,, ظَــــلام
محمود المعتصم
إجمالي مرات مشاهدة الصفحة
الخميس، 12 يناير 2023
مشروع الشيوعية الافريقية
الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022
قراءة نقدية لورقة المبادئ فوق الدستورية
قراءة نقدية لورقة المبادئ فوق الدستورية
بقلم: محمود المعتصم
يوليو ٢٠٢٠
(1) الحزب و المثقف
ما تزال ورقة عبد الله علي إبراهيم "المثقف و الحزب"، والتي أرسلها إلى المؤتمر السادس لحزبه الشيوعي السابق، ما تزال، في رأيي إجدى أفضل قطع الأدب السياسي السوداني، وهو أدب ثر. شرح عبد الله إبراهيم في الورقة وضعه المستضعف، كمثقف متفرغ، في حزب شيوعي منهك. إذ لا إستقلالية له ولا إحترام. وقد أدى المناخ الطارد إلى هجرة المثقف، في حالة إبراهيم، لخارج الحزب. تكمن أهمية الورقة في أنها قابلة للتعميم، ومن ثم يمكن للأحزاب كافة أن تتبنى حلولا لهذه المشكلة عبرها. إذ الأحزاب السياسية هي طلائع الإنتلجنسيا بشقيها الحركي والثقافي، لا تستقيم الواحدة بغير الأخرى. (أنا أقترح علاقة أكثر إشكالية وتعقيدا بين المثقف وحزبه، لا يتسع المجال لها هنا).
حالة الإفقار الثقافي في الأحزاب جعلت السياسة تتحول لتكتيك لا نهائي. نسميه سياسة رزق اليوم باليوم، بلا وجود للأسس النظرية الصلبة التي تشكل الإستراتيجية صعبة التغيير. هذه الحالة من التكتيك الرزق اليوم باليوم تفقد الحزب القدرة على الظهور كمؤسسة ذات رسوخ مبدئي. وهنا يتم الإستعاضة عن المبدئية الإستراتيجية بمبدئية هتافية و "لا تساوم و إن منحوك الذهب..." وما تعرف ايه.
ظهرت حالة الإفقار الثقافي وغياب الإستراتيجية والتأسيس النظري في حزب المؤتمر السوداني ودعواه إلى العلمانية. جاءت الدعوى مشوشة ومتناقضة وغير واضحة. قادها الحركيون من البداية إلى النهاية. والحركي يسير في ليل الثورة وحيدا، ضائعا منفردا، وستأتيه تباشير الخريف، في تعبير الراحل أبوذكرى.
في البداية خرجت الدعوى للعلمانية من خالد سلك، "العلمانية" ذكرها بالإسم. ثم قام الحزب بتقديم رؤيته السياسية لحسم القضايا المصيرية فذكر العلمانية معرفة بمضمونها (كما يرى الحزب) وهو "الفصل بين الدولة والمؤسسات الدينية". ثم قال نائب رئيس الحزب مستور أحمد محمد "وعليه يجب أن يتم إتخاذ قرار تاريخي بالنص على فصل الدين عن الدولة، إذا كان المقابل تقرير المصير" (بوست منشور في صفحة الحزب على فيسبوك بتاريخ 22 فبراير).
وهنا تظهر ثلاث إشكالات. الأولى هي عن السؤال حول "الإسم"، النقاش بين موقف خالد سلك (يسمى في تعبيرات السياسة الطفولية بالمصادم)، وموقف الحزب المتواري. لماذا يمثل الإسم مشكلة؟ وما هو الحل؟ (يقترح كاتب المقال أن الموقف الإستراتيجي يجب أن يكون تسمية العلمانية بإسمها أيا كانت التبعات الآنية. لا يتسع المكان لشرح المسألة لكن ربما أقرب تحليل لهذه المشكلة هو تحليل ورطة الحزب الشيوعي في إسمه، وأحداث ما سمي لاحقا ب "نصيحة الرفاق السوفييت"، يمكن مراجهة مقالات عبد الله علي إبراهيم "عبد الخالق محجوب: ويولد الإنقلابي من الثوري").
الإشكالية الثانية هي إشكالية تعريف العلمانية. فالتعريف الذي جاء به الحزب متواريا يبدوا ركيكا لأبعد حد. تظهر خلفه ذات غير واعية بما تقول. وربما لا يتجاوز هذا التعريف ركاكة إلا تعريف آخر للعلمانية وجدته في موقع حزب المؤتمر السوداني نفسه على الإنترنت:
" العلمانية: بمعنى اعتماد نسبية المعايير على مستوى المعرفة والممارسة الاجتماعية، والقطيعة (بالمعنى العلمي/التاريخي/النسبي) مع البنى الفكرية الأسطورية والدينية الإطلاقية (أي جعلها مقيسة وليست مقياساً). ومن ثم رفض كل المشاريع التي تستند إلي أبعاد غيبية تكرس القهر والاضطهاد ونفي الآخر."
وهنا يظهر واضحا سبب ركاكة التعريف المتواري. وهو أن التعريف الذي كان يفترض به التأسيس النظري للإستراتيجية كان غرائبيا تفوح منه سماجة فلسفية سطحية وفاقد لأي قيمة.
