر و حاد له، الخرطوم هي المدينة الوطن، شارع النيل "و حلوة بناسها".. إلخ و لكنها كذلك مدينة الأشباح، قاتلة الأحلام، المملة بتكرارها و لا-هويتها. كما أنه لأي سوداني موقف ساخر أصيل من كل محاولة لرفع المكان لتلك المرتبة التي نسمع عنها فقط في الجرائد و عند المثقفين: "الوطن".
و بما أنني لست من أنصار الهويات المتوارثة و ليس لدي أي حنين لأي نوع من القومية، فهذه الحقيقة لا تثير لدي إلا نوعا من الإنتماء البهيج لها، إنتماء لمدرسة في الوطنية المتجاوزة للهوية "المعلبة الجاهزة المملة"، أو "المتخيلة" عند بعضهم. الشعور الآخر الذي إنتابني هو أن المدينة لا لون و لا طعم و لا رائحة لها، لقد إنغمست الخرطوم في أحداث الحياة اليومية حتى أصبحت مكانا بلا روح، تسيطر عليه حالة من الإلتزام التلقائي بما يسمى في الإنجليزية Utilitarianism أو مذهب المنفعة. يمكنك أن تنظر للنمط المعماري فتجد أن البيوت أصبحت فعلا أماكنا للحماية من البرد و الحر و اللصوص، لا أكثر من ذلك و لا أقل، نفس الشيء بالنسبة للشوارع و الأسواق و محلات تسكع الميسورين. أصبحت المدينة، حرفيا، مكانا للمعيشة اليومية Surviving، في داخل هذا العالم، أسيرة لحدوده، و بالتالي كئيبة، و ميتة. أما بالنسبة لنا نحن الشباب فإن هذه المعيشة تأخذ شكل "وجود مؤقت". لا أحد سيبقى هنا طويلا، أو هكذا نتمنى.
و بما أنني لست من أنصار الهويات المتوارثة و ليس لدي أي حنين لأي نوع من القومية، فهذه الحقيقة لا تثير لدي إلا نوعا من الإنتماء البهيج لها، إنتماء لمدرسة في الوطنية المتجاوزة للهوية "المعلبة الجاهزة المملة"، أو "المتخيلة" عند بعضهم. الشعور الآخر الذي إنتابني هو أن المدينة لا لون و لا طعم و لا رائحة لها، لقد إنغمست الخرطوم في أحداث الحياة اليومية حتى أصبحت مكانا بلا روح، تسيطر عليه حالة من الإلتزام التلقائي بما يسمى في الإنجليزية Utilitarianism أو مذهب المنفعة. يمكنك أن تنظر للنمط المعماري فتجد أن البيوت أصبحت فعلا أماكنا للحماية من البرد و الحر و اللصوص، لا أكثر من ذلك و لا أقل، نفس الشيء بالنسبة للشوارع و الأسواق و محلات تسكع الميسورين. أصبحت المدينة، حرفيا، مكانا للمعيشة اليومية Surviving، في داخل هذا العالم، أسيرة لحدوده، و بالتالي كئيبة، و ميتة. أما بالنسبة لنا نحن الشباب فإن هذه المعيشة تأخذ شكل "وجود مؤقت". لا أحد سيبقى هنا طويلا، أو هكذا نتمنى.