الإشكالية الثالثة هي إشكالية تقديم التكتيك الدائم على الإستراتيجية. فمستور و هو إبن مدرسة الحركيين الطلابية التي أفرزت غالبية الكادر الحركي اليوم، قام بتحديد شديد الغرابة: "إذا كان المقابل تقرير المصير". وماذا إن لم يكن المقابل تقرير المصير؟ وما مشكلة تقرير المصير تحديدا؟ وهل سيكون التعامل معها "تفاوضيا" بهذا الشكل، كلما رفع كرت تقرير المصير ككرت تفاوضي برجوازي صغير رجعنا نتقهقر و نقابل المساومة غير المبدئية بمساومة غير مبدئية أخرى؟
لا يمكن حل المشاكل السياسية بهذه الأحزاب. حركية الشكل والمضمون. إنني أأمل، لمصلحة بلدنا، أن تبدأ الأحزاب في تكوين أفرع ثقافية، وعلاقات ثقافة مع أكاديميين ومفكرين من خارج الحزب، يتبنى الحزب رؤاءهم ويدربه كادره عليها. ولا يشترط بالمثقف أن يكون عضوا في الحزب ولا مؤيدا لسياساته قاطبة. هذا الانفتاح على الأفكار وتبنيها حزبيا سيمنح الأحزاب فرصة خلق مثقفين أساسيين له بدون الحاجة لأن يكونوا أعضاءا في الحزب ولا أن يكونوا أحياء حتى. في بلد يكتب فيه عبد الله النعيم وعبد الله علي إبراهيم عن العلمانية والإستراتيجية الحداثية التقدمية لها، برصانة شديدة، لا يصح أن تنخفض ممارستنا لنوع من الهرج التكتيكي.
(2) سلامات وشالو: الوجه الآخر
في المقابل، قامت الحركة الشعبية عبر تقديمها كتيب المحاميين متوكل سلامات و إدريس شالو، بوصفه جزءا تأسيسيا من خطة الحركة الشعبية جناح الحلو، قامت بوضع التراتبية الصحيحة للعمل السياسي. فالتكتيك تابع لتأسيس نظري واضح. وينشر هذا التأسيس للعلن ليتم تمحيصه ونقاشه أولا، وليتم التدرب عليه والتربي عبره ثانيا. ربما صقلت الحرب أحزابنا المسلحة بأكثر مما توفر لرصيفاتها السلمية التي حولت نفسها لآلات "أنتي كوز" ضعيفة.
لكن هنالك مسائل بالنسبة لرؤية الحركة الشعبية تجعلها إشكالية لحد بعيد. فليس كل تأسيس استراتيجي صحيح. وربما تكون الإستراتيجية الخاطئة أكثر خطورة من التكتيك الخاطيء. لذلك أعيب على أستاذتنا متوكل سلامات وإدريس شالو أن ورقتهم لم تخل من تسرع وعدم وضوح. سأحدد نقدي بالنقاط التالية:
1. ما هي العلمانية؟
في رأيي لم تقدم الورقة توضيحا كافيا للعلمانية. خاصة وأنها ورقة "قانونية" ذات طابع تأسيس نظري للدستور. فلا يمكن هنا أن نكتفي بعموميات عن "التجارة بالدين" و "الإبادة الجماعية" وغيرها من لوازم اليسار الثقافي هذه الأيام.
لقد قمنا نحن السودانيون عبر تاريخ طويل صلب، بتعريف العلمانية. بلا استيراد ومن لب واقعنا القاسي. حيث بدأت مسألة العلمانية عندنا عندما طرح الدستور الإسلامي إبان الجمعية التأسيسية بعد الإستقلال. وكان النواب الجنوبيون رأس الرمح وقتها في الدفاع عن حق المواطنة المتساوية وحياد الدولة تجاه الثقافات والأديان، يشرحون "العلمانية السودانية" بوضوح من على كراسي البرلمان (أذكر هنا مناظرة الترابي مع نتالي ألور بعد ثورة أكتوبر). ولم تكن تلك العلمانية نتيجة تأثر بالفكر الفرنسي أو الأمريكي، فقط، بل كانت مصطلحا نمى بيننا لندافع به، وبتعريفنا الفريد له، ضد فكرة الدستور الإسلامي التي طرحتها القوى الطائفية والإسلامية. وفي حين تعرف هذه العلمانية نفسها بأنها حياد الدولة الكامل تجاه الأديان، والإلتزام بحقوق المواطنية المتساوية بلا تمييز ديني، والإلتزام بالتقرير "العلماني" الذي هو تقرير الشعب الديمقراطي وليس سلطة نصوص الدين السماوية. حيث لا يشمل هذا التعريف منع الأحزاب ذات الخلفية الدينية بل يرى فرصة وجودها المشترك تحت ظل الدستور العلماني. في مقابل هذا فإنه هنالك تعريفات أخرى وجدت في التاريخ. رأت بأن العلمانية تشمل منع تدخل أي مؤسسة دينية في السياسة. بل هنالك خطوات أبعد، إذ قامت بعض العلمانيات الغربية والعربية بشمل التعليم العلماني (يعرف في هذا الاطار بالتعليم الإلحادي) إذ يشمل تعريف العلمانية هنا تطهير أذهان الناس من الخرافة وغيرها. عبر المدرسة.
في ظل هذا التباين لا يوجد في ورقة سلامات وشالو ذكر صريح لوضع المؤسسات الدينية (بما فيها الأحزاب) في دولتهم العلمانية. وهذا كذب بالفط lying by omission في عرف الثقافة. لا يحترم عقل القاريء. وأكثر من ذلك: يكتب سلامات وشالو في متن النص نوعا من الخطاب السياسي الصارم ضد الإسلام السياسي يجعل الواحد منا يشك أنهم أقرب للعلمانية الفرنسية من العلمانية السودانية (وفيه تسويف شديد في ورقة تقترح مباديء فوق دستورية جامعة و ليس خطابا عاطفيا ضد مخالف):
"وفي الوقت ذاته يتردَّد ويتخوَّف الجُناة والمُتحالفين معهم من العيش في حرية وعدالة ومُساواة وفق تدابير مُحدَّدة تمنع فرض هويَّة إسلاموعروبية وتُجرِّم الرق والإسترقاق وتمنع الإضطهاد الديني والعنصري وتسييس الدين وغيره".
وكذلك نقرأ في الورقة:
"فبالرغم من تخوُّف الأستاذ/ نبيل من الإسلام السياسي وبعض الفلسفات العلمانية إلا أنه لم يشر في بحثه المذكور إلى مبدأ العلمانية أو الفصل بين الدين والدولة كضرورة يفرضها إستغلال الدين الإسلامي في الصراع السياسي لعقود من الزمان"
كيف يقترح سلامات وشالو منع تسييس الدين؟ ومنع استغلال الدين في السياسة؟ عبر الدستور؟ (يجب التفريق هنا بين المنع القانوني و الادانة الأخلاقية. فقد يكون من المشروع ادانة استعمال الدين في السياسة، الرأي الذي أخالف إطلاقه هكذا، ولكنني أحترمه، أما المنع القانوني فهو في رأيي غير مشروع وضد الحرية التنظيمية وحرية العقيدة) في بلد إختلط فيه الدين بالسياسة لفترة طويلة جدا، يصعب معها تخيل تفريق "ديمقراطي" بين الدين والسياسة، بمعنى أن يترك للناس الأمر من تلقاء أنفسهم، ويثير الشك في رغبة القيام بهذا التفريق بالقوة. (من هي الجهة التي ستتولى المنع؟ وكم هو مقدار العنف المطلوب لتنفيذ ذلك؟ وبأي شرعية؟)
من جانب لا تقوم الورقة بإقتراح طرح واضح من مسألة "المؤسسات الدينية" و من جانب آخر تتحدث عن تدابير قانونية تبدوا لي "قاسية" لمنع "تسييس الدين". إن كانت الشموليات العلمانية في شكلها الماركسي قد بدأت بنوع من التنظير شديد الوضوح والقسوة. فإن ورقة سلامات وشالو ربما توضح إحدى الفروق الجوهرية بين الماركسية والفاشية، الأولى حتى في فشلها فهي نظرية واضحة، الأخرى هي عملية التحريك العنيف للناس ضد الوضوح تحديدا. (نعم، أنا أصف الكتابة هنا بأنها proto-fascist، إذ يتسنى لها أكثر من عنصر فاشي: السلاح والشعبوية والتأطير العرقي و"الآخر" الذي يمثل الشر المطلق "الإسلاميون أو الاسلاموعروبيين في هذه الحالة". وقد يكون المحضر للعنف الفاشي شحصا جيدا، ويبدو أن سلامات وشالو من هذا النوع، لكن عموما فإن شكل الإنتهاكات التي تم اتهام حركة عبد الواحد محمد نور بها من قبل الأمم المتحدة، و أشياء مثل أحداث أبو كرشولا يجب أن تجعلنا لا نغفل إمكانية التحول الفاشي في مسألة النضال من أجل المهمشين، مهما حسنت النوايا".
2. مسألة المفوضية الدستورية:
البداية هنا يجب أن تكون الحديث عن الديمقراطية. كشفت ثورة ديسمبر وهي ثورة "ديمقراطية" شكلا ومضمونا. ثورة الحشود الأغلبية ضد الأقلية. بلا قوة سوى قوة الكثافة الديمقراطية نفسها، بلا سلاح وبلا سند خارجي. ثورة تكاد تكون خالية من فكرة سوى الديمقراطية وبعض الحديث الجانبي عن العدالة. تكتيكها ديمقراطي (التظاهر الطويل جدا المنهك للدولة) وهدفها الإستراتيجي في رأيي هو التحول الديمقراطي فقط. كشفت هذه الثورة بؤس رأي النخبة في الديمقراطية.
ويظهر هذا البؤس في عدد من الطبقات:
أولا، الرؤية الرومانسية للديمقراطية. في رأي النخبة فإن الديمقراطية ليست عملية واقعية تستند على فرضية أن حكم الشعب أفضل من أي سلطة أقلية. وبالتالي هي ليست أفضل شيء (أفلاطون قديما وضح اشكالية فكرة حكم الشعب، وهو محق تماما) بل شيء سيء ولكنه أفضل الموجود لدينا، في تعبير وينستون شيرشل.
ثانيا، من هذا التصور الرومانسي، تسعى النخبة لتبرئة الديمقراطية من كل عيب. تحاول النخبة أن تجعل العملية الديمقراطية والنتائج شيئا واحدا. هي لا تقبل الإنفتاح الضروري في المسألة الديمقراطية، أن تقريرالشعب هو، ومن واقع أنه حر، تقرير لا يمكن فرض نتيجة مسبقة عليه. فرض النتيجة المسبقة مهما كانت هذه النتيجة جميلة يلغي تلقائيا العملية الديمقراطية.
ثالثا، يغيب في نظر النخبة أهم بند في العملية الديمقراطية، وهو بند "فراغ موقع السلطة"، حدثت في التاريخ ديمقراطيات قررت أشياءا سيئة، ولكن مبدأ فراغ موقع السلطة يجعل تغيير السيء لشيء أفضل ممكنا. بينما حلول القائد أو الجيش أو الكنيسة أو رجل الدين أو المثقف، في موقع السلطة يمنع التغيير التدريجي ويقفل باب التطور التاريخي. لذلك تكون الأنظمة الشمولية أنظمة ذابلة مثل النظام الاستاليني، مهما كانت المباديء التي بنيت عليها جميلة، بينما تتطور الليبرالية الأمريكية تدريجيا ومن داخل النظام لتوسع أفق الحريات من أقلية إلى أخرى بصورة مستمرة. وبعد بند فراغ موقع السلطة تأتي بقية البنود، مثل الفصل بين السلطات والتبادل السلمي للسلطة وغيرها، بل هي من متطلباته. فموقع السلطة غير المحكوم بقوة ثابتة يطلب وجود كل الهياكل والأنظمة الديمقراطية بصرامة شديدة وإلا تحل الفوضى.
رابعا، أن التأسيس الديمقراطي للمباديء الديمقراطية لا يلغي هذه المباديء بل هو الصانع الأوحد لها. إذ بينما تهتم الأقلية بمصالح مباشرة واضحة لها، وبالتالي حال إتفاقها على مباديء ما فإنها ستربطها بمصالحها الضيقة، فإن الأغلبية الديمقراطية، وهي عموم الشعب، تسعى دائما لمباديء عامة، إذ المصلحة هنا عامة. (سيحدث أن تمارس الأغلبية ضيق الأفق كذلك، لكن الأقلية المتسلطة يتوقع منها ذلك بصورة أكبر).
خامسا، يشيع عند اليسار السوداني هذه الأيام إنتقاد "ديكتاتورية الأغلبية" بإعتبارها خطرا. ويستند هذا اليسار على أغلبية الطائفيين والإسلاميين بعد ثورة اكتوبر التي طردت الشيوعيين وقامت بتجريد الجنوبيين من مواطنتهم الكاملة. ولكن هذا الإنتقاد هو قفز في الظلام. إذ يلوح في خلفية هذا الإنتقاد رغبة في تجريع الناس غصص السعادة من أعلى. أن تفرض على هذه الأغلبية الديكتاتورية الأمور الصحيحة، لمصلحتهم. وهذا الفرض، وتحديدا لأننا نتكلم عن الأغلبية هنا، سوف يكون ولابد مسنودا بسلطة سياسية قاهرة. هذه النظرية ولدت شموليات التقدميين الأفارقة والعرب بعد الإستقلال. وهي لم تؤدي لأفضل مما خرجت عليه. أقول أنا أن حل ديكتاتورية الأغلبية (الظالمة للأقلية والمنتهكة للمباديء الديمقراطية التي نتفق جميعا أنها المواطنة المتساوية والحرية وعلمانية الدستور) هو ليس في تنصيب أقلية ما كحاكم أعلى محدد لمباديء الشعب، بل في تجذير ديكتاتورية الأغلبية: أن تتحول هذه الأغلبية في وعيها إلى أغلبية ديمقراطية راغبة في الدولة الحديثة. لماذا أسمي هذه الأغلبية بالديكتاتورية؟ لأنني أود التذكير بأنه هنالك دائما، في الديمقراطية، أقلية (ضد-ديمقراطية) يتم قمع رأيها. فبدلا من تجريم الأغلبية علينا أن نرى أنها مصدر السند الحقيقي للمباديء الديمقراطية و أن مجال تغيير رأي الأغلبية هو ليس القوانين الفوقية ولا السلطة الجيدة، بل النقاش والحوار والعمل بين الناس.
ومما يقفل مساحة الحوار هو "القنع" المبكر من الناس. إذ يؤدي ذلك لإستعدائهم و سلك سبل التغيير الفوقي الذي يعمل الهوة بين الطبقة السياسية التقدمية والشعب. وبذلك ندخل في حلقة مفرغة: الناس متهمون من النخبة بأنهم شموليون، وهذا الإتهام يؤدي لإبعاد الناس أكثر من النخبة.
بسبب هذه المشاكل، يشيع عندنا ضيق الصدر بالعملية الديمقراطية ومحاولة الإلتفاف عليها. أود أولا أن أشيد بأن ورقة سلامات وشالو قد أقرت بمبدأ الإستفتاء كوسيلة لإجازة الدستور. وذلك ربما قطع الطريق على تيار بدأ يتشكل، يدعوا لدستور (أو مباديء دستورية) لا تجيزه الأغلبية "الديكتاتورية". ولكن هذا الإقرار جاء مرفوقا بعملية إلتفاف تبدو مثيرة للشك. تقول الورقة:
"أننا نرى أن المفوضية الدستورية يجب أن يُتَّفق عليها شكلاً وموضوعاً (التكوين، والمهام) في المنبر التفاوضي ومن ثم تقوم بصياغة وتضمين نصوص الإتفاق في الإعلان الدستوري الذي سيحكم الفترة الإنتقالية التي سيتَّفق عليها في المنبر التفاوضي، و على أن يُشكِّل هذا الدستور الإنتقالي مشروع الدستور الدائم، وتقوم المفوضية بتصميم برامج وفق القانون لإنزال هذا الدستور للشعوب السودانية ومن ثم عرضه عليهم في إستفتاء شعبي بعد إنفاذ برامج العودة الطوعية والإحصاء السكاني وغيره من التدابير ذات الصلة و قبل نهاية الفترة الإنتقالية و إجراء أي إنتخابات"
يقترح سلامات وشالو إذن كتابة الدستور المؤقت في منبر التفاوض. فبدلا عن أن يكون منبر التفاوض مساحة حل مسألة رفع السلاح بإتفاق حد أدنى، يضمن حرية التنظيم والعمل للحركات التي تضع السلاح ويضمن إصلاح الإختلال المادي وتوفيق أوضاع اللاجئين وإستعادة حقوقهم قدر الإمكان (هذه أمور لا يبدو أن عليها خلاف). يريد سلامات وشالو لمنبر التفاوض بين قحت (وهي تحالف نرى نحن في الشمال أنه لا يمثلنا بالشكل الكافي) والحركة الشعبية (لا يدري أحد مقدار تمثيلها الديمقراطي لشعوب الهامش، إذ كل العملية الحالية هي لفتح المجال لهذا القياس الديمقراطي، يبدو من الغريب إدعاء شخص ما، مهما كانت تضحياته أنه ممثل للناس كافة ثم دخوله في عملية إنتخابية، إذا كنت ممثلا أصلا للناس فما داعي العملية؟)، يريدان للمنبر أن يكون مساحة حوار دستوري كامل، أو وسيلة التأسيس لهذا الحوار ووضع مهامه ومن ثم كتابة الدستور (وهو أتفاق حد أعلى طبعا) عبرهم.
ويراد لهذا الدستور أن يحكم لعامين (أو أكثر). وتدير السلطة التي بنت الدستور وعبره تتكون وتكتسب مشروعيتها، عملية الحوار المجتمعي، ومن ثم تقوم نفس السلطة بعقد الاستفتاء عليه. وبعد ذلك تأتي الإنتخابات.
كل ذلك وفي ظل انقسام عقدي صنعته قحت في الشمال، عبر عدم توسيع ماعونها ليشمل الإسلاميين. لا تبدو هذه الخطة قابلة للتطبيق بغير قوة دولة شديدة القمع. ولا تبدو قابلة للتأسيس لدستور عام مستدام يمثل كل الناس وتساهم كل التيارات في كتابته. هي دعوة لتجريع الشعب السوداني غصص السعادة من أعلى. ونحن، كشعب، شربنا تلك الغصص طويلا ونرغب في يوم ما أن نتقيئها.
الاثنين، 19 سبتمبر 2022
عن القراءة والكتابة: تأطير نظري
١. في الكوميديا: جيري ساينفيلد و لاري ديفيد .. أو لاري ديفيد وجيري ساينفلد
قرأت، في وقت ما، جزءا من كتاب ألينكا زوبانجيتش “في الكوميديا”. مدفوعا بشيئين: الأول هو علاقة ألينكا اللصيقة بكاتبي وأستاذي المفضل سلافوي جيجاك. والدافع الثاني، كالعادة، كان الفضول. ألينكا فيسلسوفة جادة. بمعنى أنها هضمت نوعا ما من المعارف (هيغل ونيتشة على الأقل) لدرجة أنها لا تستطيع التكلم بدون أن تكون مملة لحد الألم. أو/و مثيرة للإهتمام. حسب منظور المستمع. رغم ذلك تمكنت من الكتابة عن الكوميديا. الكوميديا إذن ليست للتسلية (لدي رغبة في كتابة جملتي المفضلة هنا: “هههههههههه”، ولكن أخشى أن لا يؤخذ هذا المقال على محمل الجد). الكوميديا هي، حسب ألينكا، واحدة من أدوات الحقيقة. ومن ثم، لذلك، فهي واحدة من أنواع الفنون.
تعلقت بداية وبصورة غير مقصودة ولا متوقعه، بالكاتب الكوميدي لاري ديفيد. أحببته وأحببت كل تفصيلة من تفاصيل منتوجه “أكبح شغفك Curb Your Enthusiasm” وهو مسلسل كوميدي تدور أحداثه حول حياة لاري ديفيد نفسه. المسلسل يحكي عبره لاري ديفيد، التفاصيل الأعتيادية لحياة “لاري ديفيد”. الشيء الذي وصفه لاكان ب “الخصاء الرمزي Symbolic Castration” يعود هنا بصورة معكوسة: الخصاء الرمزي في النظرية اللاكانية هي موقع الشخص “الأنا” في الفضاء الرمزي، الأستاذ مثلا، أو الطبيب، أو القائد السياسي، له موقع يشغله “كشخص أو أنا” في الفضاء الرمزي مختلف عن موقعه كشخص بالنسبة لنفسه. تخيل مثلا أن تلاقي مارتن لوثر كينغ في الواقع، أنت ستقف له أحتراما، أو ستكرهه بشده، حسب موقفك من “أسمه”. أما مارتن لوثر كينغ نفسه، مع زوجته مثلا أو مع أبناءه، فهو شخص أخر. الأب هو أول أنواع الخصاء الرمزي. للأب موقع رمزي معين يجبره على التصرف بطريقة معينة. أذا قادتك الصدفة لأن ترى أباك يضحك ببلاهة مع أصدقائه مثلا فأنت كإبن لن يكون بأمكانك إلا أن لا تعرفه. لأن هيكل علاقة الأب/الأبن هو في داخل الرمز.
في المسلسل في المقابل، ف “لاري ديفيد” كرمز يظهر في شكل الشخص العادي، المضحك، وغير المثير للإهتمام فعلا، فيما عدا التسلية. و لاري ديفيد الكاتب الأسطورة في الحقيقة يتحول هو نفسه لتلاقي غريب بين الأنا و الرمز. في واحدة من المقابلات يعلق لاري ديفيد: الشخص في المسلسل، بصراحته المبالغ فيها، عدم لباقته، كرهه للطقوس الإجتماعية، هو الحقيقة، أما أنا في حياتي اليومية كلاري ديفيد فأنا أمثل فقط. موضوع الكوميديا إذن هو ليس أحد الإثنين، بل الفراغ بينهما: التناقض بين الأنا والرمز. حال ظهوره فهو يظهر كشيء مثير للضحك. أو حتى للبهجة. ما يظنه الواحد منا أنه “هو” كأنا، هو في نفسه شيء مضحك. التحرر هنا هو ليس في تصوير لاري ديفيك لحياته “كما كان يجب أن تكون” بل في توضيحه لبلاهة التعلق بالأنا. أو بالرمز. ببلاهة التعلق بكلاهما. الملك الذي يظن نفسه فعلا “ملك” هو مجنون يقول لاكان.. يكمل لاري ديفيد: وكذلك الذي يظن أنه مجرد رجل عادي. وبذلك تغلق الكوميديا السلسلة الجدلية ك Suture. حسب التعبير اللاكاني.
قادتني المعرفة بلاري ديفيد، لنتيجة حتمية، وهي التعرف على رفيقه وصديقه جيري ساينفيلد: بدأت العلاقة بين الإثنين قبل قرابة الأربعين عاما، يهوديان في نيويورك يقومان بتقديم عروض كوميدية Standup Comedy في أندية مختلفة في المدينة. في البداية كان جيري ساينفيلد هو النجم. ككوميدي ناجح. بينما دفعت غرابة لاري ديفيد المبالغ فيها به لنوع أو أخر من الفشل. ما لم يلحظه العامة رآه جيري ساينفلد. ونوع من ال Inter-Subjectivity، التكامل، أو التعارض، أو الصداقة، دفع الفنانين للقيام بقفزة غير متوقعه أنتجت أهم عمل كوميدي أمريكي في التسعينات. المسلسل Seinfeld يوضح من أسمه أسبقية جيري على لاري في هذه المعادلة. رغم ذلك قام لاري من وراء الستار ككاتب رئيسي بإنتاج كل التفاصيل الكوميدية التي شارك في كتابتها ثم تمثيلها جيري فحملت اسمه. المسلسل كان كذلك عن “جيري ساينفلد” كبطل لقصة يمثل فيها نفسه. لكن في ساينفلد يظهر بوضوح أن الشخص داخل المسلسل ليس له علاقة بالشخص خارجه. لم تكتمل لمسة لاري ديفيد الفنية إلا بعملية الإعادة. وهي عملية أساسية في أي هيكل نظري: لن يكون من الممكن أنتاج Curb Your Enthusiasm إلا بإعادة لنفس العملية التي انتجت النسخة الفاشلة Seinfeld. مثلما نقول دائما لن يكون بالإمكان إنتاج الحزب الشيوعي الأفريقي إلا بإعادة عملية إنتاج الحزب الشيوعي السوداني. لن تنجح ثورة أكتوبر (السودانية والروسية) إلا بعملية إعادة إنتاجها. “الخطأ” هو جزء من الصحيح. لكنه لن يكون جزءا من صحيح إلا بعملية إعداته. ما يسمى عادة ب “التعلم من الخطأ” هو في الحقيقة “الخطأ” مجردا من أي إمكانية. الشخص يعرف أنه “لم يجرب الحب أصلا” عندما يعرف أنه لا يريد أن “يعيده”. ليس هنالك في المقابل أجمل من تجربة حب نفس الشخص “مرتين”.
كنت قد وصلت لتقرير نهائي بأن جيري ساينفلد هو مجرد جزء من قصة جميلة اسمها “لاري ديفيد”. لكن الكاتب والممثل المبالغ في غروره فاجأني قبل فترة قصيرة بجملة أعجبتني لحد الهيام بها. سأله المقدم مرة: كيف ترى الحياة في لوس أنجلوس. رد جيري: “أنا اشعر بأنني في رحلة إمتدت عشرين عاما.. مدينتي هي نيويورك، هناك توجد الكوميديا.. في لوس انجلوس لا يمكن للشخص أن يكون ظريفا .. هنالك شيء في نيويورك ضد الحياة، والكوميديا هي مقاومة لذلك الشيء، لتقول شيئا مضحكا لابد من أن توجد هذه السلبية. لا يمكن أن توجد كوميديا بدون وجود هذه السلبية، كشيء يدفع ضدها، في هاوايي مثلا حيث الكل سعيد والطبيعة خلابة لا يمكن أن توجد كوميديا”. وفي الحقيقة ما قاله جيري يرتقي لمستوى النظرية: الكتابة هي عملية مقاومة لوجود مضاد للحياة. في الأوضاع البائسة للشعوب غير النامية، بلغة مغفلي التنمية، توجد الكتابة. في هاوايي لا أحد سيكتب أي شيء. في خلال فترة كتابتي لهذا المقال، راودني حلم غريب. للقاريء غير الملم بخلفية الحلم سأحكي التفاصيل التالية (دعنا نتذكر دائما، أن عبد الله علي ابراهيم قد أثبت قبل فترة طويلة أن الكتابة هي بالتعريف نوع من انواع الرواية لقصة حياة ما): كان كاتب المقال قد غادر السودان في حوالي العام ٢٠١٦، منذ وقتها لم تتح لي فرصة العودة. و الحقيقة لم يمثل هذا الأمر مشكلة كبيرة بالنسبة لي. في الولايات المتحدة، البلاد التي تموت من شدة البرد حيتانها، انهمكت، من ضمن أشياء أخرى، في مسيرة تعليمية كثيفة، خضتها في أغلب الأحيان في أطار من العزلة التي أتقن بطبعي التعامل معها. وحتى لا يظن القارئ أن هذه المساحة هي بكائية فعلي أن أضيف بأنني أتقن كذلك الاستمتاع بها. في الحلم رغم ذلك تدور التفاصيل التالية: أعود لأرض الوطن، أذهب مباشرة لمقابلة الصديق إبراهيم عبد الغني، الذي هو بالمناسبة ليس أخد أفضل كاتبي القصة الذين قابلتهم في حياتي، بل وكذلك أحد أكثر الناس الذين لا تمل من الحديث معهم رغم أنه يرد كل عشرة دقائق بكلمة واحدة أو أقل. في الحلم لا يتذكر إبراهيم من هو أنا. رغم كل محاولاتي لذكيره، الكوميديا السوداء تستمر عندما تنضم زوجته فداء للمشهد فأحاول تذكيرها، وهي كانت أخر شخص من أصدقائي ألاقيه قبل المغادرة نتيجة لتفاصيل أخرى مضحكة أفضل تخطيها هنا. فداء لا تتذكر. وكذلك صديق أخر أعزه جدا. أفكر في أن الوحيد الذي سيتذكرني هو جاري عمرو حسن، فأبحث عنه بلا جدوى. هنا أستيقظ. بشعور هو خليط من الإرهاق والصدمة. والكتابة في هذا الإطار، هي نوع من المقاومة: ضد هذا الخطر الدائم بالنسيان، التهديد المستمر للذات بالإضمحلال في أي لحظة في غياهب الموت، الرغبة التي هي الخوف من الفقد، في هذا الإطار تكون الكتابة ممكنة. وفي هذا الإطار فإن كل تحديد رمزي للكتابة كأسلوب، تعبير، هيكل، مقدمة، نهاية، إلخ من البلاهات التي روج لها جورج أورويل مرة، غير ذي معنى. مثلما ينتمي الحلم في التحليل النفسي اللاكاني لإطار “الحقيقي” والذي هو ذلك الشيء العصي على الترميز. فإن الكتابة في مصدرها هي نتاج لجدل بين الحقيقي والوعي. وبذلك فهي بالتعريف عمل أبداعي غير خاضع لأي معيار خارجي. والكتابة في هذا الإطار هي مكتوب بلا قاريء. كل ما ينتج عنها خارجيا هو تأثير جانبي ليس على الكاتب أن يتنبأ به أو أن يخطط له.
كان المثقف السوداني الحديث الأول معاوية محمد نور قد مر بتجربة غاية في الغرابة: كتب هو في فترة “انتاجه” قصة قصيرة عن مثقف يصاب بالجنون في إطار استكشافه للمعرفة. ثم أصيب معاوية نور نفسه بالجنون لاحقا. يمكن طبعا أن نعتبر أن ذلك مجرد مصادفة. لكن كذلك يمكن فهم الأمر في السياق التالي: المعرفة في إطار العقل الحديث (أو فلنقل الغربي) هي المعرفة في رواقات المؤسسة الفكرية الموجودة سلفا. أن تكون مثقفا هو أن تعرف ما كان مكتوبا مسبقا. ثم تضيف عليه. لكن، المعرفة في إطارها المجرد هي عملية الدخول في مجال لم يسبق طرقه، إطار لم يوجد منذ مدة طويلة إلا في سياق حالة ما بعد الإستعمار، حيث توجد الرغبة في المعرفة، ولكن بلا وجود مؤسسة الفكر الكثيفة. في هذا الإطار فقط، تظهر المعرفة بشكلها المجرد كنوع أو أخر من أنواع الجنون. فالقديم ما عاد يعمل والجديد لم يولد بعد. ربما دفع معاوية ثمن عدم فهمه للقصة التي كتبها هو نفسه: في أفريقيا تشير حالات عديدة، من ضمنها حالة حركات مثل جيش الرب، أو أحداث مثل مجازر رواندا، أو حتى في أسيا تشير ظواهر مثل بول بوت، إلى أن جدل التحديث يمكن تلخيصه في العلاقة ليس بين (الوجود، والعدم) ، أو (الوجود، والوقت) إلخ مثل الحالة الثقافية التي ينتجها الكانون الغربي (لاحظ حتى أن ما يمكن رؤيته كجنون في الإطار الغربي “النازية” يظهر فيها بوضوح الشكل الهيكلي العلمي للعملية المنظمة، معسكرات الإعتقال كمصانع للقتل، الآلة الإعلامية النازية كعملية هندسة إجتماعية، القنبلة النووية كعملية استراتيجية محسوبة إلخ) … بل فإن جدل الحداثة في إطاره النقي، العالم ثالثي، يظهر كجدل الوجود، والجنون. وذلك ليس خطأ، المعرفة، في إطار الحداثة الحقة، تنتمي للحقيقي وليس الرمزي. وبالتالي فإن عملية المعرفة نفسها هي عملية جنونية. وفي هذا الإطار يمكن قلب الأمور لتظهر على حقيقتها (على نسق مقولة بيرتولي بريخت “عملية سرقة البنك أقل اجراما من عملية بنائه”): كل مشارك في مجازر رواندا هو أقل جنونا من العالِم الذي قام بالتنظير لبناء القنبلة النووية.
٢. القراءة: أقرأ بسم ربك الذي خلق..
تأسست البؤرة الاستعمارية المسمى بكلية غردون بيننا على أسبقية القراءة على التفكير. أو التقنية على الإبداع. لذلك مثلا لم يقرأ بين جدرانها كلام الاستاذ الجامعي الألماني هايدجر “حول التساؤل عن التقنية؟”. ولذلك لم يسمح فيها بأن توجد المعارف السماعية للسودانيين. دي معارف سماعية ساكت. ولذلك حكى عبد الله علي ابراهيم في مقاله “حالة اللا بايوغرافيا” عن مثقف أفريقي ما، ألقى بكل الكتب الغربية، التي كان يحملها معه في سفينة أثناء رحلة عودته لأفريقيا، ألقى بها لا مباليا إلى البحر. ترميزا لبداية معركة كثيفة ضد الكتب في حد ذاتها، وليس قراءة الكتاب الغربي فقط، في رأيي. نظرية المعرفة المتوفرة لنا حتى الآن تضع الأمور كلها في إطار معكوس: قراءة – تفكير – كتابة. هذا التتابع يجعل من العقل تابعا لما هو خارجه. وبالتالي فهي جزء من عملية إخضاع للذات أمام التقنية. للإبداع أمام الصرامة. للجمال التلقائي أمام الهيكل. هذه العملية هي جزء من عملية تحويل الإنسان لأداة. مثلما يتبع العامل في المصنع للآلة، فإن المثقف في هذه الحالة يتبع للمكتبة. جحافل من الأجساد الميتة دخلت عبر هذه العملية لأرض الثقافة كآلات للتكرار، وفي بعض الأحيان كمهرجين يرقصون أمام سلالم الترقي الأكاديمي. ولم ينطق أحدهم، حتى الآن بأي حقيقة. ذلك إذا إعتبرنا أن الحقيقة، و”الجديد” هما شيء واحد. تعرفت في فترة سابقة على شخص كان يدعي أنه قرأ الكتب، وعرفت عبر استلاف أحد الكتب منه (وكان جديدا كأنه لم يلمس) بأنه لم يقرأه، وهو لم يكن كذلك من الذكاء بحيث يجيد التمثيل عموما. هذه الحالة أظن أنها النهاية المنطقية لحالة أعتماد المؤسسة الثقافية على التكرار و “المصادر” كما يسمون: أن يكتشفوا أن القراءة أو عدمها يقودان لنفس النتيجة: الغباء.
في المقابل، فشخص مثل النبي محمد وضع العملية في إطارها الصحيح: الوصول الفردي الشاق للحقيقة ثم القراءة عبرها. الإستنارة داخلية ثم الإستزادة لا تضر: محمد بما يسميه المتدينون العلم اللدني وصل لأحد أعظم المنتوجات الفكرية والأدبية التي عرفتها الإنسانية. وهذه الاستنارة الذاتية، تحرر العقل بالمعرفة التي أنتجها هو، جعلته يبدأ بدعوة الناس للقراءة. المجتمع العربي عموما كان يمر بفترة نهضة حيث تم رفع الإبداع الذاتي لمستوى تعليق ذلك الإنتاج في بطن الكعبة. ألم يتساءل نازيو القراءة بيننا عن مصدر المعلقات؟ في أي جامعة تم تدريس ذلك؟ المعرفة هي منتوج إنساني ذاتي وفردي. وليس عملية حشو خارجي للعقل. المعارف التي يحصدها الواحد منا بالنظر والسمع والمشي والكلام والمراقبة والتساؤل والحيرة والغضب والفرح إلخ من العمليات الذاتية بالغة التعقيد هي المصدر الأساسي للمعرفة. بل إنني أدعي أنه ما لم يكن الإنسان قد وصل ذاتيا إلى فهم جزئي (وإن كان غير منظما) للنظرية الكانتية عن الفينومينولوجيا مثلا، فإنه لن يكون قادرا على فهمها مهما قرأ كانت. إذا تبلد عقل الإنسان في إنظار لحظة نزول المعرفة عليه فجأة خارجيا فإنه سيظل متبلدا إلى الأبد. إذا فقد الإنسان الثقة في عقله، وفي نفسه بالتالي، فهو سيظل طفلا. وبالتالي فيمكنك أن تفهم لماذا يخلوا الفضاء الثقافي الحالي من أي فكرة مثيرة للإهتمام: عملية تحويل الإنسان لآلة تمت على كافة الإصعدة التي يمكن تخيلها. والأداة بالتعريف لا تفكر.
خرج الطيب صالح من جامعة الخرطوم، لكن ليس “خريجا” بل هاربا. وذكر أنه شعر بأنها تخنقه. وبينما كان الطيب صالح محظوظا لهروبه، فإن المجتمع السوداني لم ينج من عملية الخنق. تقضي هذه العملية التدريبية المعتمدة على التبليد الجماعي على أي ذرة ذكاء عند الإنسان. ويزداد غباءا كلما قبل بها وبنظمها. كلما احترم الواحد الكتب زاد احتقاره لنفسه.
من القصص التي يتفنن خريجو كلية غردون في ترديدها هي قصة رسالة الخليفة عبد اللهي الى الملكة فكتوريا “اسلمي تسلمي، فإن قبلت الدخول في الاسلام زوجناك ابننا يوسف ود الدكيم”. وهذه القصة عند النخبة كالنجم ينير لهم الطريق، فهي لا تفسر فقط حالهم هم اليوم، كأبناء لمثل هذا المغفل، بل تفسر كذلك حال المغفل نفسه. وهي قصة مختلقة بالطبع. تروج في مجتمع يقدس القراءة والأكاديميا، فلا يفكر ولا يقرأ. ولكنني ظننت أن العقل حال تحرره كان يمكنه التعامل مع هذه القصة حتى بدون التحري الأكاديمي خلفها. فالعقل الحر يستطيع أن يرى التاريخ في شكله الكامل، كما هو، وليس التاريخ الخيالي للإستعمار (ملكة بريطانيا كشيء عظيم). في الإطار الحقيقي للتاريخ فحتى هذه القصة المزورة ليست بذلك السوء: أولا هي رد على إمرأة تدعي أنها ملكة، فهي بذلك مهرجة بالتعريف، ثم إذا أخذنا مسألة الزواج نفسها، فيجب أن نتذكر أن الأسر الحاكمة في أوروبا كانت من البلاهة، في محاولة الحفاظ على نقاء الدم الملكي، حتى أنها أجبرت ابناءها على الزواج حصرا من بني عمومتهم، وفي أحدى الحالات في أسبانيا (وهي اسرة مرتبطة نسبا بأسرة الملكة فكتوريا) تزوج العم من أبنة أخيه. في إطار سخيف كهذا يمكن فعلا القول بأن يوسف ود دكيم كان سيكون ترقيا. وبالفعل.
المشكلة هنا هي أن بحثي عن تاريخ فكتوريا لم يسبق تفكيري في هذا البحث. هذا عمل أنا قمت به واعيا. أما إذا سرت في درب المعرفة كتلقي وتبعية لما هو موجود فعلا فإحتمالية التحرر مما يكبل العقل ستقل وليس العكس. أنت لا ترى لوحات محمد عبد الرسول جميلة لأنها جميلة في ذاتها، بل لأنك تقابل فيها ما كنت تبحث عنه دائما. عملية القتل المنهجية لأطر التعلم الحقيقي وهي تربية ثقة الفرد في عقله وذاته، هي عملية استعمارية لا تقل قسوة عن أي عملية تحكم أستعمارية أخرى.
ليس من المصادفة أن الطيب صالح، وليس أحد غيره، كان أبدع علم التحرر الذهني من الاستعمار. ولا يمكن فهم موسم الهجرة إلى الشمال إلا في إطار هذا العلم الدقيق. (وأقول بأن التحرر من الاستعمار هو التحرر عموما، فالإستعمار كمشكلة هو مجرد تجسد للشيء العام، وجهه، والشيء العام هنا هو جدل العقل والموت، يحتاج العقل عموما لخطوة “التجرؤ” قال كانت قديما، لأن التفكير الحق هو تحرر من الخوف من الموت، ولهذا الموت أشكال عدة أحدها الهيكل الاستعماري للمعرفة الخصية). سار الطيب صالح في هذا الطريق بإعادة أكتشافه لنفسه، لعقله، بعمليات عدة وصف أحدها بأنه تعلق بالمتنبي أنقذه. لذلك كانت له ثقة مدهشة: أتذكر دائما دهشتي (ككاتب) من مقولة الطيب صالح “كنت لا أئبه لتبخر أفكاري في الفضاء كدخان السجائر”. هذه النزعة تتأتى لشخص عرف نفسه جيدا، حتى وثق بها، فبدأ يكتب في مسار من الخلاص وليس الخوف. محمود محمد طه تكلم مرة عن الحياة بين موتين. أو الحياة في اللحظة الحاضرة وعيا وجسارة، بلا حنين/تقيد بالماضي، ولا خوف/ترقب للمستقبل. هذه الحياة هي العقل الحر. وهذا العقل هو مصدر المعرفة. أو كما قال شاعر ما: لقد استعيدت الأبدية.. هي البحر وقد أختلط بالشمس.
حان وقت إلقاء الكتب (والجامعة الخراب) إلى جوف البحر.
محمود المعتصم
تم نشر المقال على صحيفة مداميك الإلكترونية بتاريخ ١٦ سبتمبر ٢٠٢٢