لكن، ربما يمكننا كماديين أن نقرأ في هذا الموت شيئا: تخيل معي أن الخرطوم، أن الشيء الذي تعبر عنه الخرطوم، برتابتها، هو شعورها بالحزن. أن المدينة في موتها تصرخ برغبة، نعم رغبة مجردة في أن يخلق شيء، شيء ما، فيها. قبل أن نتسرع في الرمي بمثل هذه الأفكار الحالمة بعيدا، يمكننا أن نتذكر أن الصادق الرضي، و هو شاعر موت الخرطوم الأول -إن صح التعبير- شاعر "كل ما كنا نغنيه على شارع النيل تغيب ... و إنطوى في الموج منسيا، حطاما في المرافئ أو طعاما للطحالب .. و في صمت المسافات القصية". أن الصادق قد أنطق المادة يوما، بل جعلها موضع "المطلق" الذي نوجد أنا و أنت بداخله: في رائعته، غناء العزلة ضد العزلة، و بعد سلسلة متماسكة و منظمة تم فيها إنزال "الروح" لصفوف الخبر، الدموع، الطرقات، بؤس السياسة، أو "أن تتفجر الأشياء تفصح عن قداستها"، "الأرض كانت تدخر القمح لأطفال لها، فقراء، لا يتوسدون سوى التراب" ..إلخ. بعدها وصل الصادق لحقيقة ما: "أنا أنت .. نحن الناس و الشارع، و العواميد التي تمتد بالأسفلت" ثم، و كما بات معروفا بعد ثورتي أكتوبر و أبريل، فإن موت المدينة، و هو موت السياسة، قد تمثل في أنه لا صوتي و لا صوتك قد تغلب على صدأ المقاعد ... و إنهيار "البرلمان". ألا يمكننا، إذن، أن نقبل هنا فرضية أن المدينة، بعواميدها التي تمتد بالأسفلت، تعبر عنا بأكثر مما نعبر نحن أنفسنا عن أنفسنا؟ و من ثم أن نقبل فكرة أن للمدينة نفسها "رغبة ما"؟ أن نرى في هذه الرغبة أنفسنا؟
السؤال هنا هو: هل من الممكن فعلا أن نتحرك سياسيا بأخلاقيات مبنية على "الرغبة"؟
تتعارض هذه الفكرة مع النظرة التقليدية للأخلاق بوصفها مجال "المفروض" و "المتوجب" لا مجال الفعل الحر. يمكننا هنا أن نستعين -كما نفعل عادة كلما تهددنا موت ما- بالحب. بالحب كظاهرة تتعدى كونها فعلا يوميا محببا، لكونها حقيقة فلسفية. يقول جاك لاكان بأن "الرغبة لها هيكل الواجب" Desire has a structure of Duty، أن الرغبة هي فعل حر و لكنها،رغم ذلك، تظهر لكواجب ما. ما يقوم به جاك لاكان هو العبور من فكرة الحرية على أنها تجسد للعبارة "سأقوم بفعل هذا الشيء لأنني أريد أن أفعله" إلى فكرة "لا يمكنني إلا أن أفعل هذا الشيء"، كل من جرب الحب سيعرف أن الحرية في الحب تأخذ بالفعل شكل الواجب، شكل الرغبة التي نصنعها و لكنها "تهيمن" علينا في النهاية، لا يكون الحب حبا لو أمكن للمرأ أن يتخلى عنه في أي لحظة، أن يلغي الرغبة متى شاء، لكنه رغم ذلك فعل لا يقوم إلا على الحرية المطلقة (تخيل أن يجبرك أحد على حب شخص ما!). ما يجب أضافته هنا، هو أنه، على الأقل بالنسبة لإحدى قراءات فلسفة إيمانويل كانت، فإن الحرية الإنسانية تتمثل في الوحدة التامة التي تصاحب إختيار الإنسان لهذه الرغبة/الواجب. لا يوجد كيان خارجي يضمن أن هذا الإختيار هو إختيار مشروع، و بالتالي لا مجال للإنسان أن يتنصل من حقيقة أن هذه الرغبة/الواجب الذي إختاره، هو إختياره هو، بلا أي ضمانات أو تبريرات خارجية. بلا أي big Other بتعبيرات علم النفس اللاكاني. هذه الأخلاقيات التي تنتهي إلى أننا "نريد" أن نرى الخرطوم جميلة، و ليس "يتوجب" علينا أن نراها جميلة، هي الأرضية التي يقوم عليها كل خلق سياسي أصيل.
يتبع..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